ظلت دولة جنوب السودان تعاني ويلات الحرب الأهلية منذ العام 2013، بعد عامين من تحقيق الانفصال في 2011 عبر استفتاء شعبي، ولم ينجح الانفصال في حل المسائل ذات الطابع الأمني والاقتصادي، إذ إن معظم أحداث العنف المسلح هي نتيجة لانفجار الوضع الاقتصادي والفساد السياسي، إذ أسهم استمرار القتال والانتهاكات المتكررة الواقعة على المدنيين في الرغبة بتوافر السلاح لدى الأطراف المتصارعة.
ولهذه الأسباب، إضافة إلى إعاقة وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين، فرض مجلس الأمن الدولي حظر الأسلحة عام 2018 على جنوب السودان، ثم أصدر قراراً بتمديده حتى الـ 31 من مايو (أيار) 2022، لاستمرار الأسباب ذاتها.
وغير بعيد من ذلك، في منطقة أبيي الغنية بالنفط التي تقع على الحدود بين دولتي السودان وجنوب السودان، مدد مجلس الأمن بعثته للسلام "يونيسفا" حتى الـ 15 من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، مع تأكيده ضرورة تجريد جميع القوات والعناصر من السلاح، باستثناء الوحدات التابعة لـ "يونيسفا" والشرطة المحلية، وذلك بعد فشله في عقد اتفاق بين السودان وجنوب السودان حول منطقة أبيي، مما يطول معه أمد مهمات البعثة، ويعكس هذا وضعاً معقداً قوامه الأساسي هو السلاح، الذي أسهم في تفعيل تدابير الحظر الدولية، مع محاذير من إمكان التفاف دولة الجنوب عليها.
ديناميكية إثنية
بنظرة سريعة نجد أن دولة جنوب السودان، بشكلها الحالي، هي نتاج التاريخ السياسي للسودان الموحد، وأياً كانت نقاط الالتقاء، فإن أبرزها هي الحروب الأهلية والنزاع المسلح، والآثار الآنية لذلك موجودة منذ تمرد إقليم الجنوب على الدولة عام 1955، وتواصل الحال بعد نيل السودان استقلاله عام 1956، ثم في 1985 كان تأسيس الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، ثم اتخذت الحرب صبغة دينية وعرقية بعد انقلاب 1989 وحكم الإسلاميين الذي استمر قرابة ثلاثة عقود. وفي عهدهم أيضاً جرى اتفاق السلام الشامل (نيفاشا) عام 2005، الذي مهّد للانفصال عام 2011.
ومثلما عملت الديناميكية الإثنية في حرب الشمال مع الجنوب، تعمل الآن داخل حدود جنوب السودان، فقد واصلت المجموعات الإثنية تأكيد هويتها، وأصبح وجود هذه المجموعات في دولة منفصلة في حد ذاته مصدراً للتوترات، غذتها عوامل الصراع على السلطة والوضع الاقتصادي المتردي، والشكوك بين المجموعات التي تعيش داخل الدولة الجديدة، بتعالي صوت سيادة كل منها على الأخرى.
هذا الفشل في حماية المدنيين أدّى إلى تمديد مجلس الأمن قرار حظر الأسلحة، إذ تحول الصراع إلى جرائم الحرب بعد ضلوع حكومة الجنوب في حالات العنف الشديد المرتكبة على يد القوات الحكومية والجماعات التابعة لها، والتي وثقتها منظمة العفو الدولية. وفي المقابل، فهناك عنف الجماعات المتمردة وتصاعد الهجمات على المدنيين.
ومنذ الانفصال تحولت الحدود غير المحسومة بين البلدين إلى حدود نفسية أيضاً، فعلى الرغم من اشتراك بعض المجموعات الإثنية مثل قبيلة المسيرية العرب التابعة للشمال، وقبيلة دينكا نقوك الجنوبية في منطقة أبيي، فإنها الآن تعد بؤرة ملتهبة على الدوام.
وقبل انفصال الجنوب، اشتكى حكام الإقليم من أنه ليس هناك توزيع عادل للثروة، وبعد الانفصال ظلت منطقة أبيي تعقد أي اتفاق بين البلدين، وأعلنت جنوب السودان أنها لن تلتزم بأي اتفاقات عُقدت بين الخرطوم وأي دولة أخرى حول نفط الجنوب، والمقصودة بذلك الصين.
ذريعة حماية النفط
فضلاً عن مدّ الصين النظام السوداني السابق بالأسلحة في حربه مع الجنوب، فإن ذلك التعاون ظهر بشكل صارخ في حرب دارفور، حيث استخدمت الصين حق النقض الدولي (الفيتو) ضد بعض قرارات مجلس الأمن في الفترة ما بين (2004 - 2007) الخاصة بدارفور، من أجل إلغاء أي مواد تتعلق بعقوبات اقتصادية قد تفرض على السودان، مما يعرقل مصالحها في التعاون النفطي المستخرج من جنوب السودان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحين صدر قرار مجلس الأمن رقم (1556) في عام 2004، والذي قضى بــ "حظر بيع أو إرسال سلاح إلى إقليم دارفور، خصوصاً للميليشيات غير الحكومية، وكذلك حظر بيعها للقوات المسلحة السودانية"، هددت الصين باستخدام الفيتو، لكنها في مارس (آذار) 2005 وتحت ضغط الولايات المتحدة، وافقت على تمرير قرار مجلس الأمن.
ونجد أن الصين هددت في البداية باستخدام الفيتو للتعبير للخرطوم عن أنها لا تزال حليفها القوي لتحافظ على مصالحها الاستثمارية معها، خصوصاً بعد إصرار بكين على حذف عبارات التهديد الصريحة من نص القرار التي كانت تمس تصدير النفط السوداني، وتعلقت بذريعة حماية النفط حتى يعود بالنفع على المنطقة غير المستقرة، خصوصاً الجنوب ومساعدته في عملية التنمية، بينما واقع الحال أوضح أن المصلحة المتبادلة هي بين بكين والنظام في الخرطوم فقط.
وحينما وافقت الصين على تمرير القرار بامتناعها من التصويت، صُدم النظام السوداني، لكنه وجد مخرجاً سريعاً بالوعود الصينية بتزويده بالأسلحة، وبعد ذلك انخرطت الصين في الدفاع عن مد النظام السوداني بالأسلحة في تعبير المبعوث الصيني الخاص إلى دارفور، ليو غيوجين، لوسائل الإعلام العالمية عام 2008، بأن "الأسلحة التي تبيعها بكين إلى الخرطوم تعادل فقط ثمانية في المئة من مجموع الأسلحة التي تستوردها الخرطوم من دول أخرى، ولا تُعتبر السبب المغذي لحرب دارفور".
وبينما كانت حكومة الخرطوم تواجه الاتهامات الدولية بالانتهاكات في دارفور، كانت الصين توفر لها الحماية بالالتفاف على قرار حظر الأسلحة، وحصلت بذلك على تثبيت وجودها في منابع نفط جنوب السودان إلى حين انفصاله، ثم تحولت إلى التعاون مع الدولة الجديدة.
الحصول على السلاح
بعد عام واحد من اندلاع الحرب التي واجه فيها جيش جنوب السودان قوات التمرد عام 2013، أعلن وزير الدفاع في جنوب السودان كول مانيانغ جوك أن بلاده تسلمت أسلحة من الصين وفقاً لصفقة مسبقة، كان الغرض منها بناء جيش الدولة المستقلة.
وفي ديسمبر (كانون الأول) 2019، فرضت الولايات المتحدة عقوبات مالية على جوك، إضافة إلى وزير الشؤون الحكومية مارتن إيليا لومورو، في أعقاب اتهامهما بعرقلة عودة السلام إلى البلاد، كما فرضت عقوبات على خمسة مسؤولين من جنوب السودان بتهمة مسؤوليتهم عن مقتل اثنين من نشطاء حقوق الإنسان عام 2017.
وبدأت الصين تحسين علاقاتها مع جنوب السودان بعد أعوام من اتهامها بتوفير الدعم المالي والأسلحة لحكومة الرئيس السابق عمر البشير في حرب نظامه مع الجنوب، وقصف القرى والمناطق المدنية. ومن ضمن مظاهر تحسين العلاقات إرسال بكين في ديسمبر 2014 كتيبة مشاة إلى جنوب السودان، في إحدى مهمات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وهي المرة الأولى التي تشترك فيها بإرسال قوات عسكرية إلى جنوب السودان، باعتبارها من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، وبعدها بدت مظاهر التعاون بين البلدين أكثر وضوحاً، واختلطت فيها المصالح على الرغم من ظروف الهشاشة السياسية للدولة والعديد من الأخطار الأمنية.
التفاف على الحظر
تطور نموذج جنوب السودان المعتمد على السلاح من تنظيم محارب متمرد انتهج نظام حرب العصابات مع الدولة الأم إلى نظام محارب داخل إطار الدولة الواحدة، بين حكومة ومتمردين انشقوا من التنظيم الأول (الحركة الشعبية لتحرير السودان). ومثلما استفاد النظام السوداني السابق من الصين بالالتفاف على حظر السلاح، تبدو الظروف أمام جنوب السودان مواتية أكثر، فقد استفادت الصين من تجاربها مع الدول التي صُنفت "مارقة"، كما وقعت اتفاقات دفاع مع دول أفريقية انحسر تعاونها مع الغرب، واستفادت من وجودها على مقربة من القواعد العسكرية الأميركية في جيبوتي مثلاً، وهناك قدر كبير من الترابط بين التعاون العسكري، خصوصاً في مجال الأسلحة بين الصين وكل من السودان سابقاً وجنوب السودان فيما بعد، وبين الاستثمار الصيني في مجال النفط مع البلدين.
ومن المرجح أن يسفر نهج التعاون هذا مع جنوب السودان عن شكل أكثر عنفاً، لأن الصين لديها مبرراتها، وهي أنها تبيع كمية محدودة من الأسلحة، وتلتزم بالمبادئ المنصوص عليها في تصديرها، ولا تتعارض مع المواثيق والمعاهدات الدولية، وأنها تحصل من الدولة المعنية على شهادة المستخدم النهائي لضمان استخدامها في الدفاع عن النفس، وهي بهذا تخلي مسؤوليتها عن التصدير، ولا تدافع عن الجهة المستوردة.
تغيير شامل
من ناحية أخرى، فإن الإنفاق العسكري في دولة جنوب السودان من النوع التقليدي المتركز في سياسة النظام الحاكم، باعتمادها على نسبة أكبر من الموازنة العامة التي من المفترض أن تذهب إلى الصحة والتعليم وتحسين الوضع الاقتصادي، مما يخلق تحدياً يضاف إلى التحديات الاقتصادية الأخرى، ولا يمكن التعامل مع الحرب والنزاعات المستمرة هناك على أنها حال أمنية طارئة، كما يصورها النظام والحركات المتمردة.
ومع ذلك، فهناك بصيص أمل بأن تحدث تغيرات محتملة على مستوى السياسة العامة للبلد، فالتغير الأول هو تراجع وقوع النزاعات المسلحة سواء أكانت داخل دولة جنوب السودان أم في المنطقة الحدودية في أبيي، من خلال الضغط على حكومة الرئيس سلفا كير والدول التي تزوده بالأسلحة، وعلى رأسها الصين، وكيفية التزامها بقرار حظر الأسلحة، والضغط على طرفي النزاع في أبيي للوصول إلى اتفاق.
أمّا التغير الثاني فهو قيام الانتخابات وتغيير نظام الحكم وصولاً إلى نظام ديمقراطي حقيقي بحكومة توافقية تراعي التنوع الإثني، بدلاً من سيطرة مجموعة واحدة بيدها السلطة والثروة على بقية المجموعات، وهذا من شأنه معالجة جذور الصراع الاجتماعي الأمني بدلاً من انتظار استجابة سياسية، من دون إحداث تغيير إيجابي شامل على كل المستويات.