إن مشاهدة الناس للقطات التلفزيونية عن الاضطرابات التي تحصل في إيرلندا الشمالية والتساؤل: "لماذا تحدث أعمال الشغب؟"، أمرٌ يجعل عملية السلام الإيرلندية إنجازاً يستحق الثناء عليه. ففي الذاكرة التاريخية الحية للمقاطعة، لم تكن أحداثٌ كرمي بعض القنابل الحارقة أو الحجارة في شوارعها لتحظى بأهمية إخبارية، بل لكان الناس يتساءلون لماذا الأمور هي على هذا النحو من الهدوء.
الإجابة المختصرة عن السبب وراء نشوء التحركات الأخيرة التي شهدتها مقاطعة ألستر هي: "الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي". فالإطار الذي تشكلت فيه هذه العملية حتى الآن، تسببت في رسم حدود تنظيمية واقتصادية في البحر الإيرلندي، مع وضع ضوابط على الواردات والسلع الآتية إلى إيرلندا الشمالية من بريطانيا العظمى، أي نقلها من جزء من المملكة المتحدة إلى جزء آخر منها. وقد تم تفضيل هذا الخيار على الاضطرار إلى ترسيم الحدود بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي في البقعة المتوخاة، أي على طول الحدود مع إيرلندا، وذلك كي لا يتم انتهاك نص المعاهدة الدولية المتمثلة في "اتفاق الجمعة العظيمة في بلفاست"، وأيضاً روح عملية السلام التي انطوت على التظاهر بعدم وجود حدود سياسية، وهذا ما حصل. بالتالي، كان يتعين على الحدود الغربية الجديدة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي أن تُرسم في مكان ما. المكان الأكثر ملاءمة هو إيرلندا الشمالية.
الواقع الجديد تسبب من الناحية العملية بإزعاج فائق للشركات والمستهلكين على حد سواء. فانعكاسات ترسيم تلك الحدود على هذا النحو تمثلت في فرض مختلف أنواع التكاليف الإضافية على انتقال كل ما يرتبط بحيوانات نافقة أو في الواقع بحيوانات حية. وباتت المواد غير الضارة على غرار شجيرة ورد زُرعت في يوركشاير (في إنجلترا) وأرسلت إلى أحد مراكز الحدائق في أرماغ (في إيرلندا الشمالية)، محظورةً لأنها قد تحتوي على تربة مصدرها "بلد ثالث" ويُحتمل أن تكون خطرة، كما لو أنها آتية مباشرة من منطقة مفاعل تشيرنوبيل. أما من الناحية السياسية، فإن أحداً لا يمانع إن كانت هنالك ضوابط وأعمال تدقيق مزعجة ومكلفة على عمليات نقل المحار البريطاني أو شجيرات الورد أو شطائر الدجاج، من المملكة المتحدة إلى فرنسا أو هولندا، لأن الحدود عند الموانئ بين الدول الثلاث لا تحمل في طياتها ذكرى معاناة 800 عام من النزاع المذهبي.
جُل ما في الأمر أن المسألة تتعلق بالتجارة والمال. فإقامة مثل تلك "الحدود" بين بريطانيا العظمى وإيرلندا الشمالية يُعد لأسباب واضحة خطوةً مستهجنة بالنسبة إلى مؤيدي الاتحاد مع المملكة المتحدة. وعلى الرغم من تفويض السلطة إلى الإقليم، فإن هؤلاء يعتبرون إيرلندا الشمالية جزءاً لا يتجزأ من المملكة المتحدة، شأنها شأن مقاطعة سومرست الإنجليزية في الجنوب على سبيل المثال، وهي نقطة لطالما رددها "المحافظون الاتحاديون" التقليديون مثل جيكوب ريس موغ (من أشد المؤيدين لبريكست ووزير الشؤون البرلمانية في حكومة جونسون). ويُفترض بـ"قانون السوق الداخلية في المملكة المتحدة" UK Internal Market Act أن يؤكد استمرار هذا الوضع. لكن من الواضح أنه ليس على هذا النحو. من هنا ينبع كل هذا الغضب الشعبي ومشاهدتنا لزجاجات المولوتوف تُلقى من كل حدب وصوب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا الغضب المتنامي بات يشكل خطراً داهماً حقيقياً لأن احتواءه لم يعد بالأمر السهل. فقد قررت الحكومة البريطانية من جانب واحد تخفيف بعض القيود، الأمر الذي حدا بالاتحاد الأوروبي إلى أن يحيلها إلى المحاكمة. وفي مختلف الأحوال، لم يمر ذلك من دون صدور ردود فعل قوية كانت أبرزها أعمال شغب وتهديدات بقتل موظفي المراكز الحدودية في ميناء لارن شرق المقاطعة. وتتمثل الحقيقة المزعجة في أن الحدود الاقتصادية القائمة الآن في موانئ إيرلندا الشمالية قد تم اعتمادها رسمياً من جانب المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، ضمن معاهدة دولية تم تسجيلها لدى الأمم المتحدة، وكانت العواقب المترتبة عنها متوقعة وتم التحذير منها قبل فترة طويلة. وفي الواقع، كان بوريس جونسون الذي استقال من حكومة تيريزا ماي، أحد تلك الأصوات التي أطلقت تحذيرات في ما يتعلق بهذه القضية عندما نبه "الحزب الوحدوي الديمقراطي" خلال المؤتمر الذي عقده عام 2018، من الخطر الناشئ في بلفاست، وقال آنذاك: "إن مأساة سفينة "تايتانيك" تعود إلى الأذهان، وقد حان الوقت الآن للتحذير من جبل الجليد الذي ينتظرنا". وقال بعد ذلك، من موقعه في المقاعد الخلفية لحزبه في البرلمان، إن أياً من ترتيبات "شبكة الأمان" التي تم اقتراحها للتعامل مع مسألة الحدود الإيرلندية ليس مقبولاً، وما خيارات هوبسون (القومية الإيرلندية التي دعا إليها بولمر هوبسون) إلا تلك المخارج التي لا يمكن تصورها.
وفي هذا الإطار كان جونسون نافذ البصيرة في تعامله مع المسألة بقوله: "إذا رغبنا في إبرام صفقات تجارة حرة، وإذا أردنا خفض التعرفات الجمركية أو تغيير قوانيننا، فسنُضطر إلى التخلي عن إيرلندا الشمالية بجعلها شبه مستعمرة اقتصادية تابعة للاتحاد الأوروبي. بالتالي، سنلحق الضرر بنسيج اتحادنا، الذي سيزداد تفاقماً مع فرض أعمال التدقيق التنظيمية وحتى الضوابط الجمركية بين المملكة المتحدة وإيرلندا الشمالية، إضافة إلى الضوابط التنظيمية الإضافية في البحر الإيرلندي التي تم تضمينها في "اتفاق مغادرة الاتحاد الأوروبي".
ورأى بوريس جونسون أنه "لا يمكن ولا يجوز لأي حكومة "محافظة" بريطانية أن توقع على أي شيء من هذا القبيل... وإذ بنا نشهد الآن أمام هذه العواقب المحتملة موقفاً مستميتاً لإبقاء مصير كيان المملكة المتحدة بأكمله رهن "شبكة الأمان" تلك، التي من شأنها أن تطلق العنان للاتحاد الأوروبي لإحكام سيطرته وتقرير ما إذا كان بإمكاننا مغادرة الكتلة أم لا... لماذا يجب السماح لهم بذلك؟".
لكن بعد مرور نحو عام على كلام جونسون، لم يكن أمامه سوى التراجع عن موقفه في شان إقامة حدود في البحر الإيرلندي، الذي كان قد شكل أحد المكونات الرئيسية للطبق "الجاهز للطهي" الذي وضعه أمام الشعب البريطاني خلال الانتخابات العامة في 2019.
واستطراداً، فإن تلك الحدود الاقتصادية تعتبر قائمة في المفهوم القانوني والسياسي. ولا شك في أن الاتحاد الأوروبي قد يكون أقل التزاماً بشكل رسمي في أداء دور الضابط لها، ولعله يتقبل واقع أن المملكة المتحدة ليست كتلة متقيحة من كائنات معدلة جينياً تتم تربيتها في ظل ظروف صحية قاسية وغير آمنة. لكن عاجلاً أم آجلاً، ستطرأ موجة من التعديلات على قوانين المملكة المتحدة (أو بالأحرى بريطانيا العظمى)، وربما قد نقوم باستيراد مثل هذه المحاصيل والمواد الغذائية من الولايات المتحدة. في هذه الحال، سيكون هنالك مبرر لوجود مسؤولين من الاتحاد الأوروبي في ميناء لارن الإيرلندي الشمالي، للتأكد من حماية سلامة السوق الموحدة الخاصة بالكتلة. وعاجلاً أم آجلاً، لن تكون قضية الحدود الاقتصادية مسألة تافهة أو ثانوية في سلسلة المشاحنات القائمة ما بعد المغادرة البريطانية للاتحاد الأوروبي، بل ستمثل نقطة أساسية في ما يتعلق بأي إقرار معقول لسيادة (الاتحاد الأوروبي). من هنا لن يكون ممكناً تجاهل مسألة الحدود الشائكة بين المملكة وإيرلندا الشمالية أو القفز فوقها.
إن مثيري الشغب في إيرلندا الشمالية الذين يحركهم على ما يبدو أفراد منضوين في ميليشيات حزبية، يدركون ذلك، ويقومون بما كانوا يفعلونه تقليدياً في المقاطعة، وهو تغيير الحقائق على الأرض. وسيحاولون من خلال الترهيب، وسيقومون قبل أن تمر فترة طويلة بارتكاب أعمال تخريبية وإرهابية على نطاق صغير، لإبطال الحدود بين المملكة المتحدة وإيرلندا الشمالية. ونحن نرى اليوم كيف أن الناس بدأوا يتعرضون للأذى ويرزحون تحت وطأة الخوف.
وربما سيسعون إلى إعادة الحدود الاقتصادية إلى صيغة الحدود السياسية مع إيرلندا، وأن يتحدوا الكتلة الأوروبية في ما لو أرادت فرض ضوابط وأعمال تدقيق حدودية، الأمر الذي من شأنه أن يحرك بسرعة نشوء مقاومة موازية من "الجمهوريين" المنشقين، إن لم يكن بزوغاً جديداً لمنظمة "الجيش الجمهوري الإيرلندي" IRA.
قد يبني هؤلاء وبعض الوزراء البريطانيين حساباتهم على أن عودة الاضطرابات ستكون بالغة الخطورة إلى درجة أن "الجيش الجمهوري الإيرلندي" وحركة "شين فين" لن يسمحا بتفاقمها. ومن أجل الحفاظ على السلام قائماً في الإقليم قد يُحسم الأمر في نهاية المطاف بوضع أطباء بيطريين لمعاينة الأغنام المنقولة بين الحدود، والتدقيق في الشاحنات التي تنقل الحليب.
يبقى القول إنه بعد أكثر من عقدين من استتباب الهدوء في إيرلندا الشمالية، يبدو صعباً التفكير في أن هذه الجزر ستعود إلى ممارسات تفخيخ السيارات، وحرق المتاجر، وارتكاب مذابح في الحانات، وتنفيذ اغتيالات، وتهريب مخدرات، ودهم البنوك، ورمي الأفراد بالرصاص في ركبتيهم لشل حركتهم، والقيام بأعمال الخطف، ونشر قوات في الشوارع، والقيام بدوريات بالمروحيات، إلى ما هنالك من أدوات الحرب الطائفية الأخرى. فهل يستحق إرساء الضوابط الصحية على المواد النباتية المنقولة بين جمهورية إيرلندا وإيرلندا الشمالية حقاً التضحية بأرواح رجال ونساء وأطفال؟
© The Independent