في العاشر من أبريل (نيسان) 1976، غادر رشيد ابن الخامسة عشرة من عمره منزل أسرته في طرابلس متجهاً إلى منطقة البداوي، برفقة صهره من أجل شراء السجائر لوالده. ما زالت الدقائق الأخيرة التي قضتها الوالدة حليمة حاضرة في ذهنها. تروي أم رشيد أنه في ذاك اليوم طلب ابنها الفتي تحضير الدجاج والبطاطا مع التبولة على الغداء، قصدت الوالدة السوق إلا أنها عندما عادت لم تجد ابنها. قيل لها إنه سيعود عصراً، إلا أنه بعد مرور 45 عاماً ونيّف، لم يعُد، وأصبح ذكرى حاضرة في تفاصيل حياة العائلة، وأملاً باقياً في قلب الأم.
الذكرى لا تموت
لا تُغادر ذكرى رشيد والدته، وكذلك الأمل في عودته. تنتظر ابنة الخامسة والثمانين عودة ابنها الوسيم. لذلك هي ترفض عبارات العزاء أو التسليم بأنه غادر المنزل إلى غير رجعة. لم يتسلل اليأس إلى قلبها، فهي كالفارس الذي يُحارب حتى الرمق الأخير، تستذكر أنها "لم تترك بقعة في لبنان إلا وبحثت عن ابنها"، حتى أنها كانت تقطع المسافات الطويلة لتتبع خبراً أو أثراً لرشيد، تدُقُّ الأبواب ليلاً، لتسأل إذا رأى أحدٌ فلذة كبدها.
بذلت حليمة كل ما تملك بحثاً عن ابنها، باعت العقارات والذهب من أجل الوصول إليه. كما تُعبر باستمرار أنها "على استعداد لبذل ما تبقى لها من مُلك وعمر لقاء رؤية وجه ابنها".
تعكس أم رشيد حقيقة قلب الأم الذي يخفق على رجاء رؤية الأبناء، وهي لم تكل يوماً في السؤال عنه لدى الجهات الرسمية، والقوى الفاعلة على الأرض اللبنانية إبان الحرب الأهلية.
تحمل صورته، تُحدّق فيها، لتُفصح أنه مصدر قوتها، وأحد أسباب وجودها على قيد الحياة.
لقاء الخميس
طوال سنوات، حملت حليمة صورة ابنها رشيد إلى "لقاء الخميس"، وهو التجمع الذي كانت تنظمه أسر المفقودين في الحرب الأهلية. وهي تؤكد أن وجعها هو نفسه الذي تعيشه سائر الأمهات. تستذكر حليمة غازي عاد الذي حمل قضيتهم إلى المقرات الرسمية، كما تتحدث عن روابط وثيقة مع وداد حلواني والأمهات الأخريات. وتعلن حليمة أن لديها نية بالعودة إلى ساحة "لقاء الخميس" في الحديقة أمام مقر الأمم المتحدة في وسط بيروت، بعد أن تشفى من العارض الصحي الذي أقعدها مؤقتاً في المنزل، فهي منذ ستة أشهر لم تشارك في رفع الصوت من أجل كسر الصمت الذي يحيط بقضية المفقودين، وتعبر عن غبطتها بأن الأمهات "اتصلن بها منذ أسبوعين للسؤال عنها، والاطمئنان إلى صحتها".
تُقدّم حليمة نموذجاً عن حال أمهات عانين لعقود من الزمن، ويرفضن فكرة "إعلان الموت بفعل مرور الزمن"، لأن "لو رأت الأم جثة ابنها، كان بالإمكان التصديق"، تقول حليمة. وتأتي بعض الأحداث والروايات لتدفع الأمهات نحو التمسك بما تبقى من أمل، من قبيل "فلان قال إنه رآه"، و"فلان التقى به بعد غيابه عن البلد".
وثائقي 10476
قصة رشيد تحوّلت إلى فيلم وثائقي، من توقيع المخرج محمد طرطوسي، ابن شقيقة المفقود. يوضح طرطوسي أنه عايش هذه القصة منذ طفولته، ووجد فيها فكرة غنية وتحدياً جريئاً يمكن تحويله إلى "عمل توثيقي لتلك المرحلة". ويشكّل الفيلم (12 دقيقة) عنصراً مساعداً لقضية أهالي المفقودين خلال الحرب الأهلية اللبنانية.
اعتمد طرطوسي سيناريو مركباً من خلال لعب دور المحقق الذي ينطلق من ملفاته، ليبحث عن مصير خاله. يحاور ثلاثة من المقاتلين الميدانيين آنذاك الذين كانوا في منطقة المخيمات شمال طرابلس (البداوي والبارد). وتسرد خلاله الجدة، أم رشيد، روايتها وعذاباتها طوال أربعة عقود، منذ خروج رشيد إلى الأفق المسدود الذي وصل إليه الملف.
أعد طرطوسي الفيلم مشروعاً لتخرجه في الجامعة، وقام لاحقاً بإضافة بعض التفاصيل والمشاهد. يتطلع طرطوسي إلى المشاركة في مهرجانات دولية، وتحديداً تلك المهتمة بالسينما البديلة والملتزمة بالقضايا الإنسانية، على أمل تحريك الرأي العام ودفعه لتأييد القضية.
ويشير إلى أنه قدّم فيلمه لمهرجانات في الخارج، وقد قبل في مهرجان "سنتا كروز" في الأرجنتين، وهو موجود في مكتبة "كليرمون فيرون" في فرنسا لمدة سنة ضمن قائمة الأفلام القصيرة. ويؤكد أن "الهدف ليس الجوائز، إنما إيصال الرسالة لأن هناك اهتماماً كبيراً بقضايا حقوق الإنسان".
اعتمد طرطوسي في تصوير فيلمه التوثيقي على تجهيزات بدائية، وحظي بمساعدة رفاقه الذين شكلوا فريق العمل. ويقول إنه "أنفق من مصروفه الشخصي لإنجاز العمل". وقد اندفع من أجل الحفاظ على قضية ما يزيد على 17 ألف مفقود حيّة في الذاكرة الجماعية للشعب اللبناني، وعدم بقائها حكراً على فئة ضيقة من "أصحاب الأمل".
الصليب الأحمر الدولي يتحرك
في عام 2011، بدأت اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي التحرك على ملف المفقودين. وتؤكد رباب الخطيب المسؤولة عن الملف أن "اللجنة تعمل بمهمة إنسانية"، أي أنها تعمل لتلبية احتياجات الأهالي بعيداً من "إدانة الجناة أو محاكمتهم". وتضيف الخطيب أن المهمة الأساسية هي "إعطاء إجابات للأهالي عن مصير أحبائها لإنهاء المعاناة المستمرة منذ 46 سنة". تحدد الخطيب المفقود بأنه "شخص لا تمتلك عائلته أي معلومات أو أخبار عن مصيره ومكان وجوده، الأمر الذي يتطلب تدخل الجهات والسلطات المختصة لحل هذه القضية وكشف المصير"، موضحةً أن اللجنة تتعامل من دون تمييز بين أشخاص خرجوا من منازلهم ولم يعودوا خلال الحرب، وآخرين اختطفوا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عملت اللجنة الدولية على مستويات عدة للاستجابة لحاجات الأهالي، تعددت من الناحية القانونية، النفسية، إضافة إلى "العمل للحصول على اعتراف المجتمع بمحنتهم ومعاناتهم". وبدأت اللجنة بجمع "معلومات ما قبل الاختفاء عن الأشخاص الذين فقدوا في الحرب الأهلية"، موجهةً 200 سؤال إلى الأهالي وعائلات المفقودين لمعرفة تفاصيل دقيقة عن الشخص من أجل "تكوين هويته".
تقسم الخطيب المعلومات التي تجمعها اللجنة عن المفقود إلى معلومات تتصل بـ"الطب الشرعي"، وظروف الاختفاء، وأي أدلة تساعد في التعرف إلى المفقود، مؤكدةً أنه تم تجميع ملفات 3075 شخصاً حتى اليوم. وفي 2015، بدأت اللجنة بجمع معلومات مهمة في عملية البحث من خلال أخذ "العينات البيولوجية المرجعية" التي تتألف من "عينة لعاب للأهالي، ويتم حفظها مع المعلومات بهدف تسليمها إلى الهيئة الوطنية عندما تصبح فاعلة".
تأخذ اللجنة من كل شخص عينتين، يتم حفظ إحداها في لبنان، أما الثانية فترسل إلى جنيف. والعيّنتان ليستا DNA البصمة الجينية التي تستخدم في التحقيقات الجنائية، وإنما نواة يمكن اللجوء إليها لاحقاً من السلطات الرسمية.
تخليد الذكرى
يتضمن القانون 105 في نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 المتصل بالأشخاص المفقودين "مشاريع تخليد الذكرى" و"الحق في جبر الضرر"، أي التعويض المعنوي للأهالي. وبدأت اللجنة بمشروع "مرافقة أهالي الأشخاص المفقودين" وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي، وتوجيههم إلى شبكة من الجمعيات بحسب الاحتياجات المتاحة. إضافة إلى ذلك، هناك سعي لـ "تخليد ذكرى الأشخاص المفقودين" وإطلاق مشروع "كراسي فارغة، عائلات تنتظر" WWW.emptychairswaitingfamilies.com، إذ ترسم كل عائلة ذكرياتها المرتبطة بالمفقود على كرسي أبيض بهدف تخليد ذكراه.
تؤكد رباب الخطيب أهمية نشر الوعي حول ملف المفقودين، وعدم الاقتصار على المناسبات كذكرى الحرب الأهلية واليوم العالمي للمفقودين في 30 أغسطس (آب)، وإنما تجاوزها إلى رفع الوعي المجتمعي.
إلى ذلك، تتحدث عن "حق الأهالي بالمعرفة" وأهمية القانون 105 في منح الأهالي الحق في معرفة مصير أبنائهم، وتشكيل الهيئة الوطنية من 10 أعضاء للبحث عن المفقودين وإعطاء إجابات لأهاليهم.
في المحصلة، مع اتفاق الطائف1989 انتهت الحرب الأهلية اللبنانية، إلا أن آثارها ما زالت حاضرة في نفوس وذاكرة أهالي المفقودين الذين يكابدون للحفاظ على قضيتهم حية ومنعها من السقوط في خانة النسيان. وهؤلاء لن يتمكنوا من تجاوز تجربتهم القاسية عما قريب، في ظل الغمامة التي ما زالت تغشى مصير أبنائهم.