تشكل القمة التي عقدت في تشاد مؤخراً في شأن سياسات فرنسا لمواجهة الإرهاب في دول الساحل الأفريقي لحظة مفصلية في السياسات الفرنسية إزاء دول الساحل الأفريقي التي تتمتع فيها باريس بنفوذ مرئي، لكنها تحصد خسائر سياسية وبشرية فيها تشير إلى حالة فشل بات من الملح مراجعتها، في ضوء اتجاه فرنسي إلى عدم التعاون مع دول إقليم شمال أفريقيا الكبرى، مثل مصر، التي سبق أن قدمت مبادرات مهمة لمكافحة الإرهاب في دول الساحل عام 2015.
واستطاعت فرنسا القيام بعمليات تدخل عسكري مباشر في كل من مالي وأفريقيا الوسطى بتفويض مباشر من مجلس الأمن، لكن يبدو أن هذا التوافق قد بدأ في التآكل، خصوصاً مع التحفظات الأميركية الأخيرة على إعطاء باريس تفويضاً مطلقاً للتدخل العسكري في أفريقيا، وطالبت مجلس الأمن بأن يكون التفويض لكل حالة على حدة، وهو أمر قد يثير حنقاً فرنسياً، لكنه بالتأكيد لن يتجاوز ذلك في ضوء تحالفات فرنسية أساسية في منطقة الشرق الأوسط.
وعلى الرغم من الخسائر البشرية الفرنسية في عملياتها العسكرية المتعددة، سواء في مالي أو أفريقيا الوسطى، أو المترتبة على الهجمات الإرهابية، مثل حالة بوركينا فاسو، فإن فرنسا تصر على الاستمرار في الوجود على الأرض حسبما فهمت من لقاء شخصي مع المبعوث الفرنسي للسودان وجنوب السودان، وهو ما يؤكده وصول حجم العناصر البشرية الفرنسية في الساحل الأفريقي إلى 5100 عنصر.
وبطبيعة الحال، يواجه هذا التوجه الفرنسي تحدي تحمل الأعباء الاقتصادية المرتبطة به، وهو التحدي الذي حاولت أن تتجاوزه بدعم تمويلي خليجي لتحالف G5، لكن يبدو أن تزايد الأعباء الاقتصادية وراء التخطيط لعقد قمة تشاد لحث شركائها الأوروبيين في عملية ياكوبا بمالي بأن يكونوا شركاء في تحمل هذه الأعباء الاقتصادية، وكذلك أن يتحمل شركاؤها الأفارقة جزءاً من أعباء الانتشار العسكري، وهو ما يفسر إقدام تشاد في هذه القمة على اتخاذ قرار دعم القوات الفرنسية بـ1200 عنصر عسكري تشادي إلى مثلث الحدود بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو.
ملامح السياسات الفرنسية في دول الساحل
تأسست المقاربات الاستراتيجية الفرنسية إزاء أفريقيا على ثلاثة أسس هي أولاً: القرب من مفاصل النقل التجاري في القارة، ومن هنا تركز اهتمامها بالبحر الأحمر وخليج غينيا ومنطقة الساحل الإفريقي. ثانياً: الوصول إلى الموارد الطبيعية، خصوصاً اليورانيوم والهيدروكربير المؤثرين في الصناعات العسكرية والموارد الكهربائية الفرنسية، وثالثاً: التواصل وتوسيع الأسواق الفرنسية لتكون سوقاً للمنتجات الفرنسية، وبطبيعة الحال من شأن هذه الأسس أن تمنح فرنسا في حال النجاح فيها زيادة وزنها الدولي، وتأثيرها في النطاق الأفريقي، خصوصاً إن خلت البيئة السياسية العالمية من منافس قوي.
وفي هذا السياق، قسمت فرنسا أفريقيا إلى أربع مجموعات من الدول، لكل منها أدوات مغايرة نسبياً للأخرى. المجموعة الأولى هي المستعمرات السابقة، مثل كوت ديفوار، والسنغال، والغابون، والكاميرون، والمجموعة الثانية هي الأفقر نسبياً، لكن مواردها الطبيعية واعدة، فضلاً عن حساسية موقعها الجيوسياسي، ومنها تشاد، وموريتانيا، وأفريقيا الوسطى، بينما المجموعة الثالثة هي الأضعف والمتباعدة عن التفاعل في النطاق الأوربي، مثل مدغشقر، وبنين. وفي الأخير فإن المجموعة الرابعة التي تركز عليها فرنسا هي تلك الدول التي فقدت الصلة بالمستعمر القديم، نتيجة ضعفه، أو تخليه عن السياسات الاستعمارية، مثل بلجيكا، وألمانيا، ونسبياً بريطانيا، وذلك مثل رواندا، وبروندي، وكينيا، وموزمبيق، ونيجيريا، وسيراليون.
دور الآلية العسكرية
سجلت العمليات العسكرية الفرنسية توسعاً ملحوظاً في الفترة من 2006 إلى 2019، حيث شكلت 8 عمليات عسكرية متنوعة القوة والاتساع، أقدمها عملية التركواز في رواندا عام 1993، التي انحازت فيها فرنسا للهوتو، وأحدثها عملية البرخان، التي انطلقت عام 2013 من مالي، وما زالت فاعلة، وقد توسع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في سياسات عسكرة العلاقات الفرنسية مع أفريقيا إلى حد بناء تحالفات محض عسكرية، ومن المتوقع أن تنمو، خصوصاً مع التحديات الأمنية الآخذة في الاتساع بدول الساحل والصحراء من ناحية، وما وفرته هذه السياسات من ظهور فرنسا كقوة موازية لألمانيا من حيث الوزن في الاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى، وهو مكسب في التحليل الأخير لا يمكن إغفاله، وهو ما نتج عنه في المحصلة أن 70 في المئة من حجم التفاعل العسكري الفرنسي مع الخارج هو مع أفريقيا.
وقد شكل الوجود الفرنسي المدني والاقتصادي في مناطق خليج غينيا سبباً إضافياً للوجود الفرنسي العسكري، فقد أكد وزير الدفاع الفرنسي، جان إيف لودريان، في خريف 2016، أن منطقة خليج غينيا تقع على سلم أولويات التعاون العسكري الفرنسي في أفريقيا، كما قررت إعادة توزيع قواتها في دول الساحل الأفريقي لمزيد من الفاعلية والتعاون والجاهزية في صراعها القائم مع المجموعات الجهادية المنتشرة في منطقة الساحل الأفريقي، حيث بدأت البعثة الفرنسية في تلك المنطقة منذ عام 1990، وتهدف إلى كفالة وجود فرنسي دائم في مياه المنطقة بما يمكنها من الحفاظ على مصالحها في المنطقة، وإجلاء رعاياها في حالة حدوث أي أزمات، حيث يصل تعداد الرعايا الفرنسيين في تلك المنطقة إلى نحو 80 ألف فرنسي موزعين على 6000 كيلو متر، على طول خليج غينيا.
ويمكن القول إن حجم الإنفاق الفرنسي قد تضاعف عدة مرات نتيجة سياسات العسكرة، خصوصاً في أفريقيا، فوفقاً لمعهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام SIPRI، صنفت فرنسا الدولة الأكثر إنفاقاً عسكرياً على مستوى غرب أوروبا، حيث قدر إجمالي عدد العسكريين الفرنسيين في أفريقيا بنحو 9000 فرد في عام 2015، مقابل 5000 في 2012، بإنفاق سنوي يتخطى المليار يورو.
وبالتأكيد، حافظت الاتفاقات التي جرى توقيعها بين فرنسا وعدد من الدول الأفريقية عشية استقلالها على قدر كبير من التأثير الفرنسي الاقتصادي والسياسي والعسكري يصل في تقديرنا إلى حد التبعية الكاملة لهذه الدول لفرنسا، وذلك على الرغم من حالات من التمرد تقوم بها بعض الدول، مثل الغابون، وساعدها في ذلك الوجود الصيني في القارة.
وفي حقيقة الأمر، فإن تلك الاتفاقات لم تسمح فحسب بالتدخلات العسكرية الفرنسية من أجل الحفاظ على استقرار الأوضاع الداخلية، والتصدي لجماعات التمرد المدعومة من الخارج، أو التصدي لأي اعتداء على الدولة، حسبما تعلن فرنسا، لكن أسهمت في خلق إطار قانوني لمختلف أنواع الأنشطة الأمنية والعسكرية الفرنسية في القارة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
علاقات عسكرية ثنائية
وتُبقي فرنسا على علاقة عسكرية ثنائية بينها وبين ما يتخطى 40 دولة أفريقية، وتستقبل 24 دولة منها عدداً من المحللين العسكريين الفرنسيين، للتعاون في المجال العسكري، و8 من ضمن تلك الدول كانت قد قامت بتجديد اتفاق الشراكة مع فرنسا في عام 2008، وهي: أفريقيا الوسطى، والكاميرون، وتوغو، وجزر القمر، وساحل العاج، وجيبوتي، والغابون، والسنغال.
وتعد جيبوتي أهم قواعد فرنسا العسكرية في أفريقيا، نظراً إلى أهمية موقع جيبوتي في شرق القارة. ويتمركز فيها أكثر العناصر الفرنسية خبرة عسكرية، ويبلغ عددهم نحو 1700 جندي، وتعد أكبر قاعدة فرنسية خارج حدودها عدداً وعتاداً، ويطلق عليها العسكريون الفرنسيون مدرسة الصحراء، حيث يتلقى العسكريون تدريبات على المهام الشاقة في الظروف المناخية والبيئية الصحراوية. وتضم قاعدة جوية 7 طائرات ميراج 2000، وطائرة C160، وطائرتين هليكوبتر Puma2، كما تضم قاعدة بحرية.
أما القاعدة العسكرية في ساحل العاج فهي ثاني القواعد من حيث الأهمية بعد قاعدة جيبوتي، وتقع في غرب أفريقيا. ويوجد بها نحو 600 عنصر فرنسي. وتتمركز ثالث القواعد العسكرية في الغابون، وتنظمها اتفاقات دفاع منذ استقلال الغابون في أغسطس (آب) 1960. وتضم تلك القاعدة نحو 450 عنصراً فرنسياً. وقاعدة السنغال تضم نحو 350 عنصراً فرنسياً.
وأحدث تطور في عملية الانتشار العسكري الفرنسي في الساحل الأفريقي هو إنشاء قاعدة "ماداما" في أقصى شمال النيجر قرب الحدود مع جنوب ليبيا في ظل "عملية البرخان" 2014، التي تجعل الجنوب الليبي في سلم أولوياتها. وإضافة إلى القواعد العسكرية توجد مجموعة من البعثات الفرنسية المنتشرة عبر القارة. ومن ذلك بعثة "كوريمب" في خليج غينيا، والهادفة إلى دعم العمليات العسكرية الغينية في مواجهة القرصنة البحرية.
وتحت مظلة الوجود العسكري الفرنسي من الطبيعي أن تكون باريس على رأس قائمة مصدري السلاح إلى شمال أفريقيا. فقد سجلت الفترة من 1996 وحتى عام 2003، حصيلة وصلت إلى نحو 30 مليار يورو. ووفقاً لتقرير صادر عن معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام SIPRI في فبراير (شباط) 2016، جاءت فرنسا ضمن أكبر خمسة مصدرين للسلاح على مستوى العالم خلال الفترة من 2011 وحتى 2015، حيث ازدادت الصادرات الفرنسية من الأسلحة لتصل إلى 78 دولة خلال تلك الفترة. ولقد حازت دول القارة الأفريقية نحو 18 في المئة من إجمالي تلك الصادرات.
إجمالاً، لا يبدو لنا أن نتائج أعمال قمة تشاد ستسفر عن مقاربات واقعية لحل مشكلة الإرهاب في أفريقيا ما دامت الاستراتيجيات الغربية مؤسسة على نزح موارد القارة، لا تنميتها. ولعل مقولة إدريس ديبي، الرئيس التشادي، في افتتاح المؤتمر، إنه لا يمكن مكافحة الإرهاب في بيئة فقيرة تعاني العوز، مقولة صحيحة لا يسمعها الغربيون غالباً.