وسط تطورات مفاجئة في منطقة شرق المتوسط، زار وزير الخارجية اليوناني نيكوس دندياس القاهرة، الإثنين، في رحلة تستغرق ساعات بهدف التركيز على متابعة منتدى الصداقة الذي عقد أخيراً في العاصمة أثينا، ومناقشة القضايا الإقليمية والتطورات في شرق المتوسط، بحسب المتحدث باسم الخارجية اليونانية، ألكسندروس بابايوأنو، كما تشمل الجولة زيارة قبرص، حيث سيتم التركيز على قضية الجزيرة المتوسطية.
زيارة دندياس إلى مصر تأتي بعد أيام قليلة من اتصال هاتفي بين الرئيس عبدالفتاح السيسي ورئيس الوزراء اليوناني كرياكوس ميتسوتاكيس، تناولا فيه العلاقات الثنائية "الوثيقة" التي تجمع البلدين في مختلف المجالات، بخاصة التعاون في مجال الطاقة وقضايا شرق المتوسط، بحسب ما جاء في بيان المتحدث باسم الرئاسة المصرية، كما أكد رئيس الوزراء اليوناني أهمية التنسيق المتبادل، خصوصاً في مجال الطاقة وملفات شرق المتوسط، وذلك على نحو يسهم في تحقيق مصالح الشعبين، سواء على المستوى الثنائي أو في إطار آلية التعاون الثلاثي بين كل من مصر واليونان وقبرص.
تكثيف الاتصالات اليونانية مع مصر خلال الأيام القليلة الماضية، يتزامن مع عودة الحكومة التركية للحديث مجدداً عن اتفاق محتمل مع القاهرة في شأن تعيين الحدود البحرية بين البلدين، مصحوبة بسيل من التقارير الصحافية التركية التي تحدثت عن تفاهم بين الدولتين لإنهاء القطيعة في العلاقات، مستندة إلى تعليقات وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو، للصحافيين في أنقرة الأربعاء الماضي، بأن "تركيا ومصر قد تتفاوضان على ترسيم الحدود في شرق البحر المتوسط إن سنحت الظروف".
كسر العزلة
جاءت تصريحات أوغلو تعليقاً على إعلان مصر عن مناقصة للتنقيب عن الطاقة الهيروكربونية كشفت خرائطها أن الحدود الغربية حُددت بموجب الاتفاق بين القاهرة وأثينا، الذي عقد في أغسطس (آب) الماضي، غير أن الخريطة تلتزم بالحدود الجنوبية للجرف القاري التركي المشار إليها في الاتفاق التركي - الليبي. وقال أوغلو إن بحث مصر عن الطاقة يحترم المنطقة الخالصة لتركيا، "وفقاً لمسار علاقاتنا، ويمكننا أيضاً التوقيع على اتفاق مع مصر من خلال التفاوض على المساحات البحرية".
وليست المرة الأولى التي تصدر فيها تصريحات إيجابية من أنقرة تشير إلى رغبتها في التودد إلى مصر وكسر العزلة التي تعانيها نتيجة السياسات العدائية للرئيس رجب طيب أردوغان تجاه جيرانه في المنطقة، ففي سبتمبر (أيلول) الماضي تحدث ياسين أقطاي، مستشار الرئيس التركي، عن ضرورة التواصل مع القاهرة بغض النظر عن الخلافات السياسية، ملمحاً إلى تقارب وتواصل بين البلدين.
وفي يوليو (تموز) 2020، تحدث وزير الخارجية التركي السابق أحمد داوود أوغلو عن ضرورة عقد اتفاق مع مصر حول تعيين منطقة اقتصادية خالصة في شرق المتوسط، وهو ما يثير كثيراً من علامات الاستفهام في شأن إمكان حدوث ذلك وفقاً لقواعد القانون الدولي.
قانون البحار
تركيا لها رؤية خاصة للبحر المتوسط تتعلق بشكل رئيس بعدم اعترافها باتفاق الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982 (UNCLOS)، وهو الاتفاق الذي وقّعت عليه كل من مصر واليونان ولبنان وقبرص، وتحدد المناطق الاقتصادية الخالصة للدول على أنها تمتد 200 ميل من شواطئها.
ولا تقبل أنقرة أحكام الاتفاق الأممي، وتجادل بأن قبرص، وهي دولة جزرية ذات سيادة، يحق لها الحصول على 12 كيلومتراً من المنطقة الاقتصادية الخالصة وحسب، وأن المياه الممتدة جنوباً من الجزيرة منطقة تركية، إلى أن تُصبح مصرية.
وعقب توقيع مصر واليونان اتفاق تعيين الحدود البحرية في أغسطس، روج الإعلام التركي بأن الخط الواصل بين أقرب نقطتين ساحليتين بين مصر وتركيا أقصر من ذلك الواصل بين اليونان وقبرص، على الرغم من أن تركيا تبعد نحو 424 ميلاً بحرياً عن مصر، واليونان تقع على مسافة قريبة نسبياً من قبرص.
وترتبط الحدود البحرية لقبرص واليونان إلى حد ما بمعظم الجزر الشرقية لليونان (كاستيلوريزو وسترونجيلي)، ويمكن تحديد هذا فقط في إطار ترسيم الحدود بين جميع دول المنطقة.
وكانت مصر وقبرص وقعتا اتفاقاً لترسيم الحدود العام 2003، وهو الاتفاق الذي سعى مجلس الشورى المصري في مارس (آذار) 2013، إلى إلغائه بناء على مشروع قانون قدّمه النائب خالد عبدالقادر عودة، القيادي في جماعة الإخوان المسلمين، لمصلحة عقد اتفاق مع تركيا يتجاهل قبرص كدولة ذات سيادة تتمتع بمنطقة اقتصادية خالصة وجرف قاري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى الباحث لدى مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، بشير عبدالفتاح، أن مصر لا ترفض توقيع اتفاقات مع كل دول شرق المتوسط لما يمثله ذلك من مصلحة للجميع، ويوفر مظلة قانونية لشرعنة الاستفادة المصرية من ثروات المنطقة، ومع ذلك فإن المرجعية القانونية المتعارف عليها دولياً (الاتفاق العام لقانون البحار لعام 1982) والتي وقعت القاهرة بموجبه اتفاقاتها مع قبرص واليونان غير معترف به من قبل تركيا، وبالتالي يبقى السؤال، "على أي أساس تريد تركيا الاتفاق على ترسيم الحدود مع مصر؟".
وأضاف عبدالفتاح أن أنقرة تعترف فقط بنظرية الجرف القاري التي تنص على أن الدولة تمتلك مساحات من المياه الإقليمية توازي امتدادات شواطئها، وتركيا باعتبارها تمتلك أطول الشواطئ على البحر المتوسط (أكثر من 2000 ميل بحري)، تريد أن تمتد إلى عمق أكثر من 2000 ميل بحري، ومن ثم فإنها تريد الاستحواذ على شواطئ قبرص وجزيرة كريت اليونانية، وهو أمر غير منطقي لأن البحر المتوسط ضيق ولا يصح تطبيق هذه النظرية عليه.
التزام مصري
وفي حين تعكس زيارة دندياس لمصر قلقاً في شأن التقارب بين القاهرة وأنقرة على حساب دول المنطقة، استبعد دبلوماسيون ومراقبون تجاوز مصر قانون البحار. وقال عبدالفتاح إن القاهرة أوضحت أنها ترفض الجلوس مع الأتراك لمناقشة هذا الأمر بعيداً من قبرص واليونان، وأضاف أن إصرار الرئيس التركي على رفض قانون البحار يشكل عقبة رئيسة أمام ترسيم حدود بلاده مع دول المنطقة، وبالتالي فإن دعواته لمصر من دون مضمون حقيقي، إلا إذا تضمنت جملة "وفقاً للاتفاق العام للبحار"، لافتاً إلى أن مصر تجنبت الجرف القاري لتركيا، ليس تودداً ولكن التزاماً "بحدودنا وسيادتنا".
وفي حديث سابق إلى "اندبندنت عربية"، قال سفير قبرص لدى الأمم المتحدة، أندرياس مافرويانيس، وهو أيضاً أستاذ القانون الدولي في جامعة فريدريك، إن اتفاق ترسيم الحدود بين قبرص ومصر يخضع لاتفاق الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS)، والذي وفقه يتمتع البلدان بحقوق كاملة، ولذلك فإن النتيجة المنصفة المذكورة في المادة (74) من الاتفاق الأممي تحققت من خلال خط الوسط لعدم وجود ظروف خاصة أو عوامل أخرى تؤثر في عدالة النتيجة، ولهذا السبب لم يكن التفاوض على هذا الاتفاق والتصديق عليه لاحقاً محل خلاف.
