توفر أصول بقيمة 2.3 تريليون دولار في نهاية عام 2019، وضع البنوك الخليجية في وضع جيد لمواجهة الضربة المزدوجة المتمثلة في الانخفاض الحاد في أسعار النفط وتفشي جائحة كورونا في عام 2020. وبحسب "أس بي غلوبال"، والتي تغطي 23 مؤسسة خليجية، يمكن للبنوك الخليجية استيعاب ما يصل إلى 36 مليار دولار من المخصصات الإضافية قبل أن تتآكل قواعد رأس مالها.
لماذا تترد البنوك؟
والسؤال هنا: لماذا لا تزال البنوك في المنطقة تتردد بتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، على الرغم من امتلاكها ملاءة مالية قوية؟ الجواب بطبيعة الحال بسيط، وهو أن نسبة المخاطرة في تلك المشاريع عالية مقارنة بمشاريع الشركات الكبرى، والتي عادة ما ترتبط بعقود ضخمة تدعمها الحكومات، بالتالي تكون فيها نسبة المخاطرة أقل بكثير. وتمثل الشركات الصغيرة والمتوسطة أكثر من 90 في المئة من جميع الأعمال في العالم العربي، وتوفر مصدراً رئيساً للسيولة بحسب صندوق النقد الدولي، وهو سبب كافٍ لحث البنوك على تمويل هذه الشريحة من الأعمال لتنشيط اقتصاد المنطقة.
ولا يقتصر التحدي على تمويل هذا النوع من الشركات فحسب، فحتى فتح حساب لتلك الشركات معضلة أخرى، فمع التطور التكنولوجي وتسابق حكومات المنطقة على جذب الإستثمارات الأجنبية، ومع التشجيع على تأسيس مزيد من الشركات أصبحت الفترة الزمنية المُستغرقة لاستخراج رخصة تجارية لا تتعدى 3 إلى 4 أيام، ولكن فتح حساب لشركة صغيرة قد يستغرق من دون مبالغة، 12 شهراً، ناهيك بمتطلبات البنوك التي لا تنتهي مثل السيرة البنكية لصاحب الشركة، وفي حال الموافقة على إقراض الشركة يأتي التمويل بأسعار فائدة كبيرة جداً تجعل الاقتراض غير مُجدٍ. ويجمع المحللون الماليون على أن الوقت قد حان لتذليل العراقيل وتضييق مساحة المتطلبات لتنشيط الأسواق الخليجية وخلق فرصة عمل جديدة وخفض البطالة.
دعم الشركات
وكانت "غلوبال فايننس" قد أشارت في تقرير لها صدر في يوليو (تموز) الماضي، إلى أن البنوك الإقليمية لم تفعل ما يكفي لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة في المنطقة. وأضافت أن غالبية برامج التحفيز في دول مجلس التعاون الخليجي هي تدابير نقدية واحترازية كلية واسعة النطاق، لمواجهة تداعيات أزمة كورونا، وهي ليست موجهة بشكل خاص إلى دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة. وقالت إن أبرز المشكلات التي تواجهها الشركات الصغيرة والمتوسطة هي ممارسات الإقراض القديمة، لا سيما "إقراض الاسم"، حيث تقرض البنوك الشركات بناءً على الاسم أو السمعة، وهي ممارسة لا تزال سائدة في دول الخليج، وقد عمل "إقراض الاسم" بشكل جيد لسنوات عديدة، ولكن تبين اليوم أنه ولّد ممارسات إقراض معيبة، إلى حد كبير على حساب الشركات الصغيرة والمتوسطة الوليدة.
ضريبة على الأرباح المصرفية
ويقول المحللون الماليون إن إقناع البنوك بتغيير السياسة وإقراض الشركات الصغيرة والمتوسطة لن يكون أمراً سهلاً. وكانت البنوك قد حققت أرباحاً كبيرة، ارتفعت بنسبة 16.9 في المئة في عام 2019، وفقاً لشركة المحاسبة العالمية "كي بي أم جي"، ما دفع البعض إلى مطالبة الحكومات بفرض ضريبة لمرة واحدة على الأرباح المصرفية لتقديم قروض ميسرة للشركات الصغيرة والمتوسطة، إلى جانب نقطة مهمة، وهي أنه غالباً ما تكون البنوك المحلية مقرضاً مهماً للكيانات المرتبطة بالحكومات، ما يجعلها أقل عرضاً للنطاق الترددي للتركيز على الشركات الصغيرة والمتوسطة، وهو وضع من المرجح أن يزداد سوءاً، حيث يؤدي تشديد السيولة إلى زيادة المنافسة على رأس المال.
