ماذا لو قال لك بنكك "خذ مدخراتك إلى وجهة أخرى؟"، أو "سأساعدك لإيجاد وجهة بديلة لمدخراتك وودائعك"؟ بطبيعة الحال ستصاب بالصدمة، هذا ما فعلته بنوك ألمانية، واتجهت أخرى أوروبية إلى خفض سقف المدخرات المودعة.
بقيت أسعار الفائدة سلبية في أوروبا سنوات، لكن الأمر احتاج إلى فيضان المدخرات الذي غذته موجات الإغلاق والحجر المنزلي وسيل الإعانات الحكومية في مواجهة جائحة كورونا؛ إذ فرضت بنوك ألمانية مؤخراً رسوماً على الإيداعات والمدخرات، وطلب أكبر المقرضين في ألمانيا "دويتشه بنك أي جي دي بي"، و"كوميرز بنك أي جي" من العملاء الجدد منذ العام الماضي دفع رسوم سنوية، 0.5 في المئة، مقابل الاحتفاظ بالمبالغ المالية الكبيرة.
وتبرر البنوك هذا التوجه بكونها "لم تعد قادرة" على استيعاب أسعار الفائدة السلبية، التي تفرض عليها من قبل "المركزي الأوروبي". وعلى الرغم من طلب البنوك من العملاء أصحاب الإيداعات الكبيرة المغادرة، فإنها توجههم في الوقت ذاته مع ودائعهم إلى وجهات أخرى، وعلى الأرجح سيستفيد البنك من هذا التوجيه.
تقول صحيفة "وول ستريت جورنال" إن البنوك في أوروبا قاومت تمرير معدلات سلبية للعملاء، التي اعتمدها "المركزي" للمرة الأولى في عام 2014، خوفاً من رد الفعل العكسي. ولجأت إلى طرق أخرى، لتمرير تكاليف المعدلات السلبية، منها على سبيل المثال فرض رسوم أعلى.
وتتساءل الصحيفة: هل غير وباء كورونا المعادلة المصرفية؟ إذ ارتفعت معدلات الادخار مع بقاء المستهلكين في المنزل مع موجتي الحظر الأولى والثانية للفيروس. وأدت برامج الإغاثة الضخمة من "المركزي الأوروبي" إلى إغراق البنوك بالودائع الزائدة، كما استخدمت البنوك التفكك الاقتصادي الذي أحدثته الجائحة في إجراء تغييرات تشغيلية طالما قاومتها.
تكدس الودائع والتكلفة والفائدة السلبية
يقول وضاح الطه، عضو المجلس الاستشاري الوطني في معهد "تشارترد للأوراق المالية والاستثمار"، في حديثه إلى "اندبندنت عربية": "عندما يحدث نوع من التكدس في الودائع تزداد التكلفة. الودائع عليها تكلفة للبنك، ولا يمكن الإيفاء بهذه التكلفة ما لم يوجد لديه خطط لاستثمارها".
وأوضح "العوائد المحصلة من تلك الاستثمارات قسم منها يسدد إلى أصحاب الودائع على شكل فوائد، وآخر يعود إلى البنك، وهذا هو الوضع الطبيعي، لكن أن يصل الوضع إلى الفائدة السلبية فمعناه أن فرص الاستثمار تراجعت، وأن تدفق الودائع أكبر من طاقة البنك، بالتالي يقبل المودع أن يخصم من مبلغ الوديعة نسبة معينة أفضل".
وأضاف "على المستثمر أو المودع أن يتابع البدائل، بمعنى آخر البدائل التي تولد العوائد السلبية. على سبيل المثال لو أن البديل الأول كان 0.5 في المئة فائدة سلبية في أحد البنوك، ووجد المودع أو المستثمر بديلاً آخر، مثل سندات بفائدة سلبية 0.25 في المئة، في هذه الحالة يتجه إلى الفائدة السلبية الأقل، وهذه العملية (أي الانتقال من بديل ذي عائد سلبي إلى بديل ذي عائد سلبي أقل) يطلق عليها البعض الآربيتراج".
