تشابكت أحداث الأيام القليلة الماضية حول موسكو، لتنسج مفردات صورة أقرب إلى القتامة في علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، في توقيت كان ثمة من يتوقع انفراجة مع الولايات المتحدة على وقع ما توصل إليه الجانبان في شأن اتفاقيات الحد من التسلح. وجاءت زيارة جوزيب بوريل مفوض الشؤون الخارجية إلى موسكو لتزيد الموقف تعقيداً في ضوء ما واكبها من طرد ثلاثة من الدبلوماسيين الأوروبيين، ردّت عليه بلدانهم بالمثل. وهو ما بدا متعمداً من الجانب الروسي لأسباب أماط اللثام عن بعض ما كان يكتنفها من غموض.
البداية حدّد ملامحها ما نشب من خلافات داخل الأسرة الأوروبية قبيل انطلاق بوريل في زيارته الأولى إلى موسكو في أعقاب احتدام الموقف الناجم عن اعتقال المعارض الروسي ألكسي نافالني بعد عودته من ألمانيا، وكان جرى نقله إليها بعد حادث "تسمم" تعرض له في أغسطس (آب) الماضي. ومن بين أعضاء الاتحاد الأوروبي مَن يري عدم ضرورة القيام بمثل هذه الزيارة في مثل هذا التوقيت، ومنهم بولندا ورومانيا وبلدان البلطيق الثلاثة التي تتعارض توجهاتها مع سياسات موسكو. فيما كانت ألمانيا وهولندا وفرنسا ترى إتمامها في إطار رغبتها في استئناف التعاون مع روسيا. وهي التي كان لها من كل ذلك رأي آخر، في توقيت تتخذ كل من النمسا والمجر وإيطاليا موقفاً يتسم بالحياد الذي يقترب من تأييدها للتواصل والتعاون مع موسكو.
ولم يتأخر الوقت طويلاً للحكم على مدى احتمالات نجاح زيارة بوريل ومباحثاته مع الجانب الروسي، إذ ساهمت خطواته الأولى وما أقدم عليه من لقاء مع ممثلي منظمات المجتمع المدني في موسكو، في احتدام التوتر الذي زاد من حدته ما أصدره من تصريحات قال فيها إن "الاتحاد الأوروبي هو من يرعى، وسيظل الراعي الأكبر لمشاريع المجتمع المدني في روسيا"، ما يعني أنه "أوضح لموسكو أن الاتحاد الأوروبي سيواصل التدخل في شؤونها الداخلية، بما في ذلك من خلال رعاية معارضي الحكومة الروسية"، وفق جيفورج ميرزايان المعلق السياسي لصحيفة "فزجلياد" الإلكترونية.
ولم تكتفِ بلدان الاتحاد الأوروبي بمثل هذه المواقف والتصريحات الاستفزازية، إذ رفدتها بإيفاد كل من سفارات ألمانيا والسويد وبولندا مبعوثيها "لمتابعة" التظاهرات "غير المرخص بها" التي خرجت إلى شوارع موسكو بدعوة من أنصار المعارض نافالني. وقد تعمدت موسكو سرعة الرد على مثل هذه الاستفزازات قبل أن يغادر بوريل أراضيها بطرد الدبلوماسيين الثلاثة نظراً إلى "قيامهم بأعمال تتنافى ووضعيتهم الدبلوماسية". وأعلن سيرغي لافروف في مؤتمر صحافي مشترك مع بوريل، عدم عقلانية مثل هذه الإجراءات، التي كان يقصد بها تعمد بوريل لقاء ممثلي منظمات المجتمع المدني ومشاركة الدبلوماسيين الأوروبيين في تظاهرات المعارضة. فيما وصف الاتحاد الأوروبي بـ "الشريك غير الموثوق به".
