يجري الآن توجيه اتهام إلى "نزعة قومية محيطة باللقاحات" في مختلف أنحاء العالم بعدما دخل إنتاج الإمدادات من لقاحات فيروس كورونا عبر العالم في اختناقات. ووُجِّه الاتهام في المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي في ما يتعلق بقواعده الجديدة، التي كشف النقاب عنها الأربعاء، للحد من صادرات الكتلة في ظل ظروف معينة. لكن داخل الاتحاد الأوروبي ثمة زعم مماثل في شأن سلوك المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
ويشكو سياسيون ومسؤولون في الاتحاد الأوروبي من أن الكتلة صدَّرت 43 مليون جرعة لقاح إلى 33 دولة، لكنها تعاني من نقص في الداخل، ولم تتلق أي شحنات من مراكز الإنتاج الكبيرة مثل بريطانيا أو أميركا.
ما الذي ينبغي أن نستخلصه من هذه الاتهامات والاتهامات المضادة؟ لماذا حدث انهيار من المحتمل أن يكون خطيراً كهذا في هذا الموضوع؟ وأي البلدان تتصرف حقاً بنزعة قومية عندما يتعلق الأمر باللقاحات؟ هل يُساء إلى بعض البلدان ظلماً؟
قبل معالجة هذه المسألة، من الجدير بنا أن نعترف بأن هذا الموضوع أصبح متشابكاً مع أوجه قصور حظيت بتغطية إعلامية جيدة، تعيب برنامج الاتحاد الأوروبي لطرح اللقاحات التي لديه، فضلاً عن الجمود في شأن المخاوف المتعلقة بسلامة لقاح "أسترازينيكا" التي أدت إلى تعليق استخدامه من قبل عديد من بلدان الاتحاد الأوروبي في وقت سابق هذا الشهر.
وتوترت الأجواء أكثر بفعل التداعيات الحادة الناجمة من بريكست. لقد أصبحت الإحاطات الإعلامية وكثير من التعليقات حول هذا الموضوع مسيسة وحزبية على نحو متزايد.
لذلك من الضروري أن نحاول على الأقل أن ننزع تلك الأثقال المسيسة. وفي قلب هذه الضجة تكمن شحنات لقاح "جامعة أكسفورد / أسترازينيكا"، الذي يُصنع في المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي.
فـ"أسترازينيكا"، وهي شركة أنجلوسويدية للمستحضرات الصيدلانية، لديها عقود توريد كبيرة مع كل من المملكة المتحدة (100 مليون جرعة) والاتحاد الأوروبي (400 مليون جرعة)، لكنها أبلغت المفوضية الأوروبية في يناير (كانون الثاني) أنها لن تفي بالتزاماتها لها بخصوص النصف الأول من هذا العام. لكنها أفادت أيضاً بأنها ستستمر في تنفيذ عمليات التسليم المخطط لها في المملكة المتحدة، حتى من المصانع التي تتخذ من البر الرئيس لأوروبا مقراً لها.
وهذا أسفر عن جدل محتدم حول التزامات "أسترازينيكا" التعاقدية، وكثير من التكهنات حول معنى بنود التسليم "وفق أفضل الجهود المعقولة" الواردة في القانون البلجيكي، الذي وُقِّع بموجبه عقد الاتحاد الأوروبي مع "أسترازينيكا"، وفي قانون المملكة المتحدة الذي يحكم عقد "أسترازينيكا" في المملكة المتحدة.
مال محامون في المملكة المتحدة إلى الزعم بأن الشركة محقة في إعطاء الأولوية لعمليات التسليم في المملكة المتحدة، في حين مال نظراء لهم في الاتحاد الأوروبي إلى قول عكس ذلك.
"لم أر قط محاذير قليلة كهذه من محامين"، يقول أستاذ القانون الدولي وقانون الاتحاد الأوروبي في كينغز كوليدج بلندن King's College London، هولغر هسترماير، الذي يعتقد بأن من الصعب للغاية في واقع الأمر الجزم حول الأمر في هذا الاتجاه أو ذاك.
ولم يتضح الموقف بسبب الافتقار إلى الشفافية في شأن اتفاقية ترخيص سابقة موقعة بين "أسترازينيكا" والمملكة المتحدة في مايو (أيار). واقترح رئيس الشركة، باسكال سوريوت، أن هذه الاتفاقية تشرح السبب الذي يجعلها تعطي الأولوية إلى المملكة المتحدة. ويقال إن الاتفاقية تحتوي على بند ينص على "المملكة المتحدة أولاً"، وهو شرط لاتفاقية التمويل بين جامعة أكسفورد والحكومة البريطانية (ووصفها وزير الصحة في المملكة المتحدة مات هانكوك هذا الأسبوع بأنها "صفقة حصرية")، لكن لم يعلَن عن تفاصيلها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحتى العقدين الرئيسين (مع الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة) اللذين نُشِرا يُنقحان جزئياً ويُجرّدان من المعلومات حول التسعير، الأمر الذي يغذي الشكوك داخل الاتحاد الأوروبي في أن بعض الطلبات تُنفذ في وقت أسرع بسبب هوامش ربح أعلى للشركة.
وهذا النوع من السرية التعاقدية له ما يبرره عموماً على أساس السرية التجارية والمنافسة، لكنه في السياق الحالي يعمل لتغذية حال من عدم الثقة.
ويقول السيد هسترماير، "قد يكون مزيد من الانفتاح مبرراً في هذا الموقف من الأزمة. لكن بعيداً عن المناقشة المحددة في شأن العقود، هناك أيضاً اختلاف في وجهات النظر حول ما يشكل سلوكاً معقولاً من قبل الحكومات.
ويبدو أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة جعلتا إعطاء الأولوية إلى مواطنيهما شرطاً من شروط الدعم العام الممنوح إلى الباحثين في مجال إنتاج اللقاحات والعقود التي أبرمتاها مع شركات التصنيع.
وفي مقابلة أجريت معه في فبراير (شباط)، تباهى السيد هانكوك قائلاً، "لم أكن لأقبل بعقد يسمح بتسليم لقاح أكسفورد إلى آخرين من مختلف أنحاء العالم قبلنا".
ومن ناحية أخرى، يبدو أن الاتحاد الأوروبي افترض وجود تساو للفرص أمام العملاء كافة في عمليات ضخ التمويل والعقود، والآن يشعر وكأنه عوقب على ذلك. وتشكل التهديدات التي تفرضها بروكسل بحجب الصادرات محاولة، كما ترى، لتعزيز تساوي الفرص وإقناع بلدان أخرى بتخفيف القيود المفروضة على التصدير.
ويقول مجتبى رحمن من "مجموعة أوراسيا"، "من منظورهم تصبح أي فكرة تقول إنهم يتسمون بالنزعة القومية عندما يتعلق الأمر بإمدادات اللقاح، سخيفة عندما ننظر إلى البيانات (الخاصة بالتصدير).
فـ(أدوات مراقبة التصدير) تمنح الاتحاد الأوروبي قدراً أعظم من النفوذ، وهذا من شأنه أن يمكن الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة من الاتفاق على الجرعات وأن يساعد في تعزيز العرض. وهذا رمز يؤكد لمواطني الاتحاد الأوروبي أن الكتلة تتعامل بجدية مع المشكلات المرتبطة بطرح اللقاحات. وفي الأمد القريب في الأقل، من غير المرجح أن يطبقوا هذه الأداة فعلياً، فهم يزودون أنفسهم بالأدوات".
ويشير الخبراء أيضاً إلى أن الاتحاد الأوروبي كان أفضل كثيراً من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في تقديم جرعات لقاح حقيقية (في مقابل تعهدات بالتمويل) إلى البلدان النامية من خلال برنامج "كوفاكس"، وهو المبادرة العالمية التي تهدف إلى الوصول العادل إلى لقاحات "كوفيد-19".
ومن جانبها، تنفي حكومة المملكة المتحدة أي نزعة قومية في نهجها الخاص بالتلقيح، وتصر على أنها تجني ببساطة المنافع المترتبة على العمل السريع (بسرعة أكبر من الاتحاد الأوروبي) لإرسال أوامر شراء مسبقة إلى المصنعين والتحلي بقدر أكبر من البصيرة في صياغة العقود.
والجدير بالملاحظة أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ليست كلها مؤيدة للتهديد بوضع قيود على تصدير اللقاحات، أو لفرض تلك القيود.
وقال رئيس الوزراء الإيرلندي مايكل مارتن مؤخرا، "هذه ليست لقاحات للاتحاد الأوروبي. هذه لقاحات مدفوعة الثمن من قبل بلدان أخرى ومصنعة في أوروبا".
وكان التوجه القومي لموقف واشنطن من اللقاحات أكثر وضوحاً، ويقال إنه كان وقحاً. فقد وقع دونالد ترمب أمراً تنفيذياً في ديسمبر (كانون الأول) بمنح الأميركيين الأولوية الأولى لأي لقاحات قد تُصنَع على أرض الولايات المتحدة. وعلى الرغم من مخالفة نظام ترمب في عديد من الجوانب الأخرى، لم تلغِ إدارة بايدن هذا النظام.
كذلك استحضرت إدارة بايدن نفسها قانون الإنتاج الدفاعي هذا الشهر لتوجيه المدخلات إلى صنع اللقاحات.
وأدى هذا إلى توليد مشكلات غير مباشرة. واستشهد "معهد سيروم" Serum Institute في الهند (الذي يصنع لقاح "أسترازينيكا" بترخيص) بالقيود الشاملة التي تفرضها الولايات المتحدة على الصادرات من المعدات الطبية، مثل الأكياس والفلاتر، كسبب لمشكلاته الإنتاجية الأخيرة. ويبدو أن مشكلات الإنتاج هذه، وليس تحركات الاتحاد الأوروبي، هي السبب الرئيس وراء تباطؤ الإمدادات من اللقاحات في المملكة المتحدة بشكل حاد كما هو متوقع الشهر المقبل.
ويقول الخبير التجاري في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي Peterson Institute for International Economics، تشاد باون: "تفعل هذه الجهات كلها، سواء كانت الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو المملكة المتحدة، ذلك الآن بأشكال مختلفة".
ويوافق السيد هسترماير على أن "كل الأطراف مذنبة بطرق وأشكال مختلفة"، مشيراً إلى أن أثر بند التقييد في العقد من الممكن أن يخلف الأثر العملي نفسه الذي قد يخلفه منع الصادرات من أي إقليم.
وعلى الرغم من هذا يزعم الخبراء أيضاً أن المناقشة تفتقر إلى فارق بسيط. ويشير السيد باون إلى أن السياسات القاسية الأميركية التي تقوم على "عملية السرعة القصوى" في ظل إدارة ترمب، نجحت في زيادة إنتاج اللقاحات المحلية بسرعة كبيرة وتخفيف الاختناقات.
ويزعم السيد هسترماير أن حكومة المملكة المتحدة، نظراً إلى الحظر المفروض على تصدير اللقاحات في الولايات المتحدة، ربما كان من المعقول أن تعقد صفقة إنتاج مع "أسترازينيكا" وليس شركة "ميرك" التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها، خلافاً للتفكير الأولي، لتصنيع لقاح "أوكسفورد". وإلا ربما وجدت نفسها، مثل الاتحاد الأوروبي، غير قادرة على الوصول إلى عديد من العقاقير بعد تخزينها في الولايات المتحدة.
ويقول، "يتعين علينا أن نرى التعقيد قبل أن نلوم الطرف الآخر على الفور".
بيد أن التحدي الملح الآن ليس التوفيق بين وجهات النظر المتباينة حول السلوك في وقت مبكر من الأزمة، بل الاعتراف بأن كل البلدان لديها الآن مصلحة قوية للغاية في تنسيق جهود التلقيح العالمية.
فمن المحتم أن يؤدي التلقيح غير المنظم أو البطيء في مختلف أنحاء كوكب الأرض إلى تقييد السفر الدولي بسبب مخاطر استيراد فيروسات متغيرة جديدة تكون اللقاحات غير فاعلة في التصدي لها.
وستفتح القيود على الصادرات الباب أمام إجراءات انتقامية. فإذا ما كان للاتحاد الأوروبي أن يمنع صادرات لقاح "فايزر" من المملكة المتحدة، فقد يكون بوسع بريطانيا من الناحية النظرية أن تحظر تصدير جزيئات الدهون النانوية إلى الاتحاد الأوروبي، وهي مكون كيماوي مطلوب لتصنيع ذلك اللقاح لدى الاتحاد الأوروبي. وقد ينهار الإنتاج بالكامل في ذلك الوقت، وسيعاني كل من الجانبين.
وقد تسلك البلدان النامية أيضاً طريق الحماية إذا فشلت البلدان الأكثر ثراءً في التعاون. وكانت هناك علامات تشير إلى هذا بالفعل، إذ قال رئيس "معهد سيروم" في الهند الشهر الماضي إن المعهد "وُجِّه" لإعطاء الأولوية للاحتياجات المحلية.
ويمكن لنزاع انتقامي على اللقاحات (أو تدافع حمائي عام) أن يؤدي بسهولة إلى اضطرابات اقتصادية عالمية على أوسع نطاق، وهذا من شأنه أن يلحق الضرر بالمستويات المعيشية وتشغيل العمالة، ويعطل أشكال سلاسل الإمداد العالمية كلها. وقد يؤدي هذا إلى تراجع التعافي بعد الصدمة الملحمية التي تسببت بها هذه الجائحة.
يقول السيد باون من معهد بيترسون إنه يتعين على الحكومات أن تنحي جانباً المشاحنات حول النزعة القومية السابقة في ما يخص اللقاحات وأن تسعى إلى صياغة معاهدة جديدة في شأن اللقاحات لزيادة إنتاجها في مختلف أنحاء العالم وتزويد البلدان النامية بها، مع وضع مستهدفات محددة لتلقيح العاملين الصحيين الضعفاء في تلك البلدان.
ويضيف، "يتعين علينا أن نفكر في المكان الذي نقف فيه مقارنة مع 90 في المئة من بقية العالم، حيث لا توجد أي جرعة على الإطلاق".
ويتمثل حل النزعة القومية في شأن اللقاحات، بغض النظر عن الطرف الذي يشارك فيها، في النزعة الدولية بخصوص اللقاحات.
© The Independent