البنوك مترددة والفائدة عالية جداً
وقال محمد علي ياسين، الرئيس التنفيذي للاستراتيجيات والعملاء في "الظبي كابيتال" لـ"اندبندنت عربية"، "لو تحدثنا عن الفترة منذ اندلاع جائحة كورونا حتى يومنا هذا سنجد أن شهية إقراض البنوك في المنطقة الخليجية لا تزال ضعيفة جداً، حيث تبحث البنوك عن إقراض بمخاطر أقل، بالتالي اتجهت معظم التمويلات المصرفية في المنطقة لمؤسسات حكومية أو شبه حكومية".
وأضاف، "لقد شهدنا معاناة الأعمال الصغيرة من نقص التدفقات النقدية، وخاصة في المرحلة الأولى من تفشي جائحة كورونا، ومع الانتعاش الحاصل في ضوء انتشار اللقاحات لا تزال شهية الإقراض لدى البنوك ضعيفة، ولا تزال البنوك تطالب هذه الشركات بضمانات إقراض عالية، كما أن تكلفة الإقراض أصبحت عالية". وتابع، "لو نظرنا حولنا اليوم سنرى مؤسسات حكومية أو شبه حكومية في المنطقة تقترض على أساس 90 إلى 150 نقطة أساس، وهي أعلى من ما يطلق عليه سندات الخزينة لعشر سنوات، بالتالي الإقراض للشركات الكبير يكون بتكلفة تترواح بين 1.5 و4 في المئة، بينما تصل تكلفة الإقراض لمشاريع الشركات الصغيرة والمتوسطة إلى ما بين 10 و12 في المئة، لذلك شهدنا خلال الأشهر الثلاثة الماضية ومنذ انطلاق عام 2021 خروج مبادرات حكومية هدفها تنشيط القطاع الاقتصادي في دول مجلس التعاون الخليجي، والتركيز على قطاع المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتحفيز النشاط تحديداً في هذا القطاع من أجل تحفيز كامل لاقتصادات المنطقة وخلق فرص عمل وخفض مستويات البطالة، وخاصة أن قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة مهم جداً للتعافي الاقتصادي الكلي لدول المنطقة". وأضاف ياسين أن هناك دولاً ضخت سيولة في البنوك لدعم هذا القطاع تحديداً وبضوابط معينة بحيث تكون تكلفة الإقراض أقل من 10 و12 في المئة، وحتى إن ارتفعت بأن لا تتجاوز 7 أو 8 في المئة، مما يسهل على تلك المؤسسات الحصول على قروض من البنوك لمواصلة أنشطتها والعودة مجدداً لسوق العمل بشكل أفضل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع، "على سبيل المثال لا الحصر في أبريل (نيسان) الماضي، أعلن عن إطلاق "مصرف الإمارات للتنمية"، ووُضعت له خطة استراتيجية وتم تخصيص محفظة تمويلية له بقيمة 30 مليار درهم (8.1 مليار دولار) على مدار خمس سنوات، مخصصة لدعم عدة قطاعات صناعية، والإسهام في تمويل ودعم أكثر من 13500 شركة صغيرة ومتوسطة وكبيرة، وخلق 25 ألف وظيفة، ويندرج تحت الحلول التمويلية التي يوفرها المصرف قطاعات الصناعة والبنية التحتية والرعاية الصحية والأمن الغذائي والتكنولوجيا، ويسعى المصرف لتسهيل اقتراض الشركات الصغيرة والمتوسطة وتمويلها بشروط ميسرة".
تأسيس حسابات مصرفية للشركات الصغيرة
وتطرق الرئيس التنفيذي للاستراتيجيات والعملاء في "الظبي كابيتال"، إلى المصاعب التي تواجه الشركات الصغيرة في تأسيس حسابات مصرفية على الرغم من سرعة تأسيسها للرخصة التجارية، سواء في المناطق الحرة أو خارجها، قائلاً، "سنجد فقط بنكاً أو بنكين على أكثر تقدير ربما يكون لديهما رغبة في إقراض الشركات الصغيرة بعد تقديم الشركة لسجل أعمالها، وهذا يعني أن الشركة عليها أن تمول نفسها بنفسها لمدة عام ونصف العام، ومن ثم التقدم مرة أخرى للحصول على التمويل اللازم، وحتى لو استطاعت الفوز بمشاريع لتمويل نفسها يجب أن يتم الرفع في حساب الشركة غير الموجود، بالتالي هناك مشكلة قائمة تحتاج إلى حلول... حتى البنوك التي توافق على الإقراض والتمويل وعادة ما تكون بنوك صغيرة تضع نسبة فائدة عالية جداً على هذا التمويل إلى جانب متطلبات السيولة المستحيلة، وخاصة عندما نتحدث عن شركة صغيرة مبتدئة فإن هذا الطلب يقيد التدفقات المالية لذلك. نعم هناك مصاعب كثيرة تواجه الشركات الصغيرة والمتوسطة في الأسواق الخليجية".