مقارعة الخصوم
وبات واضحاً أن موسكو عقدت العزم على مواجهة مثل هذه السياسات تحسباً لاحتمالات تصعيدها مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في خريف العام الجاري، وما يبدو واضحاً حول تبني الدوائر الغربية سيناريو بيلاروس الذي تستهدف به الإطاحة بالرئيس بوتين ونظامه بحسب تقديرات سياسيين أوروبيين وروس. وذلك ما علقت عليه صحيفة ""Der Tagesspiegel الألمانية بقولها إن ما حدث إهانة شديدة للاتحاد الأوروبي، وصفته بـ"الغبي"، فيما إشارت إلى أن الاتحاد الأوروبي سيظل عاجزاً عن مواجهة روسيا طالما تستمر الخلافات بين أعضائه. وخلصت الصحيفة إلى أن بوتين نجح في الإيقاع بالاتحاد الأوروبي، وأنه كان مصيباً في تخطيطه لإهانة ممثل الاتحاد الأوروبي، في توقيت كان يسعى إلى التقارب مع الولايات المتحدة وبلوغ ما كان يريده في شأن تمديد فترة معاهدة الحد من الأسلحة الإستراتيجية "ستارت- 3". وبذا يكون بوتين، وفق تقديرات صحافية، فعل كل ما كان يعنّ له، من دون خوف من رد فعل أو عقاب، تأكيداً من جانبه للظهور أمام شعبه والعالم، بأنه قادر على مقارعة خصومه في الداخل والخارج على حد سواء. وذلك في توقيت يستبق موعد الانتخابات البرلمانية المرتقبة التي ستكون المقدمة المدعوة إلى ضبط عقارب الساعة وتهيئة الأجواء اللازمة لإعداد الساحة الروسية إلى ما بعد العام 2024، موعد انتهاء ولايته الرابعة التي لم يقرر بوتين بعد ماذا يمكن أن تكون عليه روسيا بعده.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل ذلك تحديداً ما صار يدركه الخصوم على الجانب الغربي، وما حاول الرد عليه جوزيب بوريل في كلمته التي ألقاها في البرلمان الأوروبي عقب عودته من موسكو. وكان بوريل انتقد موسكو بقوله إنها "تتوجه بشكل أكبر إلى نظام التسلط"، معتبراً أنها "بلا رحمة" و"لم تُبْقِ أي مجال مفتوحاً على الديمقراطية وهيمنة القانون". وأضاف أن "الحوار السياسي مع روسيا وصل إلى حالة الركود"، و"لا تبدي أي اهتمام بإعادة إطلاق العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، وأن الحكومة الروسية تعتبر الديمقراطية الليبرالية "تهديداً جوهرياً"، فضلاً عن أنها "لا تنوي خوض أي مفاوضات بناءة تشمل قضايا حقوق الإنسان".
ذلك، يعني جدية ما تردّد حول تزايد احتمالات أن يتخذ الاجتماع المرتقب لوزراء خارجية بلدان الاتحاد الأوروبي في 22 فبراير (شباط) الجاري قراره حول فرض عقوبات جديدة على موسكو. وهو ما كشف عنه بوريل بقوله إنه "سيتم خلال هذا الاجتماع اتخاذ قرارات في شأن الخطوات التالية. سأتقدم بمقترحات دقيقة من خلال استغلال حقّي في تقديم المبادرة باعتباري مفوضاً سامياً للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية". ومضى يقول، إن الاتحاد الأوروبي يقف على مفترق طرق في ما يخص العلاقات مع روسيا، وعليه "اتخاذ قرار سيحدد ديناميكية القوة في هذا القرن"، أي التوجه نحو التعاون أو المجابهة معها، مؤكداً ضرورة أن "يتجنب الاتحاد الأوروبي مواجهة مستدامة مع موسكو مع ضمان الدعم للمجتمع المدني الروسي".
أما عن العقوبات المحتملة، فيتوقع كثيرون داخل روسيا وخارجها أن ترتبط بمشروع "التيار الشمالي -2" المعلق الذي تعقد المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل عليه كثيراً من آمال تصحيح الأوضاع الاقتصادية لبلادها. وفي هذا الصدد، تقول الشواهد إن ألمانيا تظل عند موقفها المؤيد لاستكمال مشروع "التيار الشمالي-2" ورفضها الضغوط الخارجية التي طالما مارستها الإدارة الأميركية السابقة. وكانت وكالة أنباء "تاس" نقلت عن هايكو ماس وزير الخارجية الألمانية دعوته التي أطلقها في خطابه في البوندستاج الألماني، ونادى فيها بالتفكير في العواقب "الجيوسياسية" المحتملة التي قد تنجم عن رفض الاتحاد الأوروبي استئناف مشروع "التيار الشمالي-2". وحذر وزير الخارجية الألمانية من مغبة التوقف عن هذا المشروع. على أن ذلك لا يعني تخلي ألمانيا عن سابق تأييدها للمعارضة في الداخل الروسي، وهي التي ساهمت وتساهم في دعم نافالني وأنصاره، وشاركت على نحو مباشر في إعداد "الفيلم الوثائقي" سيء الصيت الذي أعده نافالني بمشاركة أميركية قبيل عودته إلى موسكو تحت اسم "قصر بوتين".