وأشار إلى أنه كان بإمكان مصر أن تسعى إلى مزيد من الادعاءات في المنطقة إذا تصرفت مثل تركيا في تجاهل تام للقانون الدولي، وإذا كانت ستتبع سياسة توسعية. وقال، "نحن سُعداء للغاية لأن هذا ليس هو الحال، ومصر تحترم الشرعية الدولية، وإذا تم تطبيق النهج التركي في شرق البحر الأبيض المتوسط، فيجب تقسيم البحر في الوسط بين تركيا في الشمال ومصر في الجنوب ولا شيء بينهما، وفي هذه الحالة ربما كانت مصر ستحصل على صفقة أفضل على حساب جميع جيرانها، وهذا ما تستخدمه تركيا كحجة من أجل استدراج القاهرة بعيداً من الشرعية وخارج إطار اتفاق الأمم المتحدة لقانون البحار".
احتمالات تقارب عربي - تركي
لم يصدر رد رسمي من القاهرة على التصريحات التركية التي يبدو أنها محاولة مكررة للتقارب وإبداء حسن النية، بعد سنوات من التوتر وقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بسبب إيواء حكومة أنقرة لأعضاء من جماعة الإخوان المصنفة في مصر والسعودية والإمارات كتنظيم إرهابي، فضلاً عن تصريحات المسؤولين الأتراك المعادية لمصر.
ولا يستبعد المراقبون وجود محادثات بين تركيا والدول العربية لعودة العلاقات.
وتقول الباحثة لدى برنامج الدفاع والأمن في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، مروة مزيد، إن مصر نجحت في تشكيل حاجز قوى ضد طموحات أردوغان في ليبيا وشرق البحر المتوسط سواء برسم خطوط حمراء أو بتشكيل تحالفات لمواجهة تحركاته، لدرجة دفعت أنقرة لمحاولة التقارب مجدداً مع القاهرة من خلال تصريحات مسؤوليها، الذين دعوا إلى الحوار مع القاهرة بدلاً من تجاهلها.
ومن بين سيناريوهات عدة، تشير مزيد إلى أنه ربما تستعيد مصر وتركيا بعضاً من مصالحهما وقيمهما المشتركة التي ميزت العقود السابقة إذا توقف مشروع أردوغان التوسعي ولم تواصله الحكومات التركية المستقبلية، وهو ما أشار إليه عبدالفتاح في حديثه عن مصالحة تشمل تركيا والدول العربية، قائلاً إن الرئيس التركي قبل أن يتحول إلى سياسة "العثمانية التوسعية" و"الوطن الأزرق"، كانت علاقته جيدة مع الدول العربية، مضيفاً أنه حتى الأوروبيين والأميركيين يتعاملون معه بهذا المنطق، فالهدف هو "تهذيب سلوك" أردوغان وليس الإطاحة به.
وفي 13 سبتمبر (أيلول) الماضي، علّق وزير الخارجية المصري سامح شكري خلال مؤتمر صحافي مع نظيره الأرمني زوهراب مناتساكانيان، على دعوة أنقرة إلى عودة التفاهم مع مصر، قائلاً إن "الحديث إذا كان غير متوافق مع السياسات، فلا أهمية له".
وأشار إلى أن السياسات التي نراها من وجود عسكري على الأراضي السورية أو العراقية أو الليبية، وأيضاً ما نراه من توتر في شرق المتوسط تنبئ بتوسعية مزعزعة لاستقرار المنطقة، وهو ما لا يقود إلى حوار.
انتصار سياسي
واعتبر الباحث السياسي التركي، جواد غوك، أن التصريحات الواردة من أنقرة بادرة إيجابية، قائلاً إن المسؤولين الأتراك يعرفون أخطاءهم السابقة تجاه مصر، ولهذا السبب يرجعون عن مواقفهم، وهنا يمكن اعتبار ذلك "انتصاراً سياسياً" للقاهرة التي من جانبها أبدت احتراماً للحدود البحرية.
وأضاف، "تركيا خسرت كثيراً جداً، وكنا بحاجة إلى مثل هذه التصريحات الإيجابية لأنه لم يتبق لأنقرة جار في شرق المتوسط".
وأشار غوك إلى أن المشكلة الرئيسة تتعلق بملف الإخوان، لذا تحتاج تركيا اتخاذ خطوة إيجابية في هذا الصدد مثل "طرد عناصر الجماعة إلى بلد ثالث على الأقل"، فعند ذلك سيكون إقناع مصر بعقد اتفاق لترسيم الحدود سهل. وأضاف أنه يمكن للقاهرة أيضاً أن تلعب دوراً جيداً وإيجابياً كوسيط بين تركيا من جانب واليونان وقبرص من جانب آخر.