بعد جلسة تمهيدية الثلثاء، حيث عرضت التوجهات والمبادئ العامة، تبدأ الحكومة اللبنانية اعتباراً من اليوم سلسلة جلسات مخصصة للبحث في البنود التفصيلية لمشروع قانون الموازنة العامة التي رفعها وزير المال علي حسن خليل قبل نحو أسبوع. وذلك على وقع تحركات احتجاجية في الشارع شكّل متقاعدو الجيش اللبناني أبطالها، فيما يستعد الاتحاد العمالي العام، الممثل للحركة النقابية في لبنان، لإضراب عام لمدة ثلاثة أيام.
وأتى تحرّك متعاقدي الجيش وسط استغراب رسمي شديد، طرح أكثر من علامة استفهام حول من يقف وراء التظاهرات والاعتصامات التي شلّت الحركة الاقتصادية في البلاد، كما شلّت حركة المرور في عدد من المناطق وأدى إلى زحمة سير خانقة خلفّت ردود فعل عكسية لدى المواطنين. ذلك أن التحركات بدأت قبل أن تتضح معالم البنود أو الإجراءات التي ستطاول الأسلاك العسكرية، لكن أوساط المتقاعدين نفت أي خلفية سياسية للتحرك، مؤكدة أنه نابع من تلمس نوايا لدى السلطة السياسية ترمي إلى المس بالمكتسبات والحقوق العائدة لهؤلاء، كاشفة عن أن مشروع القانون يتضمن أكثر من مادة قانونية تطاولهم.
شروط دولية ومصرفية
ولفتت الأوساط نفسها أن التحرك جاء استباقياً، وقبل بدء الحكومة درسها المشروع، وذلك بهدف قطع الطريق أمام أي محاولات استضعاف للمتقاعدين واستدراجهم للنيل من المكتسبات التي منحها القانون اللبناني، سيما أنه بات واضحاً لهؤلاء أن الحكومة تتجه إلى تخفيضات أساسية في رواتب القطاع العام وأجوره وفي معاشات التقاعد ونهاية الخدمة، تلبية لشروط المؤتمر الدولي للمانحين الذي عقد قبل عام في إبريل (نيسان) 2018 في العاصمة الفرنسية باريس من أجل تأمين الدعم المالي لبرنامج الحكومة اللبنانية الاستثماري. ويشكل بند خفض كلفة القطاع العام شرطاً أساسياً للدول والمؤسسات المانحة. وهو أيضاً مطلب داخلي يشترطه القطاع المصرفي اللبناني الذي قام بمهمة تمويل عجز الدولة اللبنانية على مدى أكثر من عقدين. والمصارف تشترط اليوم إصلاح القطاع العام مقابل أي إسهام لها في خفض كلفة الدين العام.
تجدر الإشارة في هذا المجال إلى أن مشروع قانون الموازنة للعام الحالي يتوزع بنسبة 35 في المئة على بند الرواتب والأجور، و35 في المئة على بند خدمة الدين العام، فيما يشكّل عجز مؤسسة الكهرباء 10 في المئة مقابل 8 في المئة فقط للإنفاق الاستثماري، و12 في المئة للإنفاق الجاري.
وتسعى الحكومة إلى إجراء خفض في بندَي الرواتب وخدمة الدين، على أساس أن إقرار خطة حكومية للكهرباء وبدء تنفيذها سيسهمان في تخفيف عبء العجز في هذا القطاع على مشروع الموازنة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما بالنسبة إلى الإجراءات المرتقبة لخفض كلفة الدين، فقد شرحها وزير المال أمس بقوله إنها ستتم عبر إصدار سندات خزينة بقيمة 12 ألف مليار ليرة (أي ما يعادل 8 مليارات دولار أميركي) على 10 سنوات، بفائدة واحد في المئة. وسيؤدي هذا الإجراء، بحسب مشروع الموازنة، إلى تراجع كلفة خدمة الدين العام في العام 2019 من 6.4 مليار دولار إلى 5.5 مليار دولار، (أي ما يعادل 925 مليون دولار). وهذا ما يفسر سبب ارتفاع كلفة خدمة الدَّين في المشروع بقيمة 98 مليار ليرة فقط عن كلفتها في العام 2018.
أما في بند الرواتب، فتسعى الحكومة إلى خفض لا يقل عن 600 مليون دولار. وقد أدرجت لهذه الغاية عدداً من الإجراءات الرامية إلى حسم من 15 إلى 20 في المئة من الراتب التقاعدي، حسم 3 في المئة من بدلات الطبابة وإلغاء ما يعرف بالتجهيزات العسكرية. وهذه التجهيزات هي عبارة عن بدل ألبسة وبدل سائق وغيرهما (متممات للراتب تشكل 50 في المئة منه) وكان يجب أن تدخل في صلب الراتب التقاعدي، لكن لم يتم احتسابها بحجة أنها ستضخم المبلغ، ويقترح المشروع إلغاءها.
مسار المشروع
في أي حال، لا يزال مبكراً حسم التوجهات الحكومية في هذا الشأن في انتظار تبين مسار النقاشات في الجلسات الحكومية المكثفة المرتقب أن تمتد إلى نهاية الأسبوع الحالي تمهيداً لإنجاز المشروع وإحالته على المجلس النيابي لبدء مناقشته على مستوى لجنة المال والموازنة أولاً، ومن ثم إحالته على اللجان النيابية المشتركة، قبل إدراجه على الهيئة العامة للمجلس النيابي. ويسعى رئيس المجلس نبيه بري إلى تسريع هذا المسار وهو أعطى توجيهاته مسبقاً في هذا الشأن قبل بلوغ المشروع أبواب البرلمان.
والأكيد بحسب مصادر وزارية أن الحكومة جادة في الخفض المشار إليه، وهي تقلل من أهمية تحرك الشارع، لأن الأمور بلغت مستوى باتت البلاد فيه أمام خيارين: إما خفض كتلة الرواتب والأجور بفعل القانون، وإما خفضها قسراً بفعل خفض قيمة العملة الوطنية. والعمل جار اليوم من أجل عدم الوصول إلى الخيار الثاني الذي سينعكس سلباً على كل المواطنين.