وفيما شدّت يوليا نافالنايا، قرينة المعارض الروسي نافالني، الرحال إلى ألمانيا من دون سابق إعلان عن المهمة التي سافرت من أجلها، انطلقت المصادر في محاولة تفسير مثل هذه الخطوة التي جاءت بعد إصدار القضاء الروسي حكمه على زوجها نافالني بالسجن سنتين وثمانية أشهر. وعلى الرغم من محاولة البعض تصوير هذه الخطوة بأنها قد تكون مقدمة لتحول يوليا نافالني إلى مواقع نظيرتها في بيلاروس سفيتلانا تيخانوفسكايا التي تقود المعارضة البلاروسية في الخارج نيابة عن زوجها القابع في سجون مينسك، فإن الشواهد تقول بعدم صحة مثل هذه التقديرات لأسباب كثيرة ليس آخرها أن روسيا ليست بيلاروس.
ماذا بعد بوتين؟
مع ذلك، يظل السؤال "ماذا بعد بوتين؟" هو الهاجس الأكبر الذي يؤرق كثيرين في الداخل والخارج، في توقيت تعترف الأغلبية من الساسة والمراقبين بخلو الساحة السياسية الداخلية الروسية من الشخصيات التي يمكن الالتفاف حولها في مواجهة بوتين. وعلى الرغم من كل الجهود التي تبذلها الدوائر الغربية، ومنها الرئيس الأميركي جو بايدن، للدفع بنافالني إلى صدارة المشهد السياسي، فهي عاجزة عن تحقيق الهدف المنشود.
وعلى الرغم من أن بوتين سبق ولمح إلى احتمالات رحيله في العام 2024، وإن أبقى الباب موارباً أمام بقائه على مقربة، فإن ما تموج به الساحة الداخلية من تيارات "ما تحت السطح"، تبدو قاصرة عن التوصل إلى القول الفصل.
ولعلنا نتذكر ما سبق وقاله الرئيس بوتين في أحد الأفلام الوثائقية التي أُعدت على عجل بعد الإعلان عن "انضمام القرم إلى روسيا" في العام 2014، عن أنه اتخذ قراره في هذا الشأن بمشاركة عدد محدود من الشخصيات القريبة التي لم يكشف عن أي منها، وهم الذين بحسب اعتقاد كثيرين يتولون "مسؤولية تشكيل السياسة الخارجية والداخلية لروسيا". وذلك يعني ضمناً أن بوتين، على الرغم مما يبدو عليه وكأنه "القيصر الأوحد" الذي يهيمن منفرداً على مقاليد الحكم في البلاد، يظل في واقع الأمر ممثلاً لمجموعة أصحاب المصلحة الجماعية، ومنهم أولئك الذين يسمونهم ممثلي أجهزة القوة "السيلوفيكي" من الأمن والاستخبارات والقوات المسلحة ومعهم النيابة والقضاء، إلى جانب كبار رجال الأعمال من المهيمنين على أكبر قطاعات النفط والغاز وأخطرها وغيرها من ثروات الدولة. وتشير الشواهد إلى أن هؤلاء من صاروا يمثلون "الشبكة الأوسع من أصحاب المصالح الذين يريدون البقاء قريباً من السلطة والثروة، بغض النظر عما إذا كان بوتين في السلطة أم لا من جانب، ومن يقفون وراء المحاولات المحمومة التي تبحث عن البديل المناسب الذي يكفل تأمين "الخروج الآمن" للرئيس من جانب آخر، بما يؤمن للبلاد المستقبل الذي تريد، بعيداً من أخطار الانقسامات الداخلية والصراع على السلطة بين أعضاء الفريق الواحد، سعياً وراء الحفاظ على الاستقرار السياسي للدولة، والحيلولة دون تحقيق الدوائر الخارجية مخططاتها الرامية إلى الإطاحة ببوتين وتنفيذ ما تصبو إليه من أحلام الوصول بروسيا إلى ما واجهه الاتحاد السوفياتي السابق من مصير، سبق ووصفه بوتين بأنه "أخطر الكوارث الجيوسياسية في القرن العشرين".