أسفرت زيارة وزير الخارجية الفرنسية، جان إيف لودريان، إلى بيروت عن طرح كثير من الأسئلة، أكثر مما أعطت أجوبة في شأن السبيل لإخراج لبنان من الأزمة السياسية الاقتصادية الخانقة التي يقع فيها، انطلاقاً من سؤال مركزي تتمحور حوله كل الأسئلة الأخرى: ماذا بعد الزيارة الضاغطة، المليئة بالسخط على الطبقة السياسية والحاكمة لعدم تجاوبها مع المبادرة الفرنسية لإنقاذ البلد، والتي جرى تجويفها من محتواها على مدى 9 أشهر من المماطلة في تشكيل "حكومة المهمة" التي أمل بها الرئيس إيمانويل ماكرون الصيف الماضي؟
الجواب الوحيد عن نتائج زيارة لودريان هو أن عقوبات بدأت ضد سياسيين لبنانيين مشاركين في عرقلة تأليف الحكومة، عبر منع دخولهم الأراضي الفرنسية، والامتناع عن منحهم تأشيرة دخول إلى فرنسا، على أن تتصاعد العقوبات تدريجياً، وتبدأ سياسية وتصبح مالية لاحقاً، تتناول أرصدة سياسيين وممتلكات إذا وجدت، بموازاة البحث مع دول الاتحاد الأوروبي في تدابير مشابهة. وكانت الناطقة باسم الخارجية الفرنسية أنياس فإن دير مول واكبت اجتماعات لودريان في بيروت في 6 مايو (أيار) بتصريح قالت فيه إنه "تم بالفعل اتخاذ إجراءات على الصعيد الوطني لمنع دخول الأراضي الفرنسية للشخصيات اللبنانية المتورطة في العرقلة السياسية والفساد، ونحتفظ بالحق في اتخاذ تدابير إضافية إذا ما استمر التعطيل".
ماذا بعد الرسالة الحازمة؟
وإذا ما كانت العقوبات الفرنسية الأحادية بداية مسار ضاغط عملياً، فإن اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي يوم الاثنين المقبل في بروكسل سيبحث في آلية عقوبات وفق ورقة أعدت لهذا الغرض، حسب قول مصدر دبلوماسي لـ"اندبندنت عربية".
إلا أن السؤال الآخر الذي بقي بلا جواب كان حول إذا ما كانت الرسالة الحازمة التي نقلها الوزير الفرنسي إلى المسؤولين اللبنانيين ستسفر عن إحياء الاتصالات بين المسؤولين اللبنانيين لمحاولة إحداث خرق في الجمود، بعد "رسالة الحزم" التي أبلغهم إياها، وما سماه "رسالة التضامن الكامل مع اللبنانيين"، المعني بها تقديم المساعدات الإنسانية والطبية وفي مجال إعادة إعمار ما هدمه انفجار المرفأ مباشرة للمتضررين وعبر جمعيات المجتمع المدني.
رفض إقحامه بنقاش حول الحكومة
لودريان تقصد عقد اجتماعات سريعة مع كل من رئيسي الجمهورية ميشال عون والبرلمان نبيه بري، ورفض أي مناقشة معهما حول عقد تأليف الحكومة حين عرض كل منهما وجهة نظره في أسباب عرقلة تأليفها. لم يقبل الوزير الفرنسي بأي بحث معه في التفاصيل الحكومية. وقال لودريان لعون وبري ثم في لقائه مع رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري في مقر السفير الفرنسي في قصر الصنوبر، إن فرنسا "قامت بما عليها وقالت رأيها على مدى الأشهر الماضية، ولكنكم لم توفوا بوعودكم في تأليف الحكومة. وعليكم تحمل المسؤولية". وفيما حاول عون إلقاء اللائمة على الحريري في إطار انتقاداته المعروفة حيال مقاربته لتشكيل الحكومة وتناول تفاصيل الخلاف معه، كان جواب لودريان كما أكد مصدر دبلوماسي فرنسي لـ"اندبندنت عربية" رفض إقحامه في طريقة التأليف "لأن هذا ليس مهمة فرنسا، بل مسؤولية اللبنانيين أن يحددوا شكل الحكومة وعدد الوزراء وتوزيعهم".
وأوضح المصدر أن لودريان أكد لكبار المسؤولين أن فرنسا مستمرة في دعم اللبنانيين في المجالات الإنسانية والحالة الطارئة الراهنة، وهو لذلك التقى مجموعة من النسوة اللاتي يعملن في هذا المجال، لكن في ما يتعلق بمستقبل الوضع والأزمة الاقتصادية، قال للمسؤولين السياسيين "أنتم تعرفون ما يجب القيام به بدءاً بتأليف الحكومة".
وفي شأن ما هو متوقع بعد الزيارة قال المصدر الدبلوماسي إن فرنسا تنتظر رد فعل الطبقة السياسية حيال الرسالة شديدة اللهجة التي أبلغها إلى المسؤولين. ورداً على سؤال لـ"اندبندنت عربية" عما إذا كان الوزير الفرنسي تلقى نتيجة رسالته القاسية، وعوداً جديدة من كبار المسؤولين بمحاولة إحداث خرق في جمود تأليف الحكومة، اعتبر المصدر أنه يجب توجيه السؤال إلى المعنيين بذلك فهذا شأنهم.
بداية الطريق بالعقوبات... وصولاً إلى الانتخابات
وفي لقاء مع عدد من الإعلاميين صباح 7 مايو قبيل مغادرته إلى باريس أكد لودريان أن "العقوبات التي أعلنت ليست إلا بداية الطريق في مسار عقوبات متشدد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعرض الوزير الفرنسي ما قدمته بلاده قبل انفجار المرفأ الكارثي وبعده من دعم مالي (بالأرقام) وسياسي وإنساني وطبي للبنان، والاجتماعين الدوليين اللذين دعا إليهما ماكرون لجمع المساعدات للبنان و"فرنسا وقت بتعهداتها". ومن أبرز ما قاله "بعد 8 أشهر من الجمود وانسداد الأفق لبنان بحاجة إلى تجديد حقيقي لممارساته السياسية والمؤسساتية، والمجتمع اللبناني بغناه وتنوعه حاضر لذلك ويمكنه أن ينهل من التعدد الديمقراطي الذي يشكل قوة لـ(...) ومقابل التعطيل الذي تمارسه القوى السياسية لمست حيوية المجتمع المدني اللبناني". ورأى أن "التحضير للمستقبل يكمن في الرهان على قوة حيوية الديمقراطية اللبنانية وتجند كل المواطنين والشباب فيه من أجل السماح بإعادة تثبيت دولة قادرة على الإجابة عن الحاجات والتطلعات المشروعة لشعبها، والاستحقاقات الانتخابية عام 2022 أساسية. استمعت باهتمام إلى ممثلي عدد من ممثلي أحزاب وحركات يحملون مشاريع نماذج سياسية مختلفة، والتقيت نساء لبنانيات استثنائيات منخرطات في مشاريع مواطنة وتضامن مدهشة، ويعود للبنانيين وحدهم باستقلالية وسيادة تامة أن يختاروا ما يريدون لبلدهم، وأن استحقاق الانتخابات النيابية عام 2022 يجب أن يشكل فرصة".
"تلافي الانتحار الجماعي"
واعتبر لو دريان أنه "من الملح أن يخرج لبنان من المأزق السياسي الحالي، وهذه رسالتي الثالثة، ولقد عبرت بصراحة عن هذ الأمر خلال لقاءاتي مع الرؤساء الذين قابلتهم من منطلق أنهم معنيون دستورياً بالاتفاق على حكومة، ولاحظت أن الفاعلين السياسيين لم يتحملوا لغاية الآن مسؤوليتهم، ولم ينكبوا على العمل بجدية من أجل إعادة نهوض البلد. أنا هنا من أجل تلافي الانتحار الجماعي، وإذا لم يتحركوا منذ اليوم بمسؤولية فعليهم تحمل نتائج هذا الفشل ونتائج التنكر للتعهدات التي قطعوها. نرفض أن نبقى مكتوفي الأيدي أمام التعطيل الحاصل، ولقد بدأنا باتخاذ خطوات تمنع دخول المسؤولين السياسيين المعطلين والضالعين بالفساد إلى الأراضي الفرنسية، وهذه ليست سوى البداية، وإذا ما استمر الأمر فإن هذه الخطوات ستزداد حدة، وستعمم وستكمل بأدوات ضغط يمتلكها الاتحاد الأوروبي وبدأنا التفكير فيها معه... وعلى المسؤولين اللبنانيين أن يقرروا إذا ما كانوا يريدون الخروج من التعطيل والمأزق الذي أوجدوه، وأعتقد أن الأمر ممكن إذا ما رغبوا في ذلك".
المجموعة الدولية ترفض تأجيل الانتخابات
وكان لافتاً إلى أن لودريان شدد على ضرورة إجراء الانتخابات النيابية في موعدها بلا تأجيل، و"أنا هنا لتجنب التأجيل السياسي المنظم من البعض". وأضاف، "أمضيت يومين ونصف اليوم في لندن خلال مشاركتي في مجموعة السبع، والتقيت وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ووزراء خارجية الدول السبع، وفرنسا عضو في مجلس الأمن للأمم المتحدة الذي سأتولى رئاسته بعد أسابيع. إنني ألتقي نظرائي في الاتحاد الأوروبي وأقول لهم جميعاً وأقولها في بيروت، إن احترام المواقيت الديمقراطية في لبنان أمر لا مفر منه، ومحاولات تأجيل الانتخابات لن تقبل به المجموعة الدولية، وحتماً فرنسا، وكل مرة تطرح فيها المسألة اللبنانية في الهيئات الدولية الثلاث تسأل فرنسا عن رأيها، وما قلته نتشاطره جميعاً".
وحين سئل هل يؤثر التقارب بين الأطراف المتنازعة في المنطقة مثل إيران والسعودية على لبنان عموماً، أجاب، "منذ بداية الأزمات في الشرق الأوسط وفي لبنان كنت أسمع دوماً من كل المسؤولين اللبنانيين أنهم مع مبدأ النأي بالنفس عما يحصل في المنطقة، وهذا ما سمعناه مع بدء الأزمة في سوريا، ونحن مع النأي بالنفس في الأزمة وخلالها وبعدها، ومن غير المبرر أن نبحث في مكان آخر عن التفسيرات والأعذار لما يحصل هنا، فالمسؤولية هي أولاً في لبنان".
وجواب لودريان العلني في هذا المجال جاء قريباً من إجابة تلقاها بعض رموز أحزاب المعارضة الذين التقاهم، حين سأله أحدهم عن وجود مخاوف في لبنان بأن تأتي مشاريع التسويات التي يجري رسمها على حساب لبنان. وأوضحت إحدى الشخصيات التي شاركت في اللقاء لـ"اندبندت عربية" أن لودريان أجاب، "بصراحة، لا أحد في الخارج مهتم بلبنان غير فرنسا. وعلى كل حال أمام لبنان فرصة كي يجري ما يحصل في المنطقة لمصلحة لبنان والمهم البدء بالحلول المطلوبة". كما قال إن عرقلة الحكومة داخلية.
دعم المعارضة التغييرية
الموقف الفرنسي السلبي من الطبقة السياسية الحاكمة لم يعبر عنه لودريان فحسب في لقاءاته مع الرؤساء الثلاثة، بل كان أكثر وضوحاً خلال اجتماعه مع قادة بعض "الأحزاب التغييرية"، الذين التقى بهم في قصر الصنوبر على مدى ساعتين. وهي عشرة أحزاب ومجموعات انبثق بعضها من ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) وضمت أحزب "الكتائب" و"الكتلة الوطنية" و"حركة الاستقلال" و"عامية 17 تشرين"، وتقدم و"تحالف وطني" و"بيروت مدينتي" و"مسيرة وطن"، وبينهم نواب مستقيلون من البرلمان منذ انفجار مرفأ بيروت. ومن الذين وجهت إليهم الدعوة ولم يحضروا "الحزب الشيوعي اللبناني"، "التنظيم الشعبي الناصري" وحركة "مواطنون ومواطنات في دولة".
بدا أن لودريان يراهن على هذه القوى مقابل أحزاب السلطة، فسألها عما آلت إليه جهودها لتوحيد مجموعات الثورة ومدى فاعلية دورها وقدرتها على التأثير. وأبلغ أحد قادة الأحزاب الذين التقوه "اندبندنت عربية" أنه بعد استعراض خطوات التنسيق والائتلاف بين بعض المجموعات والأحزاب أبدى لودريان ارتياحه لبداية تنظيم المعارضة نفسها ولتطوير خطابها وإنضاجه، مشدداً على إجراء الانتخابات في موعدها. وبدا أن الجانب الفرنسي يضع ثقله في دعم تنظيم مجموعات ثورة 17 أكتوبر نفسها، في سياق يأس باريس من الطبقة السياسية. وربما كان هذا التوجه وسيلة ضغط إضافية على المسؤولين السياسيين التقليديين.
وعلى الرغم من ذلك، فإن بعض الأوساط السياسية التي استثناها الوزير الفرنسي من لقاءاته، ومن بينها نواب اختاروا الاستقالة مع الآخرين وقيادات ضاغطة من أجل تسريع تأليف الحكومة انتقدت مساواة الجميع في تهمة تعطيل الحكومة.
وإذا كان من الوقائع التي رافقت زيارة لودريان أن الضجيج الإعلامي عن إمكان اعتذار الحريري عن مواصلة مهمة تأليف الحكومة، قد اختفى، بعد أن أخذ الرئيس المكلف نصيحة رؤساء الحكومات السابقين استبعاد هذا الخيار، فإن اجتماعه مع الرئيس المكلف في قصر الصنوبر كان إشارة إلى معالجة الجفاء الذي نجم عن رفض الحريري اقتراح باريس عقد اجتماع بينه وبين رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل قبل ثلاثة أسابيع بحجة أن لا ضمانة بأن الأخير سيسهل ولادة الحكومة، لكن أوساط الحريري تكتمت عن نتائج الاجتماع.