أيقظت المومياوات الملكية وموكبها وحفلها ونقلها وبثها المباشر، قضية ظن الملايين أنها ميتة إكلينيكياً منذ زمن، ألا وهي وضعية المرأة المصرية في مصر الحديثة.
مصر الحديثة التي يعتريها تجاذب شديد، وإن كان مكتوماً بين طرفي نقيض: الأول فريق يسمي نفسه "ملتزماً"، ويسميه الآخرون "متزمتاً"، حيث إن الهوية "دينية" بحتة في أن المرأة مكانها البيت، ودورها الإنجاب والتربية ومتعة الرجل، والآخر يسمي نفسه "متنوراً"، ويسميه الآخرون "منفلتاً"، حيث الهوية مصرية بحتة، والانتماء وطني، والمرأة مكانها البيت والعمل والفن والسياسة والاقتصاد وما تيسر.
المصريات العظيمات
سيرة "المصريات العظيمات" على كل لسان منذ الليلة التي أبهرت مصر والعالم. موكب المومياوات الملكية أثبت بالحجة والمتابعة أن هناك فريقين مصريين متعطشين للمواجهة والمكاشفة. الفريق الأول يضم العديد من أصحاب التوجهات المتراوحة بين ازدراء الحضارة الفرعونية والإغراق في الانتماء الديني والتعامل مع الاختلاف باعتباره نقمة ومحاولة طمس كل ما هو غير إسلامي في مصر، حفاظاً على الهوية الدينية واتقاء لشرور تعريض الدين للخطر والخصوصية للاختراق.
والفريق الثاني يحوي العديد من أصحاب التوجهات المتراوحة بين ازدراء الفريق الأول والرغبة العارمة في استعادة الهوية المصرية التي لا تعتمد بالضرورة على جانب واحد ديني من التاريخ، واعتبار الاختلاف نعمة ومحاولة استعادة مصر، حيث التعددية الثقافية والفكرية واحترام الخصوصية.
خصوصية نساء مصر
خصوصية وضعية النساء في مصر وجدت نفسها منذ موكب المومياوات تحت مجهر كبير. موجات عارمة من الشد والجذب اعترت منصات التواصل الاجتماعي على مدار أيام قبل انطلاق الموكب. ووجدت "كارينا" نفسها مثار عراك فكري وتنابز أيديولوجي، حيث فريق يخلط الجد بالهزل متضرعاً إلى السماء بألا يفسد "الكارينا" موكب الملكات.
و"كارينا" واحدة من ماركات الملابس القطنية المطاطة تستسخدمها المحجبات لارتداء الملابس العادية لتبدو وكأنها طبقة ثانية من الجلد لفرط التصاقها به.
خناقة "كارينا"
"خناقة كارينا" اتخذت شكلاً ساخراً لم يتحمله الفريق الآخر. كتب أحدهم ساخراً "يا رب بحق يوم الجمعة المباركة تكون ملابس نقل المومياوات مشرفة. مسألة كارينا وطرحة الشعر البنفسجية غير مقبولين، ويكفينا ما نتجرعه منهما طيلة الوقت". وغرد آخر "أقبل أياديكم لا تكونوا سبباً في حزننا يوم الموكب بالكارينا. هذا حدث عالمي لن يتكرر".
مثل هذه التدوينات والتغريدات وجدت جيوشاً جرارة تدافع عن "الدين والمتدينين"، وكأن انتقاد ارتداء المصريين القدماء لـ"الكارينا" حرب ضد الدين. وزع "المدافعون عن الدين" أنفسهم لتقفي أثر "المحرضين" ضد "كارينا" على "فيسبوك" و"تويتر"، وغيرهما من منصات التواصل الاجتماعي، ودارت الغالبية المطلقة من التعليقات، في إطار الاتهام بكراهية الدين وازدراء المحجبات ومعاداة المتدينين.
السجال الدائر في مصر على مدار السنوات العشر الماضية، وتحديداً منذ اندلاع رياح ما يسمى "الربيع العربي" عام 2011، حول هوية مصر وهل هي إسلامية فقط، أم متعددة الأصول توهج بفعل موكب المومياوات.
الملايين المثبتة أمام شاشات البث التلفزيوني المباشر ليلة أمس، لم تكن تتابع فقط مجريات نقل 22 مومياء ملكية، ولكن النفوس كانت عامرة، إما بالترقب المشوب بالرغبة العارمة في أن يأتي الحدث مبهراً مضيئاً يليق بحضارة سبعة آلاف سنة، أو بترقب مشوب بالرغبة العارمة في أن يأتي الحدث مدمراً يليق بحضارة يعتبرها البعض أنه ما كان لها أن ترى النور لأنها "حرام"، أو بترقب مشوب بالرغبة العارمة في أن يشاهد ما لا يعرف عنه شيئاً من قريب أو بعيد.
تعليقات كاشفة
بعد البث تفجرت التعليقات الكاشفة عن التوجهات. فبين مهلل محتف بعودة مصر واستيقاظها مما يشبه موتاً ثقافياً إكلينكياً طال أبرز مكوناتها ألا وهن النساء، ونادب مبتئس بمعاودة الحضارة الفرعونية الظهور على الرغم من أنف جهود الوأد، ومكتشف بأن مصر لها تاريخ حافل من التحنيط وأفكار الموت والحياة والخلود، لا صوت يعلو حالياً فوق صوت المومياوات.
الأفكار المحنطة
وعلى الرغم من أن نصيب الإناث في موكب المومياوات كان أربع فقط من بين 22 مومياء، فإنهن سيطرن على المشهد. الكاتب خالد منتصر كتب "عيد المرأة المصرية كان في الموكب الملكي. عاشت تاء التأنيث حرة تلون حياتنا بألوان البهجة بعيداً من ثقافة السبايا والجواري والإماء التي زيفت وعيها بها وسجنت فيها حتى ولو كانت القيود أساور من ذهب. عودي فرعونية يا تاء التأنيث، حيث كانت جداتك ملكات مقدسات، لا عورات ملعونات".
مومياوات على قيد الحياة
وكتبت سيدة مصرية "المومياوات اللاتي على قيد الحياة وسلمن أدمغتهن وكيانهن وحياتهن لأفكار جامدة محنطة عليهن أن يراجعن أنفسهن".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وردت أخرى "المصريون القدامى كانوا يحلقون شعرهم ولحاهم، والنساء كن يتطيبن ويتجملن ويتزين بالأحجار والمعادن ويحرصن على أن يكون شعرهن مجدلاً. كن يفخرن بجمال طلتهن. لم يكفرن حضارتهن، ولم ينظر إليهن أحد باعتبارهن عورات مثيرات للشهوات، ولا كن ينظرن لأنفسهن باعتبارهن ناقصات أو ضعيفات. أتمنى أن تعي الحفيدات الدرس، ويراجعن أنفسهن".
جانب من مراجعة الذات سببه "عظيمات مصر"، هذا الهاشتاغ الذي اعترى مواقع التواصل الاجتماعي على يد الفريقين المتناحرين.
الفريق الأول جمع صور الفنانات والعازفات والمطربات والراقصات المبهرات الجميلات الرائعات اللاتي كن نجمات متلئلآت. فبين الفنانات منى زكي ونيللي كريم وهند صبري، والسوبرانو أميرة سليم التي أبهرت الجميع بالأنشودة الفرعونية التي تألقت في غنائها، والمطربتين نسمة محجوب وريهام عبد الحكيم وغنائهما المبهر، ونجمة العرض الموسيقي عازفة التيمباني رضوى البحيري التي أجمع كثيرون على كونها رمزاً للشموخ والثقة والجمال، وزميلتها عازفة الكمان ابنة الـ18 عاماً التي تألقت وأبدعت، وجموع الراقصات اللاتي وجدن في غير موقع في الوقت نفسه، وأثبتن رشاقة وتنظيماً وجمالاً وتناغماً كانت المرأة المصرية التي طال غيابها الأكثر حضوراً وبزوغاً في الفعالية.
فعالية كاشفة
لم تقتصر الفعالية الكاشفة على إخضاع وضعية المرأة المصرية للمراجعات الثقافية والحياتية، بل امتدت كذلك للحضارة المصرية برمتها.
المؤرخ ماجد فرج كتب "شهدنا اليوم بعثاً طال انتظاره، بعثاً للشعور القومي والفخر الوطني، بعثاً للانتماء لمصر وحضارتها دون غيرها، بعثاً للهوية وبداية قوية للتخلص من الشوائب التي لوثت عقول البعض منا، وشتت ولاءها".
الفريق الآخر حاضر كذلك بصور وأشكال شتى. الداعية المصري المثير للجدل عبد الله رشدي غرد قائلاً "هي مصر العربية الإسلامية. هذه هويتنا، شاء من شاء، وأبى من أبى"، وهي التغريدة التي أغضبت كثيرين، وإن كانت متوقعة.
وكعادة السنوات العشر الماضية، حيث شد الهوية الوطنية وجذب الانتماء الديني، هرع كثيرون إلى صب الغضب على رشدي، فما كان منه إلا أن ألحق ما كتب بقوله "فرحون بحضارة سبعة آلاف سنة. فرحون بعراقة تاريخنا، لكن هذا لن يغير من هويتنا شيئاً. هويتنا العربية، هويتنا الإسلامية. أنا فخور بوطني، لكن هذا لن يغير من هويتنا شيئاً. هويتنا العربية، هويتنا الإسلامية. أنا فخور بوطني، فخور بعراقة تاريخي، مستمسك بعروبتي وإسلامي. لن نترك تاريخنا بلا عناية، ولكن لن ننفصل عن هويتنا بحال من الأحوال، وإذا غضب بعضهم فمعلش".
فتح قبور الفراعنة
يذكر أن أستاذ الفقة المقارن في جامعة الأزهر أحمد كريمة، أكد قبل أسابيع قليلة في برنامج تلفزيوني أن فتح قبور الفراعنة ودخولها واستخراج الجثامين منها وعرضها في الواجهات "حرام شرعا"ً. وأضاف أن "استخراج الجثامين من القبور يجب أن يكون للبحث العلمي فقط، وليس لعرضها للناس بالدولار واليورو"، مشيراً إلى أن عرضها في المتاحف يحول الأجداد إلى "مسخرة".
مساخر ومفاخر لا حصر لها تدور رحاها هذه الآونة على وقع موكب المومياوات. وإذا كان عالم المصريات الأثري زاهي حواس رد على كريمة في حينها بقوله إنه "لا يتم نبش قبور مسلمين أو مسيحيين أو يهود أو غيرهم، وإن وظيفة عالم الآثار الأساسية هي ترميم التوابيت والمومياوات للحفاظ عليها وإحياء عظمة الحضارة الفرعونية العظيمة، وإن العرض في المتاحف يتم بطريقة حضارية تسلط الضوء على الإنجازات الخاصة بكل ملكة أو ملكة ومقتنياته وأثره في التاريخ".
لكن التاريخ يظل شوكة في حلق البعض. في عام 2012، وصف الناطق باسم الدعوة السلفية في مصر، عبد المنعم الشحات، الحضارة الفرعونية بـ"العفنة"، لأن أي طريقة حياة أو تصرفات مخالفة للشريعة مرض، موضحاً أنه لا يشعر بالفخر تجاه صور الفراعنة العراة "لأنها كفر".
وفي العام نفسه، دعا مرجان الجوهري الذي عرف بمنظّر السلفية الجهادية، إلى هدم الأهرامات وأبو الهول، حتى يتسنى تطبيق الشريعة الإسلامية بشكل كامل وتطهير الاقتصاد المصري، حيث إن "التوحيد لا يقبل وجود صنم يعبد أو لا يعبد". وتحدث الجوهري بفخر عن أبرز إنجازاته، ألا وهو مشاركته في تفجير تمثال بوذا في باكستان.
ومن باكستان إلى "متحف الحضارة" في الفسطاط بالقاهرة، مروراً بميدان التحرير، سطرت مصر والمصريون فصلاً جديداً من فصول الشد والجذب بين محاولات استعادة الهوية من جهة والإمساك بتلابيب هوية مكتسبة من جهة أخرى، حيث المرأة المصرية تجد نفسها في القلب من كل الفصول.