ثمة تناقضات أيديولوجية حادة أربكت فكر النهضة العربية ولا تزال إلى الآن تهيمن على الفكر العربي المعاصر، بل إنها في المرحلة الراهنة تتجه نحو المزيد من التعقيد والعنف والقطيعة. ولعل في صدور الأعداد الكبيرة من المؤلفات والدراسات والمقالات في الدوريات والصحف العربية تحت عناوين الأصالة والمعاصرة، والشورى والديمقراطية، والدين والعلمنة، والعقل والنقل، والعرب والغرب، دلالة واضحة على تجذر الطرح الإشكالي واحتدامه. الأمر الذي بات يتطلب مراجعة نقدية تذهب إلى جذور الإشكال التاريخي، وتؤدي في خاتمة المطاف إلى الخروج من الحلقة المفرغة التي لا تزال تحاصر الفكر العربي.
على هذه الخلفية يأتي كتاب عبدالله العليان "أكاديميون ومفكرون عرفتهم، قراءات ومحاورات وانطباعات" منتدى المعارف (بيروت 2020)، إضاءة شاملة تميزت بالرصانة والموضوعية في التصدَي للإشكال الحضاري المزمن، جهد المؤلف على أساسها للإحاطة بفكرنا العربي المعاصر من خلال رموزه الكبرى وأطروحاته المركزية وتناقضاته الأيديولوجية، بغية تكوين صورة أكاديمية دقيقة لمنظورات مفكرينا وآرائهم السياسية والاجتماعية والفلسفية.
في هذا السياق الإشكالي أدرج المؤلف زكي نجيب محمود الذي عاش ردحاً من الزمن في الغرب وانبهر بحضارته في المرحلة الأولى من حياته الفكرية، إذ هي حضارة القوة والعلم والإبداع والمغامرة وتحقيق السيادة على الطبيعة. إلا أنه عاد آخر الأمر تائباً معتذراً، ناقداً آراءه السابقة بقوله: "تمنيت لأمتي في ما سبق أن تكون قطعة من الغرب، لكنني اليوم أريد لها أن تكون أمتي هي أمتي".
وفي مواجهة الذين استنكروا فلسفته الوضعية، ثم تراجعه عنها، رد محمود أن هذه الفلسفة تنحصر في الرؤى الفلسفية المتعلقة بالعلوم، وليس في غيرها من المجالات، كما في الغرب حيث تعرَضت للقضايا اللاهوتية والوجدانية التي لا تدخل في العلوم التجريبية، ويذهب ملائماً بين العلم والإيمان، إلى أن النظرة الصائبة هي التي تجمع بين كل الجوانب التي يتكامل الإنسان بها جميعاً. حتى أنه في سنواته الأخيرة ذهب إلى مراجعة مسلماته في فلسفة الوضعية المنطقية، وكذلك رؤيته إلى التراث، داعياً إلى التجديد من داخله وليس باستجلاب فكر الآخر وثقافته.
نقد الجابري
أما محمد عابد الجابري فقد اختار مشروع نقد العقل العربي بغية دراسة النظم المعرفية في الثقافة العربية الإسلامية، موضحاً أن ما سيهتم به "ليس الأفكار ذاتها، بل الأداة المنتجة لهذه الأفكار"، باعتبار ذلك مدخلاً إلى فهم العرب والنظر إلى واقعهم الحضاري والعوائق الإبستمولوجية التي تواجههم وأسباب تخلفهم. عليه دعا الجابري إلى العودة للتراث كجزء من عملية الدفاع عن الذات، ناعتاً العلمانية بأنها "مسألة مزيفة" يجب أن يستعاض عنها كشعار، بشعاري العقلانية والديمقراطية.
أثار الجابري بأفكاره هذه، ردوداً وانتقادات ونقاشات عند عدد كبير من الباحثين والأكاديميين مثل جورج طرابيشي وفهمي جدعان ومحمد عمارة وطارق البشري وسواهم، فاتهم بالتحريف والتزييف والنظرة التجزيئية، وبعدم إعطاء الأخلاق الدينية المكانة التي تستحقها في تحليلاته. لكن الجابري في سنواته الأخيرة كان أكثر اقتراباً من الفكر الإسلامي، ولا يمكن مقارنته، في رأي المؤلف، بمحمد أركون أو نصر حامد أبو زيد أو سواهما ممن "لهم مشاريعهم الفكرية التي لا تلتقي مع فكر الجابري ونهجه الفكري".
وخاض فهمي جدعان في مفهوم "التقدم" في مؤلفه "أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث"، فرأى أن المفهوم مرتبط بمفهومي التطور والتغيير. الأول هو وليد الفلسفة الداروينية، وهو ذو طابع محايد أخلاقياً ويتصل بالكائن الحي أو البيولوجي، أما التغيير فينصب على التطور الكوني وهو عار عن كل مضمون أخلاقي. من هنا وقف جدعان موقفاً نقدياً من الليبرالية التي هي صيغة جديدة محدثة من الداروينية التي تقدّس الفردانية وتغلّب القوي وتسحق الضعيف، والتي لا يمكن أن تكون الصيغة الملائمة للعرب في الإصلاح والتقدم. وقد رفض مقولة نقد العقل العربي الجابرية، فالخلل والعطب، في رأيه، ليسا في العقل العربي، بل إن النقد يجب أن يوجه إلى "الفعل"، فالعقل دوره دور الخادم للغايات المسوغ للرغبات. يختلف طه عبد الرحمن مع جدعان، إذ يرى أن روح الحداثة كمصطلح ليست دائماً من صنع الغرب، وليست ملكاً لأمة بعينها بل هي ملك لكل أمة متحضرة. كما يختلف مع الجابري في مقولته الزاعمة أن "العرب لم يدفنوا بعد أباهم أردشير"، في إشارة إلى أخلاق الطاعة الفارسية. الأمر الذي تنقضه الحركات الثورية التي عرفها العرب في تاريخهم القديم والحديث.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حرية الفكر
برهان غليون المعارض للاستبداد والشمولية الرافضة للتعدد والتنوع، رأى أن الأنظمة العربية تركزت على الأيديولوجيا والدعاية من دون خطط واستراتيجيات، حارمة الحركة القومية من منبعين للتغيير: الفكر وحرية الفكر، ما أدى إلى تحكم النفوذ الغربي بالمنطقة العربية. ورد على الذين يتهمون الدين في تأخر العرب التاريخي، بأن المسؤول ليس الدين بل السياسة والقيادة التي أخذت على عاتقها مهام التوزيع والاستثمار والإدارة في المجتمع.
لمحمد جابر الأنصاري رؤية مختلفة لأزمة العرب السياسية. فالعرب في رأيه لم يعرفوا الديمقراطية ولم يقتربوا منها، شغلتهم خلافاتهم القبلية الدائمة عن النهوض والتطور في العصور المختلفة. ما يرفضه المؤلف، الذي رأى أن الإسلام استطاع أن يفكك القبيلة ويدمجها ويغير العقلية الجاهلية إلى عقلية تؤمن بالحوار وتقبل الآخر وترفض الظلم والاستبداد، بينما انهارت النظم الماركسية في أوروبا الشرقية في حين أن القبلية لا وجود لها هناك.
يمثل الكتاب جهداً رصيناً ينم عن مقدرة بحثية رزينة، ويحثنا على إعادة قراءة فكرنا المعاصر بكل تياراته، ومن دون اجتزاء مخل أو تأويلات أيديولوجية مضللة.