أدرجت منظمة الصحة العالمية "الإجهاد النفسي الوظيفي" أو "الإحتراق النفسي المهني"، ضمن قائمة التصنيف الإحصائي الدولي للأمراض، حيث سيتم الاعتراف بهذه المتلازمة عالمياً في العام 2022. وأشارت دراسة أجرتها مؤسسة "غالوب" للأبحاث عام 2018، على 7500 موظف في الولايات المتحدة، إلى أن الإنهاك الجسدي والنفسي هو محصلة للمعاملة غير العادلة في بيئة العمل وضغوط العمل، وعدم وضوح طبيعة الدور الذي يضطلع به الموظف. وقد يصاب الموظف بالإجهاد والتوتر بسبب عدم الحصول على التشجيع الكافي أو ضغوط العمل، وفق أطر زمنية غير واقعية.
وذكرت منظمة الصحة العالمية ثلاثة أعراض أساسية للإنهاك المهني، وهي الشعور بالإعياء واللامبالاة حيال الوظيفة وتدني الآداء في العمل.
تأثير العمل على المحيط الخارجي
بداية، ما علاقة البيئة العملية بالمحيط الخارجي؟ يربط الأخصائي النفسي العيادي والجنائي عبدالله الوايلي تجربة الموظف العملية بعلاقته مع محيطه الأسري، موضحاً أن "إنهاكه النفسي والجسدي يؤثر سلباً على حياته خارج سور العمل، ذلك أحد أسباب وصول الموظف إلى حالة من الاحتراق الوظيفي"، مشيراً إلى أن الأسباب في ذلك تتعدد، ضمنها، "تفرقة المعاملة بين الموظفين، وإلقاء الأوامر عليهم كالآلات، من دون تفهم الظروف الطارئة المفاجئة المستجدة، كجائحة كورونا. وتصل معالم إجهاد الموظف الى إهمال أسرته، إضافة إلى تضاؤل إنتاجيته. إلى ذلك، صنفت منظمة الصحة العالمية الموظف الذي يعاني من احتراق نفسي أو كما يسمى علمياً بالإنهاك، ضمن أحد الأمراض المتعلقة ببيئة العمل". لافتاً إلى أن الدراسة الحديثة، "صنفت الموظف الذي يعاني من إرهاق نفسي، ضمن أحد الأمراض، بالإشارة إلى ثلاثة مكونات رئيسة، تستوجب تدخل المسؤول، من خلال، تعرضه لاستنزاف الطاقة الجسمية أو الذهنية، ما يؤثر على سير حياته، والنظرة السلبية والسوداوية ضمن محيط بيئة العمل، وما يصاحب ذلك من نفوره لآداء أقل الواجبات. كما تبرز بعض الأعراض الأخرى، كالشعور بالصداع والتأخر عن العمل والانطواء والعزوف عن المشاركات الاجتماعية، ويفقد بذلك الموظف متعة التعامل مع الزملاء". وبطبيعة الحال، يتأثر الموظفون بطريقة مختلفة بالظروف المحيطة، "فالبعض قد ينسجم فيما ينسحب آخر، وذلك له علاقة بالقدرة على التحمل".
ولكن ما هي الحلول؟ يختصرها الوايلي بـ"التركيز على العلاقة التعاملية بين الموظف والمسؤول في شق إيجابي، من خلال التخفيف على الموظف لما يتعرض له من ذعر وقلق وحزن، لكونها ترسبات متراكمة لم تأت فجأة. ويتخذ الدعم شكلاً فردياً وجماعياً، فقد يكون حجم العمل أكبر من استطاعته، ويكون ذلك في جميع الأزمات العملية الطارئة وأهمها الأزمة الحالية جائحة كورونا، وما صاحبها من مشاعر فقدان الأمان لأسباب عدة، بينها عدم توزيع العمل بعدالة، إضافة إلى العمل لساعات أطول، أو وجود زعزعة في رابط البيئة العملية".
خطط طارئة
وفي الزاوية نفسها، يشير الاستشاري النفسي سلطان السبيعي إلى أهمية الاستجابة الفورية للخطط الطارئة، موضحاً أن "جائحة كورونا على سبيل المثال لا الحصر، أثرت على حياة الأفراد، من ضمنهم الموظف، وما صاحب ذلك من تغيير في ساعات العمل من دون خطة مسبقة. البعض وجد صعوبة في التأقلم حين العودة للعمل، وذلك يكشف أهمية الدعم المباشر وغير المباشر للموظف للتأقلم في ظل تغيير الظروف الزمنية". فيما أعاد السبيعي أسباب "الاحتراق الوظيفي" أو كما يطلق عليه علمياً "الإجهاد النفسي الوظيفي"، لأسباب عدة، ضمنها "عدم القدرة في التأثير على القرارات التي تؤثر على سير العمل، إضافة لجدول المواعيد، وقلة حيلة العامل في السيطرة على عمله، من ناحية عدم وجود صلاحيات واضحة، بحيث يجهل المطلوب منه، وفرض سياسات غير مريحة، واضطراب بيئة العمل، والتنمر وقلة الاحترام، والمراقبة أكثر من اللازم، وكثرة ساعات العمل بشكل لا يؤدي للإنتاج، وإحساسه بالعزلة، وعدم التوازن بين حياته العملية والأسرية، ما يمنعه من قضاء وقت مع أسرته، ذلك ما ينتج ضغوطات تظهر على شكل ضغط نفسي، وحزن، ونوبات غضب، وعصبية، واستخدام أدوية مهدئة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأردف "تحتفظ بعض الشركات بالموظف الذي ضخت فيه استثمارها، وصنعت منه شريكاً في النجاح من خلال بناء مهاراته، لدفع زيادة إنتاجه، إلا أن الانسحاب الملحوظ ينتج من البيئة المسمومة، التي ينعدم فيها الأمان. وطالما عرف الموظف احتياجاته، يجب أن يكون الحل هو التطوير، من خلال الدورات وورش العمل التي تناقش العمل من جوانب تصنع منها بيئة جاذبة لا طاردة للموظف، ما سيقع بالضرر على المنظمة نفسها".
كورونا والقلق
وبيّن مؤسس برامج الدعم النفسي في بيئة العمل سعود العمر أن جائحة كورونا، "ضاعفت معدل القلق والاكتئاب وحالات الانتحار، كما أثر نقل بعض المنظمات العمل بطريقة افتراضية إلى ذلك، بعضهم اضطر لاستخدام التكنولوجيا، حيث قلل الاتصال الافتراضي من التواصل الحضوري مع الآخرين، ما ساهم في شعور البعض بالعزلة التي تثير القلق لدى البعض. كذلك صعوبة متابعة العمل عن بُعد، وعدم وجود مكان مهيّأ للعمل من المنزل، وقد يُفهم التواصل الافتراضي بشكل سيّئ مع الأخرين، إضافة للمشاكل التقنية التي قد تطرأ، وقد يتبع العمل عن بُعد، اجتماعات متلاحقة تصل لأوقات يرغب من خلالها الموظف قضاء وقت خاص مع أسرته، ما يرهقه جسدياً ونفسياً".
دلائل الاحتراق المهني
وأشار إلى أن الحلول تتمثل في "وضع لوائح وقوانين للعمل من المنزل، كوضع استراحة فاصلة في الاجتماعات، ووضع حد لانتهاء العمل، وإظهار التعاطف مع الموظفين ومساعدتهم في جميع الأوقات، ودعمهم نفسياً ومعنوياً، والتعرف إلى العلامات التي تدل على وصول الموظف لمستوى احتراق عملي، ومباشرة دعمه، وتحفيز الموظف لتنمية مهاراته عن بعد من خلال الأنشطة والدورات، لصرف التركيز عن جائحة كورونا وإشغاله بشكل دقيق، ووجود فريق دعم نفسي في المنشأة لتوعيتهم ودعمهم".
وأشار العمر إلى مزايا العمل عن بعد، موضحاً "المرونة في ساعات العمل والحضور، ما يساعد الموظفين في قضاء وقت أكبر مع أسرهم، ويقلل التكلفة، وزيادة الإنتاجية، وذلك بحسب الدراسات التي وجدت أن الأمر مشروط بعدم تجاوز ساعات العمل عن المعدل الطبيعي، إضافة لتقليل معدل الغياب، والإجازات المرضية، وجذب عدد أكبر من الموهوبين للانضمام للعمل".
وأردف، "يحترق الموظف نفسياً حين يشعر أن مصادر العاطفة مستنزفة، وفقدان التواصل مع الآخرين، وذلك يعود لأمور عدة، بينها عدم وضوح الأنظمة، ومضايقة بعض الإدارات، ومشاكل العلاقات مع الآخرين، ما يؤثر سلبياً على كفاءته، ويؤثر على إنتاجية العمل، وما يتبعه من خلافات داخلية، لذلك فأن المنظمات التي تحتفظ بالموظفين لسنوات عدة، ترتكز على تعميق الولاء الدائم لهم من خلال التقدير، والعدل بينهم، والاهتمام بالموظف، وتعزيز مفهوم الأمان النفسي داخل المنشآت، وتطويرهم بشتى الطرق، وفتح قنوات تواصل مع العاملين، والتأكيد على أهمية النشاط الجسدي داخل المنشآت، وتحسين بيئة ومكان العمل".