ويرى الطه أنه لا تزال "هناك فرص" أمام الدول والشركات الأكثر احتياجاً إلى التمويل في أدوات الدين ذات الدخل الثابت، وهي السندات أو الصكوك، موضحاً "توجد فرص في السندات التي صدرت في عمان والبحرين، التي قد تصدر أيضاً خلال هذه الفترة، وبرأيي لا تزال تشكل فرصة التي تتراوح بين 4 في المئة و6.75 في المئة، وهذا التناسب يعتمد على مقدار التصنيف الائتماني السيادي أو للشركات".
50 في المئة نمواً في حجم الودائع بالمنصات
وفقاً لبوابة مقارنة الأسعار "فيريفوكس"، يفرض 237 بنكاً في ألمانيا حالياً أسعار فائدة سلبية على العملاء من القطاع الخاص، ارتفاعاً من 57 قبل انتشار الوباء في مارس (آذار) من العام الماضي. وتتراوح الرسوم بين 0.4 في المئة و0.6 في المئة للودائع التي تبدأ في أي مكان من 25000 يورو (ما يعادل 30 ألف دولار أميركي) إلى 100000 يورو (ما يعادل 120.2 دولار أميركي).
وقال موقع "ريزن"، إن الأعمال التجارية في ألمانيا، أكبر أسواقها، ارتفعت بشكل حاد مع بدء مزيد من البنوك فرض رسوم على الودائع، مشيراً إلى ارتفاع عدد العملاء الذين يستخدمون منصاتها في جميع أنحاء أوروبا بأكثر من 40 في المئة إلى 325000 في عام 2020.
وارتفع حجم الودائع التي انتقلت عبر المنصات 50 في المئة إلى نحو 30 مليار يورو (ما يعادل 36 مليار دولار أميركي)، مع الإشارة إلى أنها تعمل مع عدد قليل من البنوك بألمانيا وأماكن أخرى في أوروبا، حيث تضمن خدماتها داخل مواقع البنوك الإلكترونية، ما يسهل على العملاء تحويل أموالهم.
البنوك وحلول الإيداعات
اشترى "دويتشه بنك"، الذي يفرض سعراً سلبياً للعملاء الجدد الذين يمتلكون أكثر من 100000 يورو (ما يعادل 120.2 دولار أميركي)، حصة في أحد منافسي "ريزن"، يسمى "ديبوزيت سليوشن". ويستخدم عملاء "دويتشه بنك" حلول الإيداع لاختيار العروض حالياً في خمسة بنوك مختلفة، بما في ذلك إيطاليا والنمسا وفرنسا.
وقالت متحدثة "دويتشه بنك"، إن "مهمتنا هي أن نظهر للعملاء طرقاً لكسب عائد على استثماراتهم على الرغم من أسعار الفائدة السلبية". وقال متحدث "كوميرز بنك"، إن "هدفنا الأساسي ليس جمع مثل هذه الإيداعات، لكن تقديم المشورة وإعادة تخصيص الأموال لأشكال أخرى من الاستثمار".
فقاعة أسواق المال
من جانبه، قال المحلل في أسواق المال عميد كنعان، إن "فرض رسوم على الودائع شائع في العالم، ولا يقتصر على منطقة اليورو، فهي موجودة في اليابان أيضاً"، مضيفاً أنها وصلت إلى واحد في المئة في بعض دول العالم العام الماضي، الذي شهد ذروة تفشي الجائحة.
ويرى كنعان أن ما يحدث ما هو إلا "ترجمة فعلية" لما يجري في أسواق العالم، موضحاً أن "تلك الرسوم دفعت كثيراً من الناس في العالم إلى أسواق المال على الرغم من تضخم بعض الأسعار وبعض الشركات في أسواق المال، بالتالي نحن نشهد عمليات فرض الرسوم على الودائع والمدخرات منذ أكثر من عام تقريباً، لكن رأينا زيادة لها في توقيت كورونا مع ارتفاع مستويات الادخار بسبب موجات الإغلاق الحاصلة في العالم".
ويعتقد أن فرض الرسوم على الودائع "سيضاعف من فقاعة أسواق المال"، خصوصاً في ظل محدودية الخيار، مستبعداً توجه البنوك في الخليج إلى هذا التوجه "هذه المنطقة لديها خصوصية مختلفة، لا أعتقد أن نصل إلى هذه المرحلة".
ويبلغ معدل الودائع لدى المركزي الأوروبي الذي يفرضه على البنوك سالب 0.5 في المئة. ومن غير المرجح أن يغير هذا المستوى في أي وقت قريب. وتعتبر عائدات السندات الحكومية التي تقاس تكاليف الاقتراض على أساسها سلبية على الرغم من الارتفاع الأخير. فالعائد على سندات 10 سنوات الألمانية سالب 0.3 في المئة، في حين أن عائد السندات الأميركية المماثلة 1.5 في المئة.
هل تخسر البنوك؟
أما حسن الريس، المصرفي في دبي الذي أقام فترة في ألمانيا ولديه إلمام بالقطاع المصرفي هناك، فيقول إن فرض رسوم على إيداع المدخرات "متداول في منطقة اليورو"، ولا يقتصر على ألمانيا. وأضاف "الجائحة أسهمت في مضاعفة المدخرات ليس فقط بسبب أن الناس لا تريد الادخار، لكن الأمر راجع إلى حالة القلق السائدة لدى المستهلكين ليس فقط في منطقة اليورو وحدها، لكن في جميع أنحاء العالم بسبب الوضع الاقتصادي القائم، وعدم معرفة توجهات الجائحة، ما ضاعف من عمليات الادخار".
ويرى الريس أن فرض رسوم على الودائع هو "رسالة واضحة من المركزي الأوروبي يحث فيها البنوك على عدم تكديس الودائع واستثمارها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن توجيه البنوك في ألمانيا العملاء الجدد إلى وجهات أخرى لوضع مدخراتهم فيها، قال "الألمان يتميزون عن باقي شعوب منطقة اليورو في كونهم أكثر حرصاً فيما يتعلق بالإنفاق. هم ينفقون عندما تكون هناك حاجة فعلية، لذلك هم الأكثر ادخاراً".
وتابع "عندما يوجه بنك ما عملاءه الجدد إلى وجهة أخرى للاحتفاظ بمدخراتهم أو ودائعهم عادة ما تكون هذه الوجهة تابعة إليه بصورة أو بأخرى، خصوصاً عندما نتحدث عن البنوك الكبيرة، التي عادة ما يكون لديها مؤسسات أخرى تابعة لها أو شقيقة، بالتالي فإن البنوك لا تخسر، ستسفيد مادياً وعادة ما يكون هناك اتفاقات مسبقة مع هذه الوجهات، بالتالي في نهاية الأمر البنك والعميل سيستفيدان".
وعما إذا كان من الممكن أن نرى بنوكاً خليجية تتجه نحو فرض رسوم على المدخرات والودائع، قال الريس "من الصعب التنبؤ بهذا الأمر".
وتتأثر البنوك في ألمانيا بشكل خاص بالمعدلات السلبية، لأن الألمان هم من كبار المدخرين. فنحو 30 في المئة من إجمالي ودائع الأسر في منطقة اليورو موجودة بألمانيا، وفقاً للبنك المركزي الأوروبي.
وفي العام الماضي، ارتفعت الودائع في البلاد ستة في المئة إلى مستوى قياسي بلغ 2.55 تريليون يورو (ما يعادل ثلاثة تريليونات دولار أميركي)، وأصبح الناس قلقين من الإنفاق في ظل الوباء، أو لم يكن لديهم أي مكان ينفقون فيه، مع إغلاق المطاعم وتقييد السفر.
وفي الدنمارك، حيث خفضت أسعار الفائدة إلى ما دون الصفر قبل عامين من منطقة اليورو، تحولت البنوك من فرض رسوم على العملاء الأثرياء إلى العملاء الأصغر خلال العام الماضي. ويقدر البنك المركزي الدنماركي أن نحو ربع المودعين في البلاد يتأثرون حالياً. وخفض بنك "نورديا أي بي بي" مؤخراً حد الإيداع 0.75 في المئة إلى 250.000 كرونة دنماركية (ما يعادل 41 ألف دولار)، من 750.000 كرونة دنماركية (ما يعادل 121.2 ألف دولار أميركي)، حيث من المرجح أن يؤدي الوباء إلى إطالة أمد عصر المعدلات السلبية. والجانب الآخر بالنسبة إلى العملاء هناك، هو أنه في بعض الحالات بينما يدفعون لإيداع الأموال لا يتعين عليهم دفع أي شيء للاقتراض. وبدأت شركة نورديا في يناير (كانون الثاني) تقديم قروض عقارية لمدة 20 عاماً بنسبة صفر في المئة.