يعيش وودي آلن منذ سنوات عديدة، ولغاية الآن، حالة سقوط مدوٍ على الصعيد المهني. ففي سنة 2014 كتبت ديلان فارو، الابنة بالتبني لهذا المخرج الذي كان يمثل أيقونة حية، مقالة في صحيفة "نيويورك تايمز" تحدثت فيها عن قيامه بالاعتداء الجنسي عليها عندما كانت طفلة في منزلهم بكونيكتيكت (هذه المزاعم ينفيها آلن).
وبعد سنوات من تلك المقالة برزت حركة "#أنا أيضاً" #MeToo (حركة نسوية عالمية تفضح عمليات التحرش والمتحرشين). وإثر ذلك، قام العديد من ممثلي هوليوود الكبار ونخبتها، بإبعاد أنفسهم عن آلن. وفي سنة 2020 تعرض كتاب مذكراته، المُعنون "عن لا شيء" Apropos of Nothing لنكسة تمثلت بتخلي ناشره عنه.
والآن يأتي دور الفيلم الوثائقي المثير، الذي أنتجته شبكة "إتش بي أو" HBO التلفزيونية الأميركية، والذي من دون شك سيبدو بمثابة "ناقوس موت" بالنسبة لمشوار وودي آلن المهني.
في الواقع إن إدراج آلن على اللائحة السوداء من قبل هوليوود، لا تجعل من "آلن ضد فارو" Allen v Farrow مجرد تمرين على التكرار والحشو.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذ أن الفيلم الجديد، المؤلف من أربعة أجزاء، يتيح لديلان، البالغة اليوم 35 سنة، تقديم اتهاماتها عبر إطار جديد أو واسطة جديدة، وبتفاصيل شديدة الوقع. وعبر لقطات فيديو منزلية، واتصالات هاتفية مُسجلة بين آلن وفارو، ومقابلات مع أصدقاء للعائلة ومع ديلان نفسها.
يستعرض المخرجان الاستقصائيان، كيربي ديك وآيمي زايرينغ، ما يبدو أنه نمط انتهاك جنسي وتحرش مرعب. وفي هذا السياق، ظل آلن متمسكاً بإعلان براءته، زاعما ًأن فارو كذبت في اتهامه بالتحرش والانتهاك، انتقاماً من علاقته مع ابنتها الكبرى بالتبني سون يي بريفين. الملاحظ أن الفيلم الجديد لا يورد مقابلة مع آلن، بل يستند في إظهار وجهة نظره، عبر مقاطع من كتاب مذكراته الجديد، "عن لا شيء".
كما يصور الفيلم وودي آلن وميا فارو بمثابة زوجين حيويين من نيويورك، يُشكلان نموذجاً مثالياً، يُحتذى به كعائلة تتبع نمط حياة متطور. وقد ظهرت فارو في عدد من أفلام المخرج الشهيرة (أبرزها وأشهرها ربما فيلم "حنة وأخواتها" سنة 1986 Hannah and Her Sisters). واحتفظ كل من الزوجين، طوال فترة علاقتهما، بمسكنين مستقلين، يفصل بينهما "سنترال بارك" في مدينة نيويورك. أنجبا ابناً (بيولوجياً) سمياه ساتشيل (غيّر اسمه في ما بعد إلى رونان). وكانت فارو قبل علاقتها بآلن تبنت أطفالاً عدة، من بينهم سون يي، التي كان المؤلف الموسيقي أندريه بريفين والدها بالتبني. وبعد طلاق فارو من بريفين، عادت وتبنت طفلين، هما موسيس، الذي بدا أنه قريب جداً من آلن، ومن ثم ديلان.
ومع حلول سنة 1992، عصفت بالعائلة نوبة من المشاكل القانونية والإعلامية بفعل مزيج من الوقائع: فقد وجدت فارو بحوزة آلن صوراً فاضحة لسون يي، التي كانت تبلغ آنذاك الـ 21 من عمرها (سون يي وآلن متزوجان منذ سنة 1997). كما ادعت ديلان، التي كانت تبلغ السابعة من عمرها آنذاك، أن آلن قام بالاعتداء جنسياً عليها. وبعد مرور سنة توصل تحقيق جنائي دام ستة أشهر، أجرته "عيادة مكافحة الاعتداءات الجنسية على الأطفال" بمستشفى ييل- نيوهيفين Child Sexual Abuse Clinic of Yale-New Haven Hospital إلى أن ديلان لم تتعرض للاعتداء الجنسي. وقد اعتُبرت نتائج ذلك التحقيق بمثابة نقطة تاريخية لصالح آلن، حيث سارع فريقه إلى اعتمادها في مناسبات نادرة قام آلن فيها بالدفاع عن نفسه في الإعلام. بيد أنه اليوم، وعلى ضوء العمل الدؤوب والدقيق الذي يشتمله فيلم "آلن ضد فارو"، سيكون من الصعب على بعض الأشخاص عدم مساءلة النتائج التي توصل إليها التحقيق منذ ثلاثين عاماً.
وعلى الرغم من دفاعها المدوي في السنوات الماضية عن ضحايا الاعتداءات الجنسية، وإعلان أخيها رونان عن نصرتها عبر مساهمته في بلورة الاتهامات المُثارة ضد هارفي واينستين، إلا أن ديلان لم يسبق أن حظيت بفرصة سرد قصتها بهذه الطريقة. وقد جاءت النتائج شديدة الوقع ومربكة في آن واحد.
من خلال الحديث الذي أجري معها في الفيلم، إضافة إلى تصريحات عدد من الشهود الأساسيين، ومع ميا (فارو) ورونان فارو وابن ميا الأكبر، فليتشير بريفين، يقدم "آلن ضد فارو" تفاصيل رهيبة عمّا بدا أنه عملية إغواء، ومن ثم نمط تصرفات غير لائقة، مارسها آلن. وفي واحدة من مرويات الفيلم، تدعي ميا فارو أن آلن في إحدى المرات قام، وعلى نحو فجائي، بصفع يد ديلان لإبعادها عنه. وعندما سألته (ميا) لماذا صفعها، أجاب بأنها حاولت لمس خصيتيه. فتساءلت فارو لماذا تُقدم طفلة على فعل هكذا أمر؟
وفي مقطع آخر من الفيلم، يزكي أصدقاء للعائلة مروية فارو وديلان التي تقول إن اهتمام آلن بديلان بدا أشبه باهتمام هوسي، وهو الأمر الذي جعل ديلان الصغيرة تتحول من طفلة فضولية مرحة وانفعالية، إلى شخص متجهم ومنزو. وتذكر ديلان عن هذا الأمر أمام الكاميرا في إحدى لحظات الفيلم "كنت دائماً بين مخالبه. وكان يطاردني باستمرار". وتردف "لدي ذكريات من أوقات كنت فيها معه في السرير... كان يلف جسده حولي على نحو لصيق جداً".
والجدير ذكره هنا أن موسيس وسون يي، اللذين لم يشتركا أو يظهرا في فيلم "آلن ضد فارو" كانا تحدثا على الملأ وفي الإعلام عن تجربة نشأتهما في منزل وكنف آلن وفارو، وادعيا أنهما تعرضا باستمرار لاعتداءات جسدية من قبل فارو. حتى أن موسيس، الذي حصل الآن على إجازة للعمل كمعالج نفسي متخصّص بحالات "صدمة التبني" adoption trauma، أشار في مقالة نشرها سنة 2018 إلى أن "البيدوفيليا" (نزعة اشتهاء الأطفال جنسياً) هي "مرض قهري" compulsive sickness و"انحراف يؤدي إلى التكرار"، مشيراً إلى أن مشكلة آلن التي أفيد عنها وتضمنت مزاعم باعتداء جنسي، لا تندرج على الأرجح ضمن توصيف البيدوفيليا هذا، لأنها لم تكن متكررة. ورأى موسيس أن ديلان تعرضت لعملية غسل دماغ من قبل فارو، كما ثبت موسيس في موقفه المدافع بصلابة عن والده بالتبني (وودي آلن).
لكن ما يساهم اليوم "آلن ضد فارو" بإثباته من جديد، هو أن تصرفات آلن المزعومة تجاه ديلان، والموثقة في بعض الأحيان بلقطات فيديو، والموصوفة تكراراً من قبل شهود عيان بأنها "مشحونة" و"حميمة"، تبدو متسقة إلى حد كبير مع مفهوم الاعتداء.
وكان على الفيلم لو أراد جلاء تاماً للحقيقة، الاستفادة من المستحيل: أي إجراء مقابلات مع كل فرد من أفراد العائلة (عائلة آلن وفارو). بيد أنه بغض النظر عن هذا، يمكننا القول إن كل ما حظي به وودي آلن من تقدير واحترام على مدى السنوات الماضية، قد يتبدد إثر "آلن ضد فارو".
© The Independent