دفعت أزمة المسرح عدداً كبيراً من ممثليه، بقناعة منهم أو ربما رغماً عنهم، إلى التوجه نحو التمثيل التلفزيوني، وشجعهم على هذه الخطوة، تحسن مستوى الإنتاج في الدراما المشتركة، وحاجتهم إلى مورد رزق. وفي المقابل رفض آخرون السير على خطاهم، علماً أن كلا الفريقين، يجد أن التلفزيون هو المجال الأسهل الذي لا يصل إلى مستوى المسرح برقيه وهيبته، وأن كل ما يوفره للفنان هو المال والنجومية.
حتى الآن، ليس معروفاً كم ستصمد الفئة الثانية أمام إغراء التلفزيون، إذا استمرت الأزمة لفترة طويلة، خصوصاً أن أسئلة تُطرح حول المسرح ومستقبله بعد انتهاء أزمة كورونا، وإمكانية عودته كما كان عليه قبلها، في ظل سطوة الإنترنت، وقدرة المنصات على فرض نفسها بقوة، ونجاحها في أن تكون البديل والمتنفس الذي لجأت إليه معظم الفنون للوصول إلى الناس، الذين تقوقعوا في بيوتهم وانقطعوا عن السينما والمسرح والعالم الخارجي.
آراء بعض المسرحيين الذين خاضوا تجربة الدراما التلفزيونية ولا يزالون مستمرين فيها، تعكس رضا غير كلي عن الأعمال التي شاركوا فيها. ويتم التعبير عنه، بطريقة أو بأخرى، على الرغم من حرصهم على الدفاع عنها - ولو غير مقتنعين بها تماماً - في محاولة منهم لكسب دعم المنتجين، الذين وجدوا أيضاً أنفسهم مجبرين على التعامل معهم لرفع مستوى الدراما. أما المسرحيون الصامدون، فيجمعون بأنها لا تزال دون المستوى، وبأنهم يمكن أن يعملوا فيها بشروط معينة غير متوفرة في الدراما الحالية.
نضال الأشقر: المسرح يغني المدينة
نضال الأشقر التي يرتبط اسمها بـ"مسرح المدينة" الذي أطلقته عام 1996، فنانة عاشقة للمسرح وقدمت خلاله أهم الأعمال وأدت أهم الأدوار. أسست مع مجموعة من الفنانين اللبنانيين "محترف بيروت للمسرح" في الستينيات، ومع فنانين عرب فرقة "الممثلون العرب"، كما أنها صاحبة تجربة غنية في التلفزيون الذي قدمت فيه أعمالاً مهمة من بينها "نساء عاشقات" و"شجرة الدر" و"تمارا" و"صبح والمنصور"، لكن انشغالها بالمسرح جعلها تنقطع عن التلفزيون.
عن سبب عدم عودتها إلى التلفزيون كما فعل كثيرون في الفترة الأخيرة، تساءلت الأشقر: "هل يجب أن أترك المسرح من أجل التلفزيون! الكل يلهثون وراء الثاني، لأنه يؤمن أموالاً أكثر بكثير من الأول، لكنهما مجالان مختلفان تماماً. المسرح يُغني مدينة بيروت والفكر والمخيلة، ويطرح أسئلة وأفكاراً جديدة في مكان واحد يوجد فيه المشاهد والممثل. هو أبو الفنون، والمكان الراقي والمتميز بتقنياته وطروحاته، ولم يتخل عنا عبر مئات السنين. حالياً، نحن في بيروت بحاجة ماسة للمسرح، لأن عودة الفنانين إليه، تعيد الأمل للناس، ولقد افتتحنا مسرحنا قبل شهرين، وأعددنا برنامجاً للسنة المقبلة. أما العمل في التلفزيون فـسهل جداً والمشاركة في المسلسلات "لا تقدم ولا تؤخر".
ولأن للدراما التلفزيونية جمهورها الذي يحترمها، توضح: "هذا موضوع مختلف! السينما لديها جمهور أيضاً، وهي مجال للخلق والإبداع، وكذلك يصدر التلفزيون فناً راقياً يدخل كل البيوت. ولكن التسويق له يتطلب تنازلات كثيرة، وكل شيء فيه ممنوع، ولكن لفتني مسلسل "عشرين عشرين" نصاً وