مهما كانت الأسئلة عمّن دفع تكلفة تجديد شقة رئيس الوزراء في داونينغ ستريت سخيفة كما يراها هو، والأرجح أنها تكاد تكون عديمة الأهمية بالنسبة إلى الناخبين، فهي ستبقى مطروحة ولن تختفي من تلقاء نفسها. وحتى لو كانت هناك حالة لا مبالاة عامة وشاملة بالأمر، فإن حقيقة اهتمام لجنة الانتخابات بالقضية، وإشارتها إلى احتمال أنها ربما اشتملت على مخالفة أو مخالفات، تعنيان أن المسألة يمكن أن تصبح مصدر إحراج شديد لبوريس جونسون. وفي أسوأ الحالات، إذا وجّهت إليه تهمة رسمية أو أُدين بارتكاب جريمة خطيرة، أو إذا ثبُت أنه كذب على البرلمان، سيصبح موقفه صعباً إلى حد يتعذر معه الدفاع عنه (أو هكذا يُفترض). فهذا الوضع هو أقرب ما يمكن إلى اتباع البريطانيين أسلوب المساءلة الأميركية بغرض التجريد من السلطات. إذاً كيف يستطيع بوريس جونسون أن يتخلص من هذه الورطة؟
من الناحية السياسية، كل ما يمكنه أن يفعله هو أن يكسب القضية في محكمة الرأي العام، ويأمل أن يصبح المناخ السائد مؤاتياً لحصول تحوّل في الرأي العام يصب في مصلحته. وبدأ بداية ممتازة على هذا الصعيد. وباعتباره قدّم سلفاً عدداً من التفسيرات المتناقضة، فجلّ ما يستطيع أن يفعله الآن هو أن ينقضّ على أعدائه بحزم وصخب كما فعل، على طريقة مواجهات "اتحاد أكسفورد" ( جميعة طلابية شهيرة للنقاش) الحقيقية، في جلسة مساءلة رئيس الوزراء في مجلس العموم الأربعاء الماضي. إن خطوط الهجوم التي يختارها واضحة: الجمهور مهتم أكثر بكثير باللقاحات والاقتصاد من هذه القصة؛ وحزب العمال تافه ومتحيز؛ وحكومته ماضية في رفع المستوى الاقتصادي (للمناطق الفقيرة)/ إعادة البناء بصورة أفضل/ استقطاب ممرضين؛ وأراد كير ستارمر البقاء في وكالة الأدوية الأوروبية وإرباك عملية طرح اللقاحات؛ وأنه شخصياً دفع نفقات تجديد شقته على أية حال ولم يكلّف دافع الضرائب أي شيء. ولا ننسى، تذكيره بأن ستارمر خدم بسرور في حكومة الظل العمالية التي قادها جيريمي كوربين، وهذا يعتبر خطيئة لا تُغتفر ولا تُنسى.
وثانياً، يحتاج جونسون إلى أن يبدو منطقياً وبنّاءً إلى حد يجعله يوافق بلطف على التعاون مع لجنة الانتخابات، لأنه بالطبع لا خيار له في الموافقة من عدمها، في الواقع، نظراً إلى الصلاحيات القانونية التي تتمتع بها اللجنة. وبوسعه أن يعرض تقديم كل المعلومات التي يطلبونها عن هذا الأمر السخيف، لأنه يعلم أن بمقدورهم إذا أرادوا الحصول على أمر من المحكمة لإجباره على تزويدهم بكل ما يريدون. ولعل جونسون على السكة الصحيحة حالياً في ما يتعلق بهذا الجانب.
وثالثاً، ينبغي أن يخلق سردية منافسة للجنة الانتخابات. وهذا جانب بدأ العمل أيضاً على تدبّره – فاللورد كريستوفر جيدت، وهو المستشار "المستقل" لشؤون المعايير الوزارية المعيّن حديثاً، سيجري "تحقيقاً" في القضية. والأرجح أن هذا سيكون أكثر سخاءً مع رئيس الوزراء من لجنة الانتخابات، ولكن حتى لو لم يكن كذلك، فلا يزال من المفيد أن يقوم بالتحقيق وذلك لتعكير المياه التي باتت سلفاً قاتمة تفتقر إلى الوضوح والشفافية. وكلما صارت مسألة الشقة غير مفهومة لجهة الإجراءات، وتحظى بتفسيرات مختلفة كلما كان من الأسهل بالنسبة إلى رئيس الوزراء أن يفلت من العقاب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى المستوى القانوني، من الواضح أن رئيس الوزراء سيكون بحاجة إلى خلاصة لائقة للقضية. وبقدر ما تصبح القضية مرشحة أكثر للخضوع إلى تحقيق جدّي بقدر ما يكون بوسع رئيس الوزراء أن يقول إنه لا يستطيع الإجابة عن مزيد من الأسئلة عن الشقة بسبب كثرة التحقيقات الجارية في الوقت ذاته- وهي الأداة التي استخدمها للتهرب من مسألة تسريب خطط الإغلاق في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.
