على وقع خلاف قديم متجذر لايزال عالقاً في الأذهان لدى البريطانيين، جدد إعلان مجموعة جمهورية منشقة هي "الجيش الجمهوري الأيرلندي الجديد" اليوم الثلاثاء مسؤوليتها عن مقتل الصحافية الأيرلندية الشمالية ليرا ماكي خلال أعمال شغب في لندنديري الأسبوع الماضي، المخاوف من موجة عنف جديدة تقف خلفها مجموعات مسلحة.
وبعد أن قضت ليرا ماكي، 29 عاما، إثر إصابتها في الرأس ليل الخميس الماضي أثناء مواجهات بين جمهوريين منشقين والشرطة في حي كريغان في ثاني كبرى مدن أيرلندا الشمالية والمعروفة أيضا باسم ديري، أوردت صحيفة "آيريش نيوز" (أخبار إيرلندا) اليوم الثلاثاء، بياناً جاء فيه "أن الجيش الجمهوري الأيرلندي الجديد "يقدم اعتذاره الخالص والصادق لأسرة وأصدقاء ليرا ماكي التي قتلت".
وأضاف البيان: "ليل الخميس وفي أعقاب مداهمة في كريغان من جانب قوات التاج البريطاني المدججة بالسلاح، ما أثار أعمال الشغب، نشر الجيش الجمهوري الإيرلندي الجديد متطوعينا للتصدي"، وفق "آيريش نيوز".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كيف قتلت ماكي؟
وبعد أيام من مقتل الصحافية ليرا ماكي إثر إصابتها في الرأس ليل الخميس الماضي أثناء مواجهات بين جمهوريين منشقين والشرطة، قالت الأخيرة اليوم الثلاثاء إنها اعتقلت امرأة عمرها 57 عاماً، بموجب قانون مكافحة الإرهاب لعلاقتها بالجريمة. وذكرت في الوقت ذاته أنها أفرجت عن شابين يبلغان من العمر 18 و19 عاما، اعتقلتهما في وقت سابق بدون توجيه تهم لهما.
وفيما أقرت مجموعة "الجيش الجمهوري الأيرلندي الجديد" بالمسؤولية إلا أنها حاولت تبرير أفعالها بالقول إن الصحافية قُتلت خلال هجوم على "قوات عدوة" متهمة الشرطة بإثارة أعمال الشغب التي سبقت مقتلها. وقالت في بيان "أثناء مهاجمة العدو، قتلت ليرا ماكي بشكل مأسوي عندما كانت تقف إلى جانب قوات عدوة". مرجعة الأمر إلى مداهمة قوات التاج البريطاني "المدججة بالسلاح"، وفق وصفها، ما أثار أعمال الشغب في كريغان.
وجاء مقتل ماكي قبل عيد الفصح الذي يحيي فيه الجمهوريون المعارضون للوجود البريطاني في أيرلندا الشمالية، ذكرى انتفاضة وقعت في دبلن في 1916 وأدت إلى إعلان قيام جمهورية أيرلندا في يوم عيد الفصح.
وفيما ستقام جنازة ماكي غدا الأربعاء في كاتدرائية سانت آن في بلفاست، قالت صديقتها سارة كانينغ على "فيسبوك": "سيكون ذلك احتفالا بحياتها"، وحضت الناس على ارتداء قمصان شخصيات هاري بوتر ومارفل مضيفة "أعرف أنها ستحب ذلك".
فرقاء السياسية الأيرلنديون يستنكرون
في أعقاب مقتل الصحافية أصدرت الأحزاب الستة الرئيسية المتنافسة في أيرلندا الشمالية، بينها الوحدويون والجمهوريون، المتنافسة التي عجزت عن تشكيل حكومة منذ أكثر من عامين، بيانا مشتركا نادرا. جاء فيه أنه "من غير المجدي القيام بما من شأنه تدمير التقدم المحرز في السنوات العشرين الماضية، والذي حصل على دعم هائل من الناس في كل مكان".
وقال حزب ساورا، الذي يمثل الجمهوريين المنشقين وينفي أن يكون الجناح السياسي لـ"الجيش الجمهوري الأيرلندي الجديد"، الجمعة الماضية، إن الشرطة "المدججة بالسلاح" دخلت المنطقة "لمهاجمة الجمهوريين". وأضاف "كان رد الفعل الحتمي على هذا التوغل هو المقاومة من قبل شباب كريغان".
وأمس الاثنين تجمع حشد أمام مكتب ساورا في لندنديري ولطخوا جدرانه بالطلاء الأحمر احتجاجا. جاء ذلك فيما لقيت مسيرة قامت بها الجماعة المنشقة وسط دبلن السبت استياء واسعا من السياسيين والصحافة، حيث أعلن رئيس وزراء أيرلندا، ليو فارادكار إن ما يفعله الحزب "يثير الازدراء الشديد" ويعتبر "إهانة للشعب الأيرلندي".
وفي يناير (كانون الثاني) الماضي أثار تفجير سيارة مفخخة في ديري مخاوف من موجة عنف جديدة تقف خلفها مجموعات مسلحة.
وأنهى "اتفاق الجمعة العظيمة" في 1998 ثلاثة عقود من سفك الدماء بين جمهوريين قوميين (كاثوليك) ووحدويين (بروتستانت) في فترة عرفت بمرحلة "الاضطرابات ". حيث قتل قرابة 3500 شخص في النزاع، الكثير منهم بأيدي "الجيش الجمهوري الأيرلندي".
وأعلنت المجموعة وقفا لإطلاق النار في 1997 ونهاية لعملياتها المسلحة في 2005 وقالت إنها ستسعى لتحقيق أهدافها من خلال السبل السياسية السلمية.
المنشقون الجدد في "الجمهوري الأيرلندي"
يعد "الجيش الجمهورية الأيرلندي الجديد" واحداً من المجموعات المنشقة عن الجيش الجمهوري التاريخي التي تعارض اللجوء إلى أساليب سلمية لتوحيد أيرلندا.
وخلال الشهور الأخيرة، برزت مخاوف من أن تحاول مجموعات مسلحة استغلال الأزمة السياسة الحالية حول أيرلندا الشمالية وحدودها مع أيرلندا، بين الاتحاد الأوروبي ولندن الساعية للخروج من الاتحاد، فيما يعرف بـ"بريكست".
وبحسب آخر مفاوضات الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، فإن أبرز الأقسام الحساسة، هي تلك المتعلقة بأزمة الحدود بين جمهورية أيرلندا، العضو لدى الاتحاد الأوروبي، وبين أيرلندا الشمالية التابعة لبريطانيا. حيث ينص اتفاق الجمعة العظيمة أو "بلفاست" (الموقعة في أبريل "نيسان" 1998)، على ألا تكون هناك حدود فاصلة بين جزئي أيرلندا.
ووفق اتفاقية "بريكست"، ستبدأ مرحلة انتقالية مدتها 21 شهراً عقب خروج لندن رسمياً من الاتحاد الأوروبي، تحافظ فيها بريطانيا على حقوقها ومسؤولياتها الناتجة عن عضويتها لدى الاتحاد. وتنتهي المرحلة الانتقالية التي ستناقش خلالها الأطراف مستقبل العلاقات التجارية، نهاية عام 2020، وسط إمكانية تمديد هذه المدة في حال تم الاتفاق بين الجانبين.
في حال عدم توصل الطرفين في نهاية المرحلة الانتقالية، إلى اتفاق حول مستقبل العلاقات التجارية، سيتم اللجوء إلى "البند الاحتياطي" المتفق عليه. وبحسب البند الاحتياطي هذا، يتم تأسيس منطقة الاتحاد الجمركي بين كامل بريطانيا والاتحاد الأوروبي، وبفضل هذا البند لن تكون هناك حدود فاصلة أو جدار جمركي بين أيرلندا الشمالية التابعة لبريطانيا وجمهورية أيرلندا العضو لدى الاتحاد.
وستضطر لندن في هذه الحالة، للالتزام بكافة المعايير والقواعد التجارية للاتحاد الأوروبي، من أجل تأمين استمرار الاتحاد الجمركي الذي سيحقق مواصلة بريطانيا تجارتها مع دول الاتحاد بشكل طبيعي.
إلا أن الوضع سيكون مختلفاً في أيرلندا الشمالية، حيث سيتم فرض معايير أوروبية إضافية على قطاعات مختلفة هناك، وبالأخص الزراعة والبيئة، بالتزامن مع اعتزام الاتحاد الأوروبي إرسال ممثلين له للتأكد من مدى تطبيق تلك المعايير. وسيستمر العمل بـ"البند الاحتياطي" حتى التوصل إلى حل دائم بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي حول أزمة أيرلندا الشمالية، وتوقيع اتفاقية تجارية شاملة، ولن تستطيع لندن الانسحاب من البند المذكور من جانب واحد.
تاريخ طويل من العنف
من نشأت الجيش الجمهوري الأيرلندي عام 1919، ظلت تلك المنظمة العسكرية ترمز للوطنية الأيرلندية الطامحة لتحقيق استقلال أيرلندا كليا عن التاج البريطاني في إطارِ جمهورية مستقلة ذات أغلبية كاثوليكية عكس بريطانيا الملكية ذات الأغلبية البروتستانتية. واستأثرت باهتمام الإعلام العالمي في نهاية ستينيات القرن العشرين، بسبب العمليات العسكرية والتفجيرات التي كانت تنفذها.
وجاء تأسيس "الجمهوري الأيرلندي"، مستلهما مرجعيته الأيديولوجية وعقيدته العسكرية من الحركات الفدائية القومية الأيرلندية التي كانت تنشط منذ القرن التاسع عشر ضد الاحتلال البريطاني، وكان آخرُها حركة المتطوعين الوطنيين، بقيادة جيمس كونولي، التي تأسست عام 1913 ونفذت عدة عمليات ضد البريطانيين أثناء الحرب العالمية الثانية أبرزها تمرد أعياد الفصح عام 1916.
وأنشأ الجيش جناحا سياسيا أطلق عليه اسم "الشين فين"، وأسندت إليه مهمة الاضطلاع بجهد سياسي سلمي يسند الجهد العسكري للمنظمة ليصبا في هدف واحد هو تحقيق الدولة الأيرلندية المستقلة ذات النظام الجمهوري.
وفي الفترة ما بين (1919-1921)، خاض الجيش الجمهوري حرب التحرير الأيرلندية أملا في تحقيق حلم الدولة الأيرلندية الشاملة، لكن آماله خابت مع استبقاء بريطانيا لمنطقة (آلسترْ) بأقاليمها الستة وأغلبيتها البروتستانتية، وتوقيع الحكومة الأيرلندية اتفاق الاستقلال مع بريطانيا في عام 1921، فتحول اهتمام المنظمة إلى تحرير أيرلندا الشمالية.
وعقب ذلك، رفض جناح "إيمون ديفاليرا" مؤسس "الشين فين" اتفاق الاستقلال مُشددا على التمسك باستقلال كامل أيرلندا، في حين دعم مايكل كولينز وجناحه اتفاق الاستقلال، لتدخل البلاد حربا أهلية دامية استمرت عامين وانتهت بهزيمة الشين فين ورافضي المعاهدة، وقبول كولينز عقد اتفاق معهم تضمن تعهد الشين فين بالانخراط في الحياة السياسية السلمية من أجل تحقيق أهدافها.
وبينما لم تُسلم المنظمة أسلحتها، وإن بات لصيقا بها لقب (الجيش الجمهوري غير النظامي) مقابل تسمية جناح كولينز، الذي انخرط أفراده في جيش الدولة الناشئة، بالجمهوريين النظاميين. ودارت الحرب الأهلية بين الجناحين ثلاث سنوات، تخللها اغتيال مايكل كولينز على يد عناصر الجيش الجمهوري الحانقين عليه بسبب توقيعه اتفاقيات لندن، التي نصت على بقاءِ أيرلندا الشمالية (تُعرف تاريخيا بمنطقة آليستر) بأقاليمها الستة (الكومتياتْ) تحت التاج البريطاني بينما منحت أيرلندا الجنوبية الاستقلال رغم تأدية الوزراء اليمين أمام الملكة. حيث تتألف أيرلندا الجنوبية من 26 إقليما وأغلبية سكانها من الكاثوليك، بينما تسكن الشمال أغلبية من البروتستانت.
وظلت فصائل الجيش الجمهوري الأيرلندي تتسمك بالعمل العسكري لتحقيق حلم الدولة الأيرلندية الذي تحوَّل إلى نزعة انفصالية تُقدَم القطيعة الكاملة مع بريطانيا والانفصال التام عنها على الوحدة الأيرلندية نفسها، واستمر نشاط الجيش الجمهوري في شكل عمليات عسكرية وتفجيرات واغتيالات طيلة ثلاثينيات القرن العشرين.
محاولات التواصل مع النازيين الألمان
ومع نشوب الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، حاول بعض قيادات الحركة ربط الاتصال بألمانيا النازية لتزويدهم بالسلاح، وهو ما أزعج الحكومة البريطانية التي سنَّت قانونا يُشرع حربها ضد الجيش الجمهوري، وأعدمت عددا من أفراده بتهمة الخيانة والتعاون مع العدو.
وبحلول خمسينيات القرن العشرين كانت المنظمة تحتضر، ولا سيما بعد إعلان استقلال جمهورية أيرلندا الجنوبية عن الكومنولث مما جعل منها الحليف الأول والأكثر مصداقية للكاثوليك في الشمال والذين لا تخفي تعاطفها معهم، لكنها في الآن ذاته تتحرج من عنف الجيش الجمهوري ولا تتردد في إدانته.
ومع نهاية ستينيات القرن العشرين، بلغ تذمر الأقلية الكاثوليكية من التهميش والإقصاء الاقتصادي والسياسي مداه، وكان المتطرفون البروتستانت لهم بالمرصاد، فاندلعت مواجهات عنيفة بين المتطرفين من الجانبين وتحولت بلفاست إلى ساحة حرب. ومن نيران تلك المواجهة ولد الجيش الجمهوري من جديد رافعا شعار الدفاع عن كاثوليك الشمال في مواجهة البروتستانت وبريطانيا.
واعتمدت المنظمة أساليبها القديمة، التفجير والاغتيالات، ليَنتهي الأمر بانشقاقٍ جديد أنتج جناحين أحدهما عنيف يسمى بـ(إيرا المؤقتة)، والجناح الآخر يسمى بـ(إيرا الرسمية).
ومع تفاقم العنف ونشاط الجيش الجمهوري، نشرت بريطانيا قواتها للفصل بين الأحياء الكاثوليكية والبروتستانتية في دبلن وغيرها، وتفاقمت موجة العنف في أيرلندا الشمالية وبريطانيا ففي 30 يناير (كانون الثاني) 1972، أطلق مظليون بريطانيون النار على متظاهرين في (ديرَّي) فقتلوا 13 شخصا فردَّت إيرا بعملية استهدفت قداسا لقوات المظليين في (آلدرشوتْ) ببريطانيا مما أسفر عن مقتل 6 مدنيين وعسكري واحد.
مرحلة السلام "التكتيكي"
في أواسط ثمانينيات القرن العشرين، جرت اتصالات عديدة بين ساسة بريطانيين وآخرين بأيرلندا الجنوبية والشمالية أسفرت عن مسودة اتفاقٍ بين رئيس الوزراء البريطاني جون ميجور ونظيره الأيرلندي الجنوبي جون بروتون، في 22 فبراير (شباط) 1995. واتفقا على إمكانية مشاركة الشين فينْ في المفاوضات إذا ما أعلنت إيرا تخليها عن العمل المسلح.
وبعد أربع سنوات أثمرت المفاوضات بين الحكومة البريطانية والأيرلندية الجنوبية والشين فين بزعامة جيري آدامس والحزب البروتستانتي بزعامة ديفيد تريمبل اتفاقا للسلام نصّ على إقامة إدارة شبه موحدة بين شطري أيرلندا وتشكيل حكومة شبه مستقلة في منطقة (آليستر) مع ترك الحسم في مصير الوضع السياسي لأيرلندا الشمالية لاستفتاء شعبي ديمقراطي.
نُصبت الحكومة في عام 1999، لكن لندن قررت حلّها في 2002 إثر اتهامها أعضاء فيها ينتمون للشين فين بالتجسس للجيش الجمهوري.
وفي عام 2005 أعلن الجيش الجمهوري ترك السلاح والانخراط في المسار السياسي الديمقراطي سبيلا إلى تحقيقِ هدفه المرسوم بداية القرن الماضي، وهو توحيد أيرلندا، كل أيرلندا في دولة واحدة مستقلة.