في السادس من فبراير (شباط) من العام الماضي، أعلنت القوات المسلحة التركية تنفيذ تدريبات عسكرية ستستمر حتي 22 من الشهر ذاته، في جميع مساحات البحر المتوسط جنوب قبرص، وفي أعقاب الإعلان بثلاثة أيام، تلاطمت أمواج المتوسط بالتوترات مع قيام السفن الحربية التركية، للمرة الأولى، باعتراض سفينة حفر تابعة لشركة "إيني" الإيطالية كانت متجهة نحو قبرص بغرض التنقيب والاستكشاف عن الغاز الطبيعي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم تكن تلك الحادثة هي الأولى في سلسلة التصعيد الكلامي المتبادل بين أنقرة من جهة ودول أوروبية ومتوسطية، ومنها مصر من الجهة الأخرى، بشأن استكشافات الغاز في المنطقة، فرغم أن خطوة الاعتراض العسكرية التركية، للسفينة المدنية الإيطالية، كانت الأولى من نوعها في التاريخ الحديث لسفينة تركية ضد سفينة أوروبية مدنية، فإنها "صبت مزيداً من الزيت" على النار الخامدة بشأن غاز المتوسط، وفق تعبير دبلوماسي أميركي رفيع المستوى، ما دفع روما إلى إرسال إحدى فرقاطاتها إلى المناطق القبرصية، لتشهد معه الأيام والشهور التالية، "حربا باردة" بين الأطراف المتنازعة تتصاعد حينا وتهدأ وتيرتها حيناً آخر، لتكون آخر فصولها، أمس، مع تحذير مصري "شديد اللهجة" من عواقب "الأعمال الاستفزازية" التركية، ومسعاها للتنقيب قبالة السواحل القبرصية، وهو ما أعقبه بساعات بيانٌ أوروبيٌّ أعرب فيه عن "القلق البالغ" في الاتجاه ذاته ضد أنقرة، ما أعاد الملف إلى حالة "السخونة" مجددا وفق دبلوماسي مصري.
مصر تحذر وأوروبا تقلق
غداة إعلان السلطات البحرية التركية في رسالة بثتها على الخدمة الدولية للرسائل البحرية (نافتكس)، الجمعة 3 مايو(أيار)، نيتها إجراء عمليات تنقيب عن الغاز حتى سبتمبر (أيلول) المقبل في منطقة من البحر المتوسط، تقول السلطات القبرصية إنها تندرج ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة للجزيرة، بل وتتعداها. حذرت الخارجية المصرية تركيا من اتخاذ أي إجراء أحادي الجانب فيما يتعلق بأنشطة حفر أعلنتها في منطقة بحرية غرب قبرص.
وقالت الخارجية المصرية، في بيان "شديد اللهجة" إن إقدام أنقرة على أي خطوة دون الاتفاق مع دول الجوار في منطقة شرق المتوسط، قد يكون له أثر على الأمن والاستقرار في المنطقة. وأكدت ضرورة التزام كافة دول المنطقة بقواعد القانون الدولي وأحكامه. موضحة أن القاهرة تتابع باهتمام وقلق التطورات الجارية، حول ما أُعلن بشأن نوايا تركيا البدء في أنشطة حفر في منطقة بحرية تقع غرب جمهورية قبرص.
ووفق دبلوماسي مصري، تحدث لـ"اندبندنت عربية"، فإن البيان المصري جاء متوافقا مع رفض مصر القاطع للاستفزازت التركية المستمرة، فيما يتعلق بملف غاز المتوسط، وسعيها المستمر لـ"التحرش" بدول المنطقة ومحاولات توسيع سيطرتها ونفوذها في مجال الاستكشافات الغازية بالمنطقة.
وذكر المصدر، الذي طلب عدم ذكر اسمه، أن القاهرة قادرة على صياغة موقف موحد وقوي ضد "الاستفزازت التركية"، لا سيما أن الموقف يتوافق مع قواعد القانون الدولي والاتفاقات ذات الصلة بالملف. وأوضح المصدر، أن بيان الخارجية المصرية، أمس، جاء "ليضع النقاط على الحروف ويحسم الأمور بالنسبة للموقف المصري تجاه أي خطوات تركية أحادية الجانب".
وكانت مصر أعادت ترسيم الحدود البحرية بينها وبين قبرص في منطقة شرق المتوسط عام 2013، بعد ظهور اكتشافات جديدة للغاز في منطقة المياه الاقتصادية بين مصر وقبرص، وذلك في ظل ما تشهده العلاقات المصرية التركية من توترات سياسية كبيرة منذ الإطاحة بالرئيس المصري الأسبق محمد مرسي المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين المصنفة مصريا "جماعة إرهابية" على إثر احتجاجات شعبية في يوليو (تموز) 2013، وعلى الأثر أعلنت أنقرة عدم اعترافها باتفاقية ترسيم الحدود بين مصر وقبرص، واصفة إياها بأنها "لا تحمل أي صفة قانونية".
وبموازاة البيان المصري، أعربت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، في بيان أوروبي عن "قلقها البالغ" حيال إعلان تركيا نيتها القيام بأنشطة تنقيب في المنطقة، وقالت "في مارس (آذار) عام 2018، ندد المجلس الأوروبي بشدة بمواصلة تركيا أنشطتها غير القانونية في شرق البحر المتوسط".
البيان الأوروبي، الذي أعقب البيان المصري، بساعات قليلة، دعت فيه موغيريني، "أنقرة إلى ضبط النفس واحترام الحقوق السيادية لقبرص والامتناع عن أي عمل غير قانوني". كما أكدت استعداد "الاتحاد الأوروبي التام للرد، في حال حصول أي عمل من هذا النوع، ردا ملائما يجسد التضامن الكامل مع قبرص".
في المقابل، رفضت وزارة الخارجية التركية تصريحات موغيريني. وقالت "إن أعمال الحفر تستند إلى "حقوق مشروعة"، متهمة الحكومة القبرصية "بعدم التحلي بروح المسؤولية وبتهديد أمن واستقرار منطقة شرق البحر المتوسط، من خلال تجاهلها حقوق القبارصة الأتراك"، الذين وصفتهم بـ"المالكين والشركاء" في الموارد الطبيعية للجزيرة.
وتسيطر حكومة جمهورية قبرص على ثلثي الجزيرة الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، ويسيطر على الثلث الشمالي منها إدارة انفصالية مدعومة من تركيا. وتجري جمهورية قبرص، العضو في الاتحاد الأوروبي، عمليات لتطوير حقول الغاز البحرية ووقعت في الأعوام الأخيرة، صفقات مع شركات الطاقة العملاقة، إيني، وتوتال، وإكسون موبيل، لإجراء أعمال الحفر الاستكشافية. لكن أنقرة تقول إن إعمال الحفر هذه تحرم الأقلية القبرصية التركية من الاستفادة من الموارد الطبيعية التي تحيط بالجزيرة.
وقالت وزارة الخارجية القبرصية في بيان إن "هذا الاستفزاز من جانب تركيا يشكل انتهاكا صارخا للحقوق السيادية لجمهورية قبرص". لكن أنقرة التي اجتاحت قواتها الشطر الشمالي من الجزيرة عام 1974 تطالب بوقف أي عملية تنقيب مع استمرار عدم التوصل إلى حل بين القبارصة اليونانيين والأتراك.
المشهد يزداد سخونة
يجمع مراقبون أن حقول الغاز والنفط المكتشفة في شرقي البحر المتوسط خلال السنوات الأخيرة، خلفت مساراً جديداً للصراع بين دول المنطقة، يعيش بعضها منذ سنوات توتراتٍ سياسية كبيرة، ما يهدد باتخاذ النزاع أبعاداً أكثر خطورة في المستقبل القريب.
وفي نظر البعض، لا يُستبعد أن يتطور الصراع متعدد الأطراف إلى حرب إقليمية؛ فمنطقة شرقي المتوسط تضم احتياطات استراتيجية ضخمة وصلت، وفقاً لتقديرات المسوح الجيولوجية الأميركية، إلى ما يقارب 122 تريليون قدم مكعبة من الغاز. إذ تؤجج باستمرار عمليات ونوايا التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط نيران الأزمة الإقليمية المحتدمة التي يشترك فيها كل من إسرائيل ولبنان وتركيا وقبرص واليونان ومصر وحتى روسيا. فيما يعتبر آخرون أن حجم الاكتشافات الغازية في المنطقة تفتح ساحة للتعاون بين الدول، حال الرضوخ لـ"قواعد القانون الدولي" الحاكمة في ذات الشأن". وبين هذا وذاك، تحاول "اندبندنت عربية" استشراف ما هو مستقبلي فيما يتعلق بذلك الملف الشائك.