ويقول ياسين، "لقد قطعنا في المنطقة المرحلة الأصعب، والتي أعقبت تفشي الوباء، هناك شركات أغلقت، ولم تعد موجودة في السوق، وأخرى صمدت خلال الجائحة وتباشر أنشطتها اليوم". ويضيف، "هناك بنوك خسرت من تمويل مشاريع شركات صغيرة ومتوسطة بسبب تداعيات الجائحة وعدم قدرة هذه الشركات على الصمود، بالتالي لم يعد الأمر مشجعاً للبنوك كي تقرض هذا النوع من الشركات، مما جعلها أكثر تردداً في قضية الإقراض".
وختم ياسين قائلاً، "عندما نتحدث عن التعافي الكامل والعودة بقوة للنشاط الاقتصادي يجب أن تكون هناك سيولة تمويلية داعمة للقطاع الخاص، وخاصة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة".
الاندماجات الكبرى
من جانبها، تعتقد كارين يونغ، الباحثة المقيمة في معهد "أميركان إنتربرايز إنستتيوت"، أن الدول ستظل الفاعل المهيمن في الأسواق المالية الإقليمية، وتقول: "أعتقد أن البنوك في دول مجلس التعاون الخليجي يجب أن تخدم أبرز عملائها أولاً، وهذه مؤسسات مرتبطة بالحكومات إلى حد كبير، ومن المرجح أيضاً أن يؤدي الحجم المتزايد لعمليات الاندماج إلى ترك الشركات الصغيرة والمتوسطة مع خيارات تمويل أقل". وتضيف يونغ "من المرجح أن يستمر توطيد قطاع البنوك، الذي بدأ بالفعل في عام 2019، واتجاه اندماج البنوك الإسلامية الأصغر مع بنوك أكبر".
ويقول آخرون، إن مأزق الشركات الصغيرة والمتوسطة، والمتمثل في إحجام البنوك عن الإقراض، هو أكبر معضلة تواجهها هذه الشركات اليوم. ويستشهد ريدموند رامسدال، رئيس تصنيفات بنوك الشرق الأوسط في وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني، بعوامل تشمل نقص ضمانات الائتمان، والمعلومات المالية المحدودة والطبيعة المؤقتة للشركات الصغيرة والمتوسطة التي يهيمن عليها المغتربون، فضلاً عن أطر الإعسار غير المختبرة. ويقول "يمكن أن يُعزى هذا أيضاً إلى هيكل اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي، التي لا تزال تسيطر عليها الشركات الكبيرة، بما في ذلك الكيانات المرتبطة بالحكومة والمجموعات العائلية الكبيرة المتنوعة".
الاستعداد للمستقبل
وتقول "غلوبال فايننس"، إن البنوك لديها مشاكلها الخاصة، وهي تواجه تحديات وجودية وسط ارتفاع القروض المتعثرة، وانخفاض الودائع الحكومية، والدمج القسري المحتمل، حيث تكتسح الرقمنة الاستراتيجيات المصرفية القديمة.
وتضيف، "لقد هاجم الوباء أيضاً اقتصادات الخليج التي تعتمد على الهيدروكربونات التي تتسم بدرجة عالية من التقلبات الدورية، مما زاد من توتر العلاقة غير المستقرة بين البنوك والشركات الصغيرة والمتوسطة". وأشارت إلى أن الشركات الصغيرة والمتوسطة قد تعافت من فترات الانكماش السابقة؛ لكن هذه المرة تبدو مختلفة، حيث تزامن الانكماش مع نزوح الوافدين وتناقص الطلب العالمي. وتضيف، "مع ذلك، هناك دلائل على أن قلق الحكومات يتزايد بشأن محنة الشركات الصغيرة والمتوسطة". وفي منتصف يونيو (حزيران) الماضي، أعلن صندوق التنمية الصناعية في السعودية عن حزمة بقيمة مليار دولار أميركي تقريباً لدعم أكثر من 500 شركة صناعية صغيرة ومتوسطة وكبيرة. وفي وقت سابق من الشهر، حث البنك المركزي للإمارات، البنوك المحلية على السحب من مخطط الدعم الاقتصادي المستهدف، والذي يتضمن تسهيلات دعم اقتصادي من دون فوائد بقيمة 50 مليار درهم إماراتي (13.6 مليار دولار أميركي)، بعد توضيح تحويلات الصندوق للشركات الصغيرة والمتوسطة.
وبحسب تقرير لصندوق النقد الدولي، فإن منح الشركات الصغيرة والمتوسطة وصولاً رسمياً للسيولة من شأنه أن يخلق ما يصل إلى 8 ملايين فرصة عمل في العالم العربي بحلول عام 2050. ودعا الصندوق إلى تعزيز وصول الشركات الصغيرة والمتوسطة إلى التمويل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وكذلك إلى تسهيل الحصول على التمويل إلى جانب ضرورة توفير إطار داعم للمعلومات الائتمانية المعززة والمنافسة المصرفية وتطوير أسواق رأس المال لتوسيع الوصول إلى مصادر جديدة لتمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة.