تفاجأ اللبنانيون بارتفاعٍ صاروخي غير مفهوم لأسعار سعر صرف الدولار في السوق السوداء التي أصبحت تتحكم بكل مفاصل الحياة اليومية للمواطن اللبناني، فكلما ارتفع سعر صرف الدولار، فقدت الرواتب والأجور من قيمتها لتزداد معاناة اللبنانيين الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها فقراء، مجردين حتى من حقوقهم بمدخراتهم التي بدورها فقدت أكثر من نصف قيمتها.
وفي أقل من 48 ساعة، وبعد تعطل المساعي الداخلية والخارجية لتشكيل حكومة اختصاصيين، قفز سعر صرف الدولار من 8800 ليرة لبنانية للدولار الواحد، وهو المستوى الذي استقر عليه لأكثر من شهر، إلى مستويات لامست 9500 ليرة.
وتعثر التشكيل ليس بمستجد، كما لم تتغير أساسيات السوق، فالإقفال العام ساري المفعول حتى الساعة في لبنان، أي لا حركة اقتصادية لتغذية طلبٍ غير اعتيادي، لتعود التساؤلات والريبة من مجموعات مضاربة تتحكم في السوق. فماذا يجري في لبنان؟
الارتفاع غير مفاجئ وقد يمتد لسنوات
ارتفاع الدولار في اليومين الماضيين لم يكن مفاجئاً بحسب فادي خلف، الخبير في الأسواق المالية والأمين العام السابق لاتحاد البورصات العربية، فإذا أخذنا في الاعتبار الوضع الاقتصادي والسياسي في البلاد، حيث يصحّ قول أبو نواس "تعجبين من سقمي، صحتي هي العجب"، والمنحى العام للدولار لا يختلف عليه اثنان بأنه منحى تصاعدي قد يمتد للأسف للسنوات المقبلة.
وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن سعر الدولار ارتفع من 1500 ليرة إلى 10000 ليرة ما بين شهري أكتوبر (تشرين الأول) 2019 ويونيو (حزيران) 2020، أي بنسبة 566 في المئة، في فترة لا تتعدى تسعة أشهر، وهذه النسبة من الارتفاع لم يصل إليها الدولار مقابل الليرة في بضعة أشهر حتى خلال الحرب اللبنانية في الثمانينيات، فكان لا بدّ له من الاستراحة لالتقاط الأنفاس قبل معاودة الارتفاع ضمن المنحى العام التصاعدي.
وهذا ما بدأت بوادره تظهر في اليومين الماضيين، أما أي أحداث أخرى وخلافات سياسية اعتدنا عليها وأصبحت من يومياتنا، فهي تأتي كمكمّل للواقع المتردي لسوق القطع في لبنان.
عوامل أخرى
وتتحكم بالسوق السوداء، بحسب الأستاذ الجامعي المتخصص في علوم الاقتصاد جاسم عجاقة، ونظراً لكون النشاط الاقتصادي منخفضاً نتيجة الإقفال العام المُستمر، عوامل أخرى تؤثّر في سعر الصرف أيضاً:
أولاً: العوامل السياسية الناتجة من انسداد الأفق أمام إيجاد حلول تسمح بتشكيل حكومة تحصد مباركة عواصم القرار ما يفتح الباب أمام المُساعدات المالية.
ثانياً: المضاربة التي تقوم بها مافيات تمتلك تطبيقات على الأجهزة الخليوية تعطي أسعاراً غير معروف مصدرها.
ثالثاً: طلب من قبل المواطنين والشركات تخوّفاً من ارتفاع الدولار، بالتالي فقدان قيمة أموالهم بالليرة اللبنانية.
رابعاً: التوجّه الواضح لدى مصرف لبنان لوقف الدعم الذي استنزف احتياطاته.
خامساً: استمرار عملية تهريب الدولارات إلى خارج الحدود من قبل مافيات منظمة ولها قدرة كبيرة على التأثير في السوق.
هذه العوامل بحسب عجاقة تدفع الصرافين إلى المراهنة على ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية، بالتالي يقوم هؤلاء الصرافون بتسليم ما يقارب 50 في المئة من الطلب على الدولار ما يساعد في هذا الصعود الكبير الذي شهدناه أخيراً، بالتالي يمكن القول، من دون أي تردد، إن هذا الارتفاع ناتج بالدرجة الأولى من تلاعب واضح بالسوق السوداء من قبل بعض المافيات.
وما يساعدنا في هذا القول هو أن السوق السوداء هي، كما اسمها يدلّ إليها، سوق غير شفافة لا نعرف تفاصيل العمليات فيها، إضافة إلى أنها لا تخضع للرقابة من قبل السلطات الرسمية.
هذا الواقع يعني ألا سقف لسعر صرف للدولار الأميركي مقابل الليرة اللبنانية في السوق السوداء، نظراً إلى التلاعب الواضح المخالف لكل أنظمة الأسواق المالية، بالتالي ستكون هناك حركة احتجاجية شعبية في الفترة المقبلة.
مضاربة مستعرة
المضاربة شر لا بد منه في أي سوق مالية مهما تكثفت الجهود للحد منها، يؤكد فادي خلف، الخبير في الأسواق المالية والأمين العام السابق لاتحاد البورصات العربية، ولكن من المتعارف عليه أنه ما من بلد في العالم تدهورت عملته الوطنية بفعل المضاربة فقط، فالمضاربون يستغلون المنحى العام، كذلك يفعلون خلال فترات الارتدادات والتقلبات الأفقية لتحقيق أكبر قدر من المكاسب.
وفي فترة المنحى التصاعدي، استفاد المضاربون من هلع المواطنين ليدفعوا بالدولار إلى مستويات تجاوزت أساسيات السوق، فالكتلة النقدية بالليرة مثلاً لم ترتفع خمسة أضعاف في تسعة أشهر ولا بقية المؤشرات الاقتصادية تدهورت خمسة أضعاف في الفترة نفسها ما يؤكد وجود مضاربين كبار يغذّون التقلبات صعوداً وهبوطاً إلى حدودها القصوى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما في فترات الارتدادات والتقلبات الأفقية، فقد استفاد المضاربون من بعض الأخبار الإيجابية كتأليف الحكومة، أو وضع خطة إصلاح مالي، أو مفاوضات مع صندوق النقد، أو زيارة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبنان، وغيرها من الأخبار الإيجابية ليدفعوا بالدولار هبوطاً من 10000 ليرة حتى وصل في بعض الأحيان إلى 5800 ليرة للدولار.
وانتقل المواطن في تلك الفترات من حال الهلع إلى حال التفاؤل المفرط، وبدأت الإشاعات بإمكانية عودة الدولار إلى سعر الـ4000 آلاف ليرة وما دون. حينها تهافت من اشترى الدولار على سعر الـ10000 ليرة إلى بيعه بسعر 5800 ليرة إلى المضاربين، الذين كما لاحظنا غالباً، هم حاضرون للشراء عند الهبوط ولكنهم يمتنعون عن البيع، بحسب التقنية المعروفة بمصطلح "التجميع"، وهكذا، رأينا الأخبار تتقاذف الدولار لدرجة أنه أصبح يهبط عند توجه رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري إلى القصر الرئاسي ويرتفع عند خروجه منه.
من يمتلك الدولار النقدي هو الملك
في أي سوق، كان هناك لاعبون كبار يسيطرون على التقلبات، يتابع خلف، ولا أقول على المنحى العام الذي يحدده الوضع الاقتصادي، وفي الحالات الطبيعية تسيطر المصارف المركزية مع المصارف الكبرى على تقلبات سعر الصرف، ولكن عند نضوب احتياطي أي مصرف مركزي يدرك المضاربون أن الدور الرادع للمركزي قد ضعف ليقتصر على التعاميم والتصاريح والإجراءات العقابية في حال توافرها، فتعيث الذئاب نهشاً بالقطيع إذا ما ضعف الراعي، وفي لبنان، من يمتلك الدولار النقدي هو الملك، وهو من يستطيع التحكم بالسوق، وكبار الصيارفة المستفيدون أيضاً هم أداة التنفيذ مع بعض المصارف المتعاونة معهم، أما الملك فهو من يستطيع تأمين السيولة بالدولار لتلك الأدوات.
"التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه غالباً ما يتناغم مع ماضيه"
لقد شارفت مرحلة هضم الارتفاعات السابقة على الانتهاء، ومن المؤشرات على ذلك، حال الارتياح لدى اللبنانيين بمجرد هبوط الدولار إلى 8500 ليرة لفترات وجيزة، ما يؤكد أن الاعتياد على الأسعار الحالية أصبح واقعاً. في اعتقادي، يضيف خلف، أن تقنيات السوق أصبحت مهيأة لدفع الدولار إلى مستويات جديدة لم يشهدها من قبل.
ولقد أخَذتُ في الاعتبار توقعات المراجع الدولية كما أجريت محاكاة لارتفاعات الدولار في فترة 1983-1992 وطبقتها على الوضع الحالي، فتبيّن لي أن دولار السوق السوداء قد يتراوح ما بين 13000 و20000 ليرة ما بين ربيع 2021 ونهاية العام. وستتضمّنها فترات ارتفاع مفرط ومن ثم ارتدادات وفترات اعتياد على السعر، كما حدث حتى الآن.
أما على المديين المتوسط والبعيد، فالمحاكاة تظهر أرقاماً صادمة، وأكتفي بالقول إن الفترة المقبلة، ستكون وللأسف صعبة جداً، وإنني أنظر بقلق إلى العام 2023 إذا ما نضب احتياطي مصرف لبنان الذي سيترافق مع استحقاقات رئاسية، ونيابية، وحكومية ومصرفية في آن معاً.
ويبقى كل ذلك، ختم فادي خلف، ضمن تقنية المحاكاة للماضي البعيد والقريب، فهل يصحّ قول الكاتب الأميركي الساخر مارك توين في الأسواق المالية "التاريخ لا يعيد نفسه لكنه غالباً ما يتناغم مع ماضيه"؟ وهل سينعم لبنان بحل إقليمي طال انتظاره وتُغدَقُ عليه المساعدات ومتى؟ وحده الوقت كفيل بإعطاء الجواب الشافي عن كل ذلك.