يقول فرانسيس فانون، مساعد وزير الخارجية الأميركي لشئون الطاقة، إن "بلاده تراقب عن كثب تطورات الأوضاع في تلك المنطقة الحيوية والاستراتيجية"، وبحسب فانون، الذي ذكر في لقاء سابق مع "اندبندنت عربية" خلال جولة أجراها في المنطقة وشملت إسرائيل وقبرص ومصر، أن "واشنطن تقف على نقطة واحدة من جميع الأطراف لأنها عندما يتعلق الأمر بالطاقة، تنظر إلى منطقة شرق المتوسط كإقليم واحد، وليس كطرف على حساب طرف، إذ إن هناك تعاونا واتفاقات وهذا الواقع يخلق فرصا للجميع ليكون فائزا وهو ما تدعمه واشنطن". إلا أنه أيضا شدد على أن بلاده "تدعم حق جمهورية قبرص في ممارسة حقها الكامل في استكشاف المناطق الاقتصادية الخاصة بها"، مؤكداً على أن الثروات الطبيعية يتم مشاركتها وفقا للقانون الدولي والاتفافات الدولية"، كما أن بلاده ترفض تهديد أو استخدام القوة العسكرية في تسوية هذه النزاعات لأنه يتعارض مع التطوير السلمي للثروات الطبيعية"، على حد وصفه.
وبخلاف موقف الولايات المتحدة، يجد الأوروبيون أنفسهم في معضلة التعاطي مع "الاستفزازت" التركية المستمرة، لقبرص على الأخص، العضو في الاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو.
ووفق دبلوماسي أووربي في القاهرة رفيع المستوى، فإن "إشكالية التنافس على غاز المتوسط لها جوانب قانونية وسياسية والموقف الأوروبي في أغلبه يرفض تماما التهديد والتصعيد أو الامتناع عن الحوار"، وهو ما يدفعنا لإدانة الاستفزازت التركية المتواصلة.
الدبلوماسي الأوروبي، أوضح لـ"اندبندنت عربية"، أن ما ينذر بمزيد من التوتر بين دول المنطقة بشأن غاز المتوسط، هو أن "العلاقات بين تلك الدول معقدة جدا؛ ويوجد الكثير من الخلافات أبرزها الصراع القبرصي التركي، والتركي المصري"، مضيفاً "يلعب التوتر والصراع السياسي الحاكم لبعض العلاقات بين بعض الدول دورا مزدوجا، فتارة نراه يعقِّد التعاون، وفي بعض الأحيان يساعد على التقارب بين البلدان، وتشكيل تحالفات". وتابع: "غالبية الدول لديها مشاكل مع تركيا، ومن ثم على أنقرة إعادة تقييم مواقفها في ذلك الملف لتجنب خروج الأوضاع عن السيطرة".
وفي يناير (كانون الثاني) الماضي، اجتمعت دول بشرق المتوسط (هي مصر وإسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية)، واتفقت على إنشاء "منتدى غاز شرق المتوسط"، على أن يكون مقره العاصمة المصرية القاهرة، وهو ما عكس أول "نواة" لتشكيل إطار جماعي للتعاون فيما بين تلك الدول فيما يتعلق بملف الغاز. وبحسب بيان وزارة البترول المصرية حينها، فإن المنتدى يهدف إلى تقديم أسعار تنافسية، ويدشن لأولى الخطوات العملية تجاه التعاون بين دول غاز شرق المتوسط، إلا أنه مثـّـل بالنسبة لأنقرة، وفقا لتقارير تركية حينها، "تهديدا واضحا للمصالح والحقوق التركية في الاستكشافات الغازية في المنطقة".
وجاء إنشاء المنتدى في إطار سعي مصر للتحول لمركز إقليمي للطاقة في المنطقة، الأمر الذي اعتبره الباحث السياسي بسام صالح، "يُوجِد صراعا بين مصر وتركيا على من سيصبح مركز الطاقة، ويبدو أن مصر تفوقت على تركيا في هذا المجال، إذ استطاعت أن تستقطب إليها دول غاز شرق المتوسط، كدولة عبور لأنابيب الغاز (ترانزيت)، وهذا ما كانت تسعى إليه أنقرة". مضيفاً لكن خلافات أنقرة مع كل من قبرص واليونان ومصر وإسرائيل تطغى على الموقف.
صالح يضيف، "ما يمتلكه حوض المتوسط من حقول تضم مخزوناً استراتيجياً هائلاً من الغاز وقربه من الدول الأوروبية، يجعلان من تلك الحقول كنزاً استراتيجياً لبلدان المنطقة". ويتابع "إن كان البعد الاقتصادي سبباً رئيساً للصراع، فالبعد السياسي يشكل جانباً مهمّاً آخر للنزاع؛ فعلاقات تركيا واليونان مثلاً تشهد توتراً مستمراً، في حين أن العلاقات بين أثينا والقاهرة تشهد تحسناً ملحوظاً".
وبحسب صالح، فإن ما يتميز به الصراع على الغاز في شرق حوض البحر الأبيض المتوسط، هو تداخل أبعاده المختلفة السياسية والاقتصادية والقانونية والأمنية مع بعضها البعض، وهو ما يجعله صراعاً معقداً وقابلًا للاشتعال لاسيما مع كثرة اللاعبين المعنيين به محلياً وإقليمياً ودولياً، ووجود خلل هائل في توازن القوى بين أطراف الصراع بالإضافة إلى مصالح اقتصادية ضخمة للمنخرطين فيه.
علام يتنافسون؟
وفق تقدير هيئة المسح الجيولوجي الأميركية في عام 2010 فإن هناك احتمال وجود ما يقرب من 122 تريليون م3 (متر مكعب) من مصادر الغاز غير المكتشفة في حوض شرق المتوسط قبالة سواحل سوريا ولبنان وإسرائيل ومصر وقبرص، بالإضافة إلى ما يقارب 107 مليارات برميل من النفط القابل للاستخراج.
وخلال العقدين الماضيين، جرى اكتشاف العديد من حقول الغاز في منطقة شرق البحر المتوسط. وبدأ اكتشاف تلك الحقول عام 2000، عندما اكتشفت شركة "بريتش غاز"، التابعة لشركة "بريتش بتروليوم"، حقل "غزة مارين" على مسافة 36 كم من شواطئ قطاع غزة، حيث يُقدَّر إجمالي المخزون الاحتياطي للحقل بما يقارب تريليون قدم مكعبة من الغاز. وفي يناير 2009، تم اكتشاف حقل "تمارا"، الذي يبلغ إجمالي المخزون الاحتياطي به، وفقاً للمسوح الجيولوجية، ما يقارب 10 تريليونات قدم مكعبة، ويقع الحقل على مسافة 90 كم من شواطئ شمالي إسرائيل، وعلى مسافة 1650 متراً تحت سطح البحر.
كما شهد العام ذاته، اكتشاف حقل "أفروديت" على بُعد 180 كم من الشاطئ الجنوبي الغربي لقبرص، وبعمق 1700 متر تحت سطح البحر، ويقدَّر إجمالي المخزون الاحتياطي لـ"أفروديت" بما يقارب 9 تريليونات قدم مكعبة من الغاز الطبيعي.
حقل آخر تم اكتشافه عام 2009، هو "داليت" الذي يقع على مسافة 60 كم غربي مدينة الخضيرة (شمالي إسرائيل)، بإجمالي احتياطي يبلغ ما بين 0.35 و0.5 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي.
في عام 2012، تم اكتشاف حقل "ليفياثان" الذي بلغ احتياطي الغاز فيه 17 تريليون قدم مكعبة، ويقع على مسافة 135 كم من شواطئ شمالي إسرائيل بالقرب من مدينة حيفا، وذلك بعمق 1600 متر تحت سطح البحر.
وفي عام 2015، تم اكتشاف حقل ظهر قرب السواحل المصرية، الذي اكتشفته شركة "إيني" الإيطالية والذي يعد أكبر حقل غاز في البحر المتوسط. ويبعد الحقل عن شواطئ مدينة بور سعيد المصرية نحو 200 كم، ويبلغ الاحتياطي المؤكد فيه 30 تريليون قدم مكعب من الغاز. وطبقاً لتقديرات "إيني"، فإنها سوف تستخرج 2.5 مليار قدم مكعبة بالسنة في العام الحالي 2019، وهذا الإنتاج سيشكل نحو 40% من إنتاج مصر من الغاز. وبعد حقل ظهر، أعلنت شركة إيني الإيطالية في بدايات العام الحالي، عن اكتشاف غازي جديد قرب السواحل المصرية، وهو حقل "نور"، الذي يقع في البحر المتوسط على بعد حوالي 50 كيلو متراً شمال سيناء.
يذكر أن العديد من الشركات العالمية هي من تتولى عمليات التنقيب والاستكشافات في منطقة المتوسط، وعلى رأسها "إيني" الإيطالية، و"توتال" الفرنسية، و"نوبل إنرجي" الأميركية.