أصيبت الأسواق بالذعر في الأيام الأخيرة وسط زيادة المخاوف من ارتفاع معدلات التضخم في الاقتصادات الرئيسة حول العالم. وشجع على ذلك الجدل المتصاعد، خاصة في الولايات المتحدة، حول توقعات تجاوز معدلات التضخم المستويات التي يستهدفها الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأميركي. ويستند الجدل إلى استمرار برامج التيسير النقدي للبنوك المركزية وحزم التحفيز المالي من الحكومات في الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة تطعيم الملايين باللقاحات المضادة لفيروس كورونا ما يشير إلى التعافي القريب من الأزمة.
وكانت سوق السندات الأكثر تأثراً، حيث يسير مؤشر قيمتها عكس مؤشر التضخم، وتشهد سندات الخزينة تراجعاً منذ الأسبوع الماضي. وجاء مؤشر بلومبيرغ لأسعار السلع الفورية يوم الاثنين مرتفعاً بنسبة 1.6 في المئة ليصل إلى أعلى معدل له منذ شهر مارس (آذار) عام 2013. ومع ارتفاع أسعار السلع وأسعار النفط، يخشى تقليدياً من زيادة الضغوط التضخمية في الاقتصاد.
لكن صندوق النقد الدولي يقلل من أي مخاطر لضغوط تضخمية مع عودة النشاط الاقتصادي بعد نهاية فترات الإغلاق للحد من انتشار وباء كورونا. ويقول الصندوق في تقرير له إن مصداقية البنوك المركزية وعوامل بنيوية في الاقتصاد العالمي تحد من أي مخاطر محتملة للتضخم.
اللقاح والسيولة
من أهم أسباب الجدل الحالي حول التضخم ومخاوف المستثمرين، ما ظهر في الأسبوع الماضي من أرقام للاقتصادات عبر ضفتي الأطلسي في الولايات المتحدة وبريطانيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي من ارتفاع في مؤشرات أسعار المستهلكين. وإن كانت كل البيانات تظل أقل من المستهدف لدى البنوك المركزية عند معدل تضخم بنسبة 2 في المئة. هذا على الرغم من أن أغلب البنوك المركزية أعلنت من قبل أنها ستقبل حتى بارتفاع معدلات التضخم عن المستهدف من دون الحاجة لتغيير السياسة النقدية.
لكن سرعة التطعيم بلقاحات كورونا والثقة النسبية في عودة النشاط الاقتصادي قريباً تزيد من قلق المستثمرين خشية ارتفاع معدلات التضخم بشدة ولجوء البنوك المركزية إلى تشديد السياسة النقدية، أي رفع أسعار الفائدة وتقليل أو إنهاء برامج التيسير الكمي التي توفر السيولة في السوق. يضاف إلى ذلك إمكانية إقرار الكونغرس الأميركي لحزمة التحفيز الاقتصادي التي طرحتها إدارة الرئيس جو بايدن بقيمة 1.9 تريليون دولار، أي ما يعادل نسبة 9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي.
ويتوقع في حال الموافقة على الحزمة أن تؤدي إلى نمو إضافي في الاقتصاد الأميركي بما بين 5 و6 في المئة في غضون ثلاث سنوات. وكل ذلك قد يجعل الاحتياطي الفيدرالي يلجأ إلى رفع أسعار الفائدة مبكراً، ما سيعني ارتفاع كلفة الاقتراض وزيادة أعباء الدين العام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن تقرير صندوق النقد الدولي لا يرى مخاطر شديدة في استمرار تيسير السياسة النقدية وتوفر السيولة. ويرجع ذلك إلى المصداقية العالية للبنوك المركزية وتعزيزها لاستقلاليتها في وضع السياسة النقدية. بمعنى أن تلك البنوك لن تغامر بترك الضغوط التضخمية تفلت من تحت السيطرة بإبقاء سياستها الميسرة لتخفيف ضغوط العجز في ميزانية الحكومات.
عوامل بنيوية
يستعرض التقرير كيف أن معدلات التضخم في نسبة 84 في المئة من الدول العالم ظلت أقل من المستهدف للبنوك المركزية حتى نهاية العام الماضي. ويشير تحديداً إلى أنه على الرغم من انخفاض معدلات البطالة في الولايات المتحدة من نسبة 10 في المئة في 2009 (إبان الأزمة المالية العالمية) إلى 3.5 في المئة في 2019 لم ترتفع معدلات التضخم للمستوى المستهدف من قبل الاحتياطي الفيدرالي.
ومع توقع ارتفاع معدلات البطالة في الاقتصادات الرئيسة نتيجة أزمة وباء كورونا، إلا أن المؤشرات حتى الآن لا تدل أنها ستصل إلى أو تتجاوز معدلات البطالة خلال الأزمة المالية العالمية. بالتالي، فان الانتعاش الاقتصادي بعد الأزمة وتوفير الوظائف وزيادة معدلات العمالة لن يدفع بالتضخم إلى معدلات عالية تمثل خطراً.
كما أن ارتفاع الأجور في السابق لم يؤد أيضاً إلى ضغوط تضخمية كبيرة. ويرجع تقرير الصندوق ذلك إلى العولمة التي تسهم في تخفيف حدة الضغوط التضخمية والتقليل من ارتفاع أسعار السلع والخدمات. والعامل البنيوي الآخر هو الأتمتة، التي تسهم إلى جانب عدم الزيادة الكبيرة في أسعار السلع، في الحد من تحول ارتفاع الدخول إلى ضغوط تضخمية. كما أن اعتماد الأتمتة جعل الشركات الكبرى قادرة على امتصاص ارتفاع كلفة الإنتاج وعدم تحميلها على أسعار السلع.
ويعني ذلك استمرار نصيحة صندوق النقد الدولي للحكومات باستمرار الإنفاق لتشجيع النمو الاقتصادي وعدم القلق الآن من مخاطر الاقتراض وزيادة العجز.
محاذير مهمة
في النهاية، يشير التقرير إلى أن كل تلك العوامل البنيوية ومصداقية البنوك المركزية لا تعني عدم الانتباه من قبل واضعي السياسات حول العالم لمحاذير مهمة. أولها حسب تقريرالصندوق أن تكون جهود الإنفاق الحكومي موجهة لقطاعات معينة وتستهدف تحسن معدلات العمالة. كما تحتاج الحكومة لإدارة سليمة للدين العام مع ترك سعة إضافية للإنفاق على الخدمات الاجتماعية.
وهناك احتمال بأن يؤدي الاستثمار في الإنفاق العام إلى زيادة الناتج في الاقتصاد، وتؤدي زيادة الأجور وتحسن الدخول لزيادة الطلب ما يعني زيادة غير متوقعة في الضغوط التضخمية.
من جهة أخرى، تظل حالة عدم اليقين موجودة لفترة على الرغم من التفاؤل بأن تسيطر اللقاحات على الوباء. فاحتمال ظهور طفرات وسلالات جديدة من فيروس كورونا قد تعني العودة لإغلاق الاقتصاد، بالتالي التبعات السلبية للأزمة الاقتصادية مجدداً.
ويشير التقرير إلى أن الزيادة في الإنفاق المالي لدول مجموعة السبع الكبرى العام الماضي لمواجهة آثار أزمة كورونا بلغت نسبة 14 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لتلك الدول، مع أن زيادة الإنفاق خلال الأزمة المالية العالمية لم تتجاوز نسبة 4 في المئة. ونتيجة لذلك ارتفعت معدلات ادخار الأسر إلى مستويات غير مسبوقة. وقد يؤدي ذلك في حالة التعافي السريع للاقتصاد إلى زيادة مفاجئة وكبيرة في الإنفاق الاستهلاكي تضاعف الضغوط التضخمية في الاقتصاد.