في جلسة استماع علنية عقدها البرلمان الإيراني مع وزير النفط، بيجن نامدار زنكنه، لتشريح الموقف الإيراني من قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب "تصفير" صادرات إيران النفطية مطلع الشهر المقبل مايو (أيار)، ووقف العمل بقرار الإعفاءات التي مُنحت لثماني دول قبل ستة أشهر، اتّهم الوزير الولايات المتحدة وحلفاءها بتسييس قطاع النفط واستخدامه كسلاح، معتبرا هذا العمل "خطأ كبيرا"، وأن دخانه سيصيب أعين الكثيرين.
زنكنه اعتبر أنه من غير الممكن منع إيران من تصدير نفطها، وأن النظام والحكومة سيجدان الطرق الكفيلة التي تسمح باستمرار هذا التصدير، من دون تقديم شرح حول هذه الآلية التي سيتم اعتمادها، إلا أنه أشار إلى هشاشة سوق النفط وعدم قدرة الدول الأخرى على تعويض الحصّة الإيرانية، وعدم القدرة على توقع تقلبات السوق وأسعارها، الأمر الذي يزيد من قلق ومخاوف الجهات التي تريد محاصرة إيران في السيطرة على هذه السوق وأسعارها.
وحتى بعد الموقف الصريح الذي أعلنه وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، المتعلق بموضوع النفط الإيراني وانتهاء فترة السماح للدول المستوردة له، فإن النظام والحكومة في إيران لم يعلنا موقفا واضحا للردّ على الإجراء الأميركي، على الرغم من بعض الأصوات التي خرجت من هنا وهناك وتدعو إلى التصعيد وإقفال مضيق هرمز على مبدأ "عليّ وعلى أعدائي"، وعدم السماح لأي من الدول في المنطقة بتصدير نفطها طالما لا تستطيع إيران القيام بذلك.
كثير من المراقبين والمتابعين للشأن الإيراني ذهبوا في قراءتهم الأوليّة لردة الفعل الإيرانية على الإجراءات الأميركية إلى القول بأن الخطوة الأولى لطهران ستكون إقفال مضيق هرمز أمام تصدير نفط الدول العربية، الذي يسهم في 40% من حاجة السوق العالمية، وهي توقعات وجدت صدى لها داخل إيران لدى بعض الأطراف والشخصيات الأكثر تطرفا، والتي ترغب في تصعيد الموقف وصولا إلى مواجهة مباشرة عسكرية مع الولايات المتحدة انطلاقا من إحساسهم بفائض القوة والقدرة على إلحاق الهزيمة بالآلة العسكرية الأميركية وحلفائها في المنطقة، متجاوزين بذلك حقيقة أن مثل هذا القرار يدخل في صلب صلاحيات المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الخاضع مباشرة لإشراف وتوجيه المرشد الأعلى للنظام، وأن هذا المجلس لا يمكن أن يلجأ إلى مثل هذا الخيار بسهولة، أو أن يقع تحت تأثير بعض الآراء والتحليلات و"العنتريات" الصحافية والسياسية غير المدروسة، خصوصا أن التجارب السابقة في بعض القرارات والمواقف التي خضعت لتأثيرات الأجواء الإعلامية، وتحديدا تلك المتعلقة بالموضوع الإسرائيلي (مواقف الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد حول محو إسرائيل والهولوكوست) صبّت في غير مصلحة النظام وأجبرته على التأكيد على التزامه بميثاق الأمم المتحدة والدول الأعضاء واحترامها، إضافة إلى أن اللجوء إلى مثل هذا التصعيد والدفع باتجاه اعتماده كخيار يعني الوقوع في الفخ الأميركي وحلفائه.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: كيف ستتعامل إيران مع التصعيد الأميركي وحرمانها من أهم مواردها المالية والاقتصادية والنتائج المترتبة عليه داخليا؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حتى هذه اللحظة، تبدو إيران في وضع لا تريد فيه أن تذهب إلى خيار الدخول في مواجهة مباشرة عسكرية الطابع مع الإدارة الأميركية، لذلك تسعى إلى اعتماد خيارات عقلانية واتّباع سلوكيات دقيقة تضمن لها تأمين مصالحها والتقليل من حجم الخسائر وتسهم في إفشال الخطة الأميركية بحصارها، وبالتالي الابتعاد عن التصرفات العاطفية وغير المنطقية التي لا تؤدي إلا إلى تعقيد الأمور وجرّها إلى دائرة المخاطرة والخطر.
إذاً، لماذا كل هذه التصريحات، خصوصا تلك الصادرة عن قيادات في "حرس الثورة"، حول إمكانية لجوء إيران إلى إقفال مضيق هرمز، والتي استدعت تحذيرا من الإدارة الأميركية من مغبة اعتماد هذا الخيار؟
وفي تفسير هذا الكلام يمكن القول إن مثل هذا التصعيد يدخل في إطار "الاستهلاك" الداخلي والشعبوي من قيادات في "الحرس الثوري"، خصوصا بعد قرار البيت الأبيض إدراج هذه المؤسسة على لائحة المنظمات الإرهابية، ولتوجيه رسالة إلى الإيرانيين بأن هذا القرار إنما هو استهداف لعامة الشعب، وأن هذه المؤسسة أو القوة هي الجهة التي تتحمل مسؤولية وعبء الدفاع عن المصالح الوطنية والقومية أمام مطامع الأعداء، وبالتالي توسيع دائرة التأييد الشعبي، خصوصا بعد اتّساع الهوّة بينها وبين شريحة واسعة من الإيرانيين على خليفة التصرفات الأمنية التي لجأت إليها في الكثير من المفاصل والأزمات والاحتجاجات الشعبية، إن كانت ذات طابع مطلبي اقتصادي معيشي، أو كانت ذات طابع سياسي، كما حصل مع "الحركة الخضراء" والاعتراض على إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد في دورة رئاسية ثانية عام 2009.
زنكنه، وزير النفط الإيراني، اعتبر أن أهم ورقة لمواجهة تحديات القرار الأميركي تكمن في الوحدة الداخلية بين جميع المستويات والتضامن، والرهان على إمكانية إيجاد مساحات للالتفاف على هذه العقوبات من خلال تعزيز التعاون والتنسيق مع الدول المتضررة من هذا القرار، إضافة إلى العمل على إيجاد مخارج أخرى.
ومن المتوقع أن تشهد الأوساط الإيرانية في المرحلة المقبلة جدلا حادا حول جدوى البقاء والاستمرار في الاتّفاق النووي، الذي سبق أن وقّعته طهران مع مجموعة دول 5+1، خصوصا بعد خروج الولايات المتحدة، إلا أن المرجح هو غلبة التيار الداعي إلى التمسك بهذا الاتفاق وعدم الانسحاب حتى لا تتحقق الرغبة الأميركية، ومنعاً لحصول إجماع دولي تشترك فيه الدول المشاركة في الاتفاق، على الرغم من انزعاج طهران من هذه الدول التي ما تزال تماطل في تنفيذ آلية التعامل المالي التي وعدت بها للالتفاف على القرار الأميركي التي وعدت بها.
هل ستقدم إيران تنازلات؟
في الاستراتيجية الإيرانية والعقيدة العسكرية، فإن أي حرب مباشرة مع الولايات المتحدة وحلفائها في حال تعرضت إيران لأي ضربة عسكرية، فالخطوة الأولى ستكون تعطيل مضيق هرمز أمام الملاحة الدولية، وقد وضعت لهذه اللحظة العديد من الخطط التي تكفل لها تعطيل المضيق في الأقل لعدة أشهر، وبالتالي تحويل مياه الخليج إلى بحيرة مقفلة وساحة للمواجهة. لذلك فإنه من المستبعد أن يتم اللجوء إلى هذا الخيار طالما لم تحدث هذه المواجهة، وعليه فإنها وأمام حصارها النفطي ليست في وارد اللجوء إلى الخيار النهائي. وخيارها الاستراتيجي الأول سيكون "الصبر" مع العمل على تأمين الحد الأدنى من إمكانية تصدير النفط عبر التهريب ودول المحيط وبأسعار مغرية أقل من السعر العالمي (العراق وتركيا وآسيا الصغرى والقوقاز والهند والصين وكوريا الجنوبية)، ورفع مستويات التصدير من قطاع الغاز والبتروكيمياويات التي باتت تشكل نسبة كبيرة تجاوز 34% من العائدات، والعمل على توفير الطرق التي تمكّنها من الحصول على عائداتها المالية بالعملة الصعبة أو التبادل التجاري، بانتظار الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة بعد سنتين والرهان على خروج الرئيس ترمب من البيت الأبيض، قبل التفكير في أي مفاوضات في حال استمر في الرئاسة لدورة ثانية.
واستراتيجية الصبر لدى النظام الإيراني وعدم القبول بتقديم أي تنازلات أو الدخول في مفاوضات تحت ضغط العقوبات، قد يكون السبب فيه خشية النظام من الآثار الداخلية لهذه التنازلات، وأنه قد يكون مضطرا إلى تقديم تنازلات على الصعيد الداخلي أمام القوى السياسية التي تقف في صفّ أو تصنّف في صف المعارضة إذا قدّم تنازلات لواشنطن، ما يعني أن النظام سيمارس المزيد من التعنت في مواقفه الرافضة لأي من الشروط الأميركية المتعلقة بتغيير سلوكياته الإقليمية والسير على حافة الهاوية بانتظار اللحظة الحرجة والمصيرية التي يشعر فيها بالخطر الحقيقي.