ومع ذلك، فهو في حاجة حقيقية من الناحيتين القانونية والسياسية إلى التعامل بشكل أفضل مع القضية التي صارت في دائرة الضوء. ويمكن لمحامٍ ذكي مثل كير ستارمر، وهو محامٍ من مرتبة "مستشار الملكة" الرفيعة، الاستمتاع بإجراء مراجعة دقيقة لروايات جونسون التي تغلب عليها الفوضى وينفي كل منها الآخر، إذا بات ذلك ضرورياً. وبين هذه الروايات، ما يتصل على سبيل المثال بما إذا كان حزب المحافظين دفع تكاليف التجديد أو لم يفعل (فالنسختان ذات العلاقة صدرتا إما عن جونسون أو بالنيابة عنه). ومن الممكن الإبقاء على الخط المكرس سلفاً ومفاده بأن التجديد لم يكلّف دافع الضرائب أي شيء على الإطلاق، (على افتراض أن ذلك صحيحاً). ومن الضروري توفير خط دفاع تكميلي يتمثل في أنه ليس من المهم حقاً مَن دفع تكاليف التجديد بادئ الأمر، أو ما إذا تمت تغطية هذه التكاليف بواسطة قرض أو سواه، طالما أن الأموال أتت في النهاية من حساب جونسون المصرفي في مرحلة ما، ما يعني أنه هو من "غطّى" التكاليف.
ومن الممكن صرف النظر عن كل شيء آخر كجدل في توقيت دفع الفواتير وتسديد القروض القصيرة الأجل. كما يمكن أن تُقارن العملية كلها بالتجربة التي تمرّ بها أي أسرة تجد نفسها مطالبة بدفع فاتورة كبيرة لقاء تجديد مسكنها – أي ربما تم تسديد التكاليف أول الأمر من خلال طرف ثالث، مثل شركة بطاقات الائتمان، قبل أن يعمد رب الأسرة إلى تسديد ديون بطاقة الائتمان تلك. وحتى لو كان " البنك" الذي التمست مساعدته مانحاً من حزب المحافظين بدلاً من بنك أو شركة بطاقات ائتمان، فإن الأمر سيكون طبيعياً مئة في المئة. وطالما لم يكن هناك التزام دين مستمر، لا يمكن أن يكون هناك تضارب في المصالح أو ما يمكن القول إنه خرق للقانون.
يستحق الأمر أيضاً الاستعانة بالحلفاء بمهارة لمهاجمة لجنة الانتخابات في محاولة للتنمّر عليها وترويضها. وأحدث المحافظون سلفاً بعض الضجيج بشأن إلغاء اللجنة أو إجراء إصلاحات جذرية فيها، ومن الممكن تكثيف هذه الجهود على نحو مفيد. يمقت المحافظون من أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي هذه اللجنة بسبب تحيّزها المفترض (ضد "بريكست") خلال استفتاء عام 2016 وبعده، ويمكنهم بسهولة أن يشهّروا بها، معتبرين أنها مجرد حفنة من مؤيدي بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي الحاقدين ممن يسعون إلى النيل من جونسون، الذي يُعدّ السيّد "بريكست نفسه"، على سبيل الكيدية النابعة من رغبتهم بالانتقام. وهناك عدد من نواب حزب المحافظين ممن يعملون سلفاً على معالجة الأمر بهذه الطريقة.
ليس من المتعذر أن ينجو جونسون بجلده حتى لو تمت إدانته وفُرضت عليه غرامة متواضعة – إذ إن سلوكاً مراوغاً كهذا لن يضيع بل سيؤخذ في الاعتبار من قبل فئة من الناخبين، من الذين لا يتوقعون بصراحة منه أن يتصرف بطريقة أفضل، أو ممن يمكن إقناعهم بأنه ضحية مؤامرة معادية للديمقراطية للاستيلاء على "حكومة الشعب" في عمل انتقامي بدم بارد، بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ولعل تلفيق اعتذار "زائف" لمجلس العموم بشأن إساءة الفهم يكون كافياً لتهدئة منتقديه القلائل في حزب المحافظين ممن يتمتعون بالشجاعة للتحدث علناً عن القضية. وفي نهاية المطاف، ليس من الممكن عزل جونسون إلا على يد نواب حزبه – وكل ما تبقّى من الحديث عن المعايير، وعن إدانته بارتكاب جريمة وبالكذب على مجلس العموم هي مسائل متعارف عليها، بالتالي يمكن تجاهلها إذا كان لا بد من ذلك. ستكون القضية إذاً عبارة عن حكاية ترمبية طويلة جداً، لكن جونسون، شأنه شأن ترمب، سينجو من العقاب، في الأقل حتى يحين موعد الانتخابات.
© The Independent