خرج الفنان أيمن زيدان في فيلمه "غيوم داكنة" (100 دقيقة) عن الصياغات المباشرة الموجودة في معظم أفلام الحرب السورية، متجهاً هذه المرة إلى إكمال ما كان قد بدأه عام 2018 في فيلمه الأول "أمينة" (90 دقيقة)، وذلك باللجوء إلى سينما رمزية يتراجع فيها السرد السينمائي التقليدي لصالح تكثيف القصة، وروايتها عبر تدفق الصور والمناظر المنتقاة بعناية. وجعل شخصيات الفيلم وأحداثه تبدو كأنها تطفو في بيئة زمنية ومكانية غامضة، ولا تلبث أن تسلم مفاتيح وإشارات متتالية لحكاية الفيلم الذي كتب له السيناريو زيدان نفسه بالتعاون مع ياسمين أبو فخر.
الشريط الروائي الطويل الذي أنتجته (المؤسسة العامة للسينما) يروي قصة محسن (وائل رمضان) الطبيب الذي يعود بعد سنوات طويلة من مهجره في أوروبا إلى بلدته التي دمرتها الحرب، مزمعاً على الموت فيها بعد إصابته بمرض عضال هناك، فيفاجأ أن بيته قد سكنته إحدى العائلات التي هجّرتها الحرب. وهي مكونة من الجد (رامز عطا الله)، والأم (لمى بدور)، والطفل نور (ديفيد مهاد الراعي) الذي ينتظر مع جدِّه وأمه عودة والده من الحرب. لكن وبعد طول غياب الأب، وفقدان الأمل من عودته، يقوم الجد بتزويج كنته من ابنه الثاني (حازم زيدان)، ليعود بعدها الزوج المفقود (جود سعيد) مبتور الساق، جراء إصابته في إحدى المعارك السورية، فيكتشف الجميع أنه لم يمت كما كانوا يتوقعون، لكن بعد فوات الأوان.
على مستوى آخر نتابع معايشة الطبيب محسن لأحداث العائلة النازحة إلى بيته، وذلك بعد أن يسمح لهم بالبقاء معه، لا سيما في ظل حاجته إليهم نظراً لمعاناته الصحية، واستذكاره قصة حبه، التي سنتعرف عليها بصوته من خلال رسائل احتفظت بها حبيبته القديمة (لينا حوارنة). وهي الشابة التي تعاني هي الأخرى من عيشها مع زوجها المشلول (محمد زرزور) وخلافها مع شقيقتها الصغرى (نور علي) التي تسرق أموال سلفها المريض، وتلوذ بالفرار مع شاب (علاء قاسم) لطلب اللجوء في أوروبا.
ظهور وغياب
أحداث تتقاطع مع ظهور وغياب رجل من المحاربين القدماء (محمد حداقي)، وقد أصيب بأزمة فصام حادة جعلته يتخيل جيشاً من الأعداء يقوم بمحاربته، في استعارة لما يشبه "دون كيشوت" يقاتل وحيداً، أشباحاً تعقبها المخرج زيدان مع هذه الشخصية في مقبرة للسيارات. وقد حرص عبرها على تمرير رسائل قوية لأطراف النزاع، وتصدير هجاء لاذع لما تستعرضه الكاميرا طوال فترة الفيلم من آثار للدمار والعنف الدموي الذي جعل البلدة التي تجري فيها أحداث الفيلم عبارة عن أطلال من بيوت ومتاجر وبساتين خالية من سكانها. في هذا المكان جرت عمليات تصوير "غيوم داكنة" وتحديداً في منطقة الزارة (50 كلم غرب حمص) البلدة التي شهدت معارك ومجازر مروعة أدت إلى تهجير معظم سكانها عنها، حالها حال العديد من البلدات والقرى والمدن التي لقيت المصير المأساوي ذاته.
هكذا تتحرك كاميرا المخرج والممثل أيمن زيدان الذي كان قد لعب بطولة العديد من الأفلام السورية، لعل أبرزها كان فيلم "أحلام المدينة" (1984) للمخرج محمد ملص، قبل أن يتحول، أخيراً، لمهمة الإخراج مفيداً من تجربته الطويلة في مجال الإخراج المسرحي والتمثيل والإنتاج التلفزيوني. ويراهن بطل فيلم "مطر أيلول" (إخراج عبد اللطيف عبد الحميد) على لغة سينمائية مغايرة للسائد في تجارب مخرجي بلاده، معولاً على مونتاج متواز لتخليق دلالات وإسقاطات ذكية عن واقع السوريين اليوم، بعيداً عن النبرة الدعائية، وقريباً من الهم الإنساني المشترك.
ومن الواضح أن الخطوة الثانية لزيدان في الإخراج السينمائي اكتسبت ثقة أكبر بما يفعله، وجعلته متفكراً بشكل أكبر في صياغة بنية سينمائية خالصة، بعيدة عن المخيلة التلفزيونية، وبدأب واضح لإدراك صعوبة المهمة الملقاة على عاتقه. وهذا ما انعكس إيجاباً على حركة الكاميرا وزوايا التصوير، وتلك المسحة الشاعرية في تعاقب المناظر والأحداث جنباً إلى جنب مع الموسيقى (سمير كويفاتي)، ومن دون أن ننسى المهارة الواضحة في إدارة الممثل، لا سيما ما بذله الفنان وائل رمضان في دور الطبيب المحتضِر، أو تلك المشاهد الرتيبة المتقنة لشخصيات الفيلم، ومواجهتهم لمشاهد الخراب الكثيفة التي نقلتها الكاميرا بحساسية لافتة عبر لقطات واستعراضات متأنية وبطيئة. مرة على إيقاع أنفاس الطبيب وحشرجاته وهو يقوم بتحضير الإبر لنفسه، ومرات عبر الجو العام للمكان، وما خالطه من أصداء لكلاب وذئاب بعيدة، وخطوات غامضة تجوس في الجوار.
مناخ بصري صوتي
في هذا المناخ الغني في مفرداته الصوتية والبصرية نسج زيدان أحداث "غيوم داكنة"، مستنداً إلى رتابة مقصودة لتتابع الأحداث، منتحلاً الساعة القديمة المعطلة بين يدي شخصية الجد، والذي عبثاً ينجح في إصلاحها، في دلالة للزمن السوري المتوقف. بينما نتابع بعيني الطفل بطل الفيلم الأصلي، تلك الدهشة من تعاقب النهار والليل على شخصيات تعطلت إرادتها ورغبتها في الحياة.
فالرجل المشلول العنيّن، ومثله الطبيب المُحتضر اليائس، وكذلك المُحارِب الذي فقد صوابه ويقاتل أشباحاً لا يراها، جميعهم يدخلون ما يشبه لوحة "الزمن" لسلفادور دالي، حيث نشاهد الساعات اللينة المرتخية، والمُميعة التي تنتفي معها قيمة الوقت، وتصبح عبارة عن قيمة محايدة ونسبية. تماماً كأبطال "غيوم داكنة" الممددين على أسرّتهم الخربة، والقانطين المستسلمين لمصائرهم في الموت أو الانتظار.
الفيلم الذي عُرض لأول مرة في الدورة السادسة والثلاثين من مهرجان الإسكندرية لأفلام البحر المتوسط، افتتح، أخيراً، في عرضٍ خاص في صالة "كندي دُمّر" في دمشق، ولم يلبث أن أثار موجة من الجدل والنقاش لما حققه من ابتعاد عن الواقعية المبسطة، مرتكزاً على نقلات مونتاجية رشيقة ومباغتة، وبنية تداخل فيها الوهم بالذاكرة. كل هذا جعل "غيوم داكنة" يوظف الإمكانيات الإنتاجية المتواضعة لصالح اللغة السينمائية المتقشفة، متملصاً من الادعاءات والاستعراضات البصرية المجانية، متوجاً هذا بلونية رمادية باردة، وإضاءة مشبعة تغيب فيها وجوه الممثلين، لتنفر من جديد بين حطام المنازل الحجرية، والأسقف المتداعية، والمركبات المعطلة على جوانب الطرق. ناهيك عن الشوارع المزدحمة بقطع الخردة والأثاث المتفحم بنيران المدافع وطلقات الرصاص، والتي برع الفيلم في جعلها تبدو مثل ألبوم لصور تذكارية عن ضحايا الحرب السورية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مستوى تسجيلي يحققه زيدان هنا مع المستوى الروائي، منهمكاً في التقاط أدق التفاصيل التي تحقق إيهام المشاهد مع ما يحدث على الشاشة، قاذفاً بشخصيات الفيلم في نهاية المطاف إلى مصير مجهول. وربما هذا ما دفع المخرج إلى اختتام الفيلم بوصول الزوج الغائب بساق واحدة، فبدلاً من أن تكون عودته نهاية سعيدة لانتظار طال أمده من قبل الزوجة والأب والشقيق، تحول وصوله المفاجئ إلى صدمة، وإلى ذروة جديدة من أسئلة تعيد الحرب طرحها دون مواربة. وبلا أي رتوش يتم تشخيص الواقع، فلا يكتفي الفيلم بالمعالجات الفنية الجاهزة، أو تلك المذيلة بالنزعات التعبوية، بل يؤكد سؤال المصير، تاركاً الأبواب مواربة لأكثر من نهاية.