رفع الاتحاد الأفريقي في القمة الأفريقية العادية الـ 34 خلال يومي السادس والسابع من فبراير (شباط) الحالي، شعار العام 2021 "الفنون والثقافة والتراث: أداة لبناء أفريقيا التي نريدها"، في وجه مشكلات القارة الأكثر إلحاحاً، والتي يتصدرها الإرهاب وسد النهضة الإثيوبي، بينما لا يزال شعار العام الماضي "إسكات البنادق" وما قبله من شعارات الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي تعوق تحقيقها أزمات القارة المتراكمة، وضرورة الإصلاح الهيكلي للاتحاد نفسه.
شعارات براقة
لا تزال أهداف الاتحاد الأفريقي المقرونة بالتحديات موضع تساؤل حول مقدرته على مجابهتها، وأن ما جاءت به من أجل التعاون والاندماج الاقتصادي على أساس التحول الديمقراطي في معظم دول القارة تكتنفه عوائق تضع العمل على تنفيذ مشاريع وأجندة أفريقيا على المدى الطويل بحسب رؤية 2063، على فوهة اختبار.
جرّب الاتحاد الأفريقي شعارات قوية وبراقة، وقد عالجت شعارات الدورات الماضية قضايا اقتصادية مثل الأمن الغذائي والاستثمار في طاقات الشباب ومكافحة الفساد، واجتماعية مثل تمكين المرأة وحقوق الإنسان وقضايا اللاجئين والمشردين، وأقربها كان شعار العام الماضي "إسكات البنادق"، ولكن أزمات القارة والصراعات والنزاعات ظلت مستمرة، مما يرجح استمرار هذا الشعار لسنوات مقبلة، على الرغم من كل الجهود المبذولة لإيقافها. واتخذ الشعار أهمية باعتماده من مجلس الأمن الدولي لجعل أفريقيا منطقة خالية من النزاعات، مثلما اعتمد المجتمع الدولي شعار مكافحة الإرهاب والذي يتناغم مع التوجه العالمي. وإضافة إلى ضرورة إتاحة الوقت الكافي الذي تحتاجه هذه الشعارات لتنفيذها، تحتاج أيضاً إلى تحديد الشعار المناسب للمرحلة الحالية، واختار الاتحاد موضوع ترقية الثقافة والفنون في بلدان الاتحاد الأفريقي وحفظ تراثها والتبادل الثقافي في ما بينها بغرض مساهمته في النمو الاقتصادي.
صحيح أن للثقافة والفنون دوراً في الكفاح التحرري في أفريقيا وكذلك التراث الأفريقي القديم، وما ارتبط منه بالحركة السياسية والنضال ضد الاستعمار إلى حين استقلال معظم الدول الأفريقية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مما جعله يكتسب بمرور الزمن قيمة إضافية، إلا أن تنفيذ الشعار يحتاج إلى تفاعل ثقافي وإقليمي ودولي، وحركة فنية تبدو صعبة في ظل الاحترازات الصحية التي فرضتها جائحة كورونا، وهي التي عطلت عدداً من مؤتمرات الاتحاد الأفريقي، وحالت من دون تنفيذ مشاريعها، كما عطلت كل الفعاليات المصاحبة، مما سيكون له تأثير في قطاع الفنون والثقافة والتراث، كما أن أي عمل فني مهما قلّت قيمته يحتاج إلى أكثر من عام حتى يرى النور، فكيف بمشروع 55 دولة مشتركة.
تنظيم سياسي تقليدي
تنبع خصوصية التراث الأفريقي من أنه يدخل كأحد أشكال التنظيم السياسي، فإضافة إلى احتوائه على قيمة جمالية ودينية وأخلاقية، هناك قيم سياسية يعتمد عليها في التراتب الهرمي، الذي يبدأ من كبير العائلة إلى زعيم القبيلة والعشيرة والقرية التي هو حاكمها، وهذا الشكل من الترتيب السياسي التقليدي ظل سائداً منذ قبل الاستعمار، إذ كان لمعظم المجتمعات الأفريقية مجلس يتكون من رئيس ومعاونين وقادة دينيين يضعون الضوابط والمعايير للالتزام بالقيم السياسية على أنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالقيم الدينية والاجتماعية والأخلاقية، وضرورة احترامها من كل فرد في المؤسسة. وعلى الرغم من أن الأنظمة السياسية الأفريقية علمانية في معظمها، إلا أنه لا تزال لرجل الدين المسلم أو المسيحي أو الروحاني سطوته وتأثيره.
أثّرت هذه التوجهات في إنجاز مشروع الديمقراطية بشكل كامل، ولكن وُضع تصور لنموذج توفيقي بين السلطة ورجال الدين، وهناك جانب آخر وهو أن المجتمع الأفريقي التقليدي تسوده القيم الاقتصادية بمفهومها التعاوني، وتبرزها نشاطات اقتصادية مثل الزراعة والرعي والصيد وأعمال النفير، وهي المساهمة الجماعية في عمل ما من أجل المساعدة فقط، ومن دون أن يترتب عليه مقابل مادي.
وهكذا يمكننا إدراج هذه القيم التراثية في مقابل التراث المادي الذي يتمثل في الأشكال الفنية التي تظهر من خلال الموسيقى التقليدية والرقص الذي يميز كل قبيلة عن الأخرى، وذلك كله يمتزج بالنشاطات الاقتصادية، كما يتجلى في الطقوس الدينية المثبتة على جدران المعابد أو الروحانية السائدة حتى اليوم. وهذه الصورة الإيجابية تقابلها صورة أخرى، وهي أن ممارسة هذه الفنون تكون في حالات الحرب والنزاعات بين القبائل، مثلما تكون في حالات السِلم، فللموت طقوس مثلما للميلاد، ولحل النزاعات المجتمعية وتحدياتها يأمل الاتحاد الأفريقي الاستفادة من هذا التراث الكامن والممتلكات الثقافية بكل تناقضاتها، باستدعاء الذاكرة الجماعية لتعزيز الجهود المبذولة لتلبية حاجات القارة الأساسية في مجالات التنمية والصحة والتعليم والسلام، والتي بدت مستعصية على مدى تاريخها السياسي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سلوك سياسي
وعلى الرغم من أن المجال السياسي الأفريقي يتمتع بديناميكية وجذور تاريخية ظهرت في المجتمع الأفريقي بوصفه مجتمعاً سياسياً، إلا أن نداء العودة إلى التراث الأفريقي يلفت إلى التساؤل عن ماهية السلوك السياسي الأفريقي الحقيقي، وهل بإمكان دول القارة المُشكّلة حديثاً لعب دور في إنجاز عملية التحول الديمقراطي وفقاً لشروط الليبرالية الغربية؟
ظل الأدب السياسي في فترة النضال ضد الاستعمار يضع اللوم في هشاشة الدولة على بقاء الدول الأفريقية في ظل الدول المستعمرة حتى بعد استقلالها، وأن هياكل الدولة الاستبدادية هي في الأساس صناعة استعمارية، بينما تجادل آراء أخرى بأن الفساد والتقليد في تكوين الحركات المتمردة على نسق القوات التابعة للدول المستعمِرة هو تعبير عن دونية، إذ لم تلتزم الدول الأفريقية بوضعها التقليدي في محاربة الاستعمار، وإنما استلفت من أدواته لمحاربته، بينما ترتكز على ثقافة سياسية راسخة برزت في تاريخ النضال الشعبي للتحرر وأخرى من أجل إشاعة حقوقهم الإنسانية، وهي ما عملت على بناء نوع من التكامل الإقليمي والتعاون الاقتصادي بين الدول الأفريقية في فترة ما بعد الاستعمار، وأسهمت بدورها في تخفيف حدة الفقر إلى حين تكوين الدولة القومية، ثم ظهور أمراض اقتصادية وسياسية أخرى مثل الفساد والتخلف الاقتصادي واستمرار الحروب الأهلية التي أعادت الفقر إلى وتيرته الأولى.
من الواضح أن المجال السياسي لا يتشكل أو يرتبط فقط على مستوى الدولة الأفريقية، فبالحديث عن هذه الأزمات ترجع إلى أن من هم في سدة الحكم في الغالب غير مؤهلين أكاديمياً، ومنهم من استولوا على السلطة بانقلابات عسكرية، ومعلوم الجفاء بين طبقة العسكر والنخبة المتعلمة، بينما يرجع البعض أن حكم النخبة غير واقعي، ويعتمد على التنظير السياسي عوضاً عن الممارسة السياسية التي لا تتوفر إلا لمن دخل هذا المجال باكراً.
خطر كامن
وتتقدم أفريقيا خطوة في طريق الإصلاح السياسي، ولكن هناك عوامل تجرها خطوات إلى الوراء، على رأسها الصراعات التي تمثل الخطر الكامن في وضعية اللااستقرار الشاملة. هذه الوضعية شكلت النظرة الغامضة إلى القارة المفتوحة على مستقبل غير معلوم، وينبع السؤال حول مدى قدرة الاتحاد الأفريقي في التعامل مع هذا التحدي الذي فاقم منه البُعد الأمني، وهو خطر نابع من الداخل إذا ما تفاقمت الصراعات إلى حد يؤدي إلى الانهيار الذي ستكون له تأثيرات كبيرة على الأمن الإقليمي والعالمي، لذا تضع الدول الكبرى هذه الهواجس في يد الاتحاد الأفريقي من غير تزويده بمعطيات الحلول، فلا زال الغرب ينظر إلى أفريقيا على أنها أساس مشكلات اللاجئين وتصدير الإرهاب الذي يتخذ أشكالاً عدة، وهي الإرهاب المحلي الذي تقوم به جماعات إرهابية في نطاق الدولة المعينة، ويمتد في أحيان كثيرة بين الدول الأفريقية مستغلاً الظروف الأمنية غير المستقرة والحدود المفتوحة، ليتطور إلى نوعٍ آخر هو الإرهاب الإقليمي، وهو ما تعانيه معظم أجزاء القارة في شرقها وغربها ووسطها، وترتبط أنواع الإرهاب كلها بتنظيمات دولية مثل "القاعدة" و"داعش".
وعلى عكس مناطق أخرى في العالم، فعندما ينسحب منها الاستعمار نجده يخلق فيها فراغاً جيوسياسياً واسعاً، إلا أن أفريقيا لم تتواءم يوماً في تاريخها مع المستعمر، ولكنها ظلت تحتضن بذور الأزمات والنزاعات المعقدة في وجوده وبعد انسحابه، خصوصاً مشكلات الإثنيات وتصاعدها، وهو إرث تاريخي أنتج كثيراً من الأزمات الأخرى التي فاقمت تأثيراتها الخطيرة استقرار القارة، فأفريقيا على الرغم من التقسيم السياسي، إلا أن التقسيمات الإثنية هي التي تشكّل الواقع السياسي كما شكّلت حال التدهور الشامل المتعلقة بالاختلال في التوازنات الاقتصادية.
أما دور الاتحاد الأفريقي في قضية سد النهضة، فيبدو أنّه لم يتجاوز مرحلة التمنيات بأن يُسمح له بلعب دور أكبر لحل الأزمة، وهو الدور الذي يسعى إليه السودان باعتباره توفيقياً، وتسعى إليه إثيوبيا على أمل أن يلبي شروطها، بينما ترى مصر ضرورة صياغة اتفاق قانوني مُلزم يتعهد الاتحاد الأفريقي بتنفيذه، وهو ما لا قبل له به.
تعتمد الثقافة السياسية في أفريقيا على المجتمع المحلي والاعتقاد بتشابكات التراث الثقافي الذي يجعل التكوينات السياسية مسؤولة عن هذا الإرث والارتباط به، أما الوفاء لهذا التراث فهو تقليد فلسفي يُعتقد أنه يمكن أن يحقق النمو والتقدم الاقتصادي والاستقرار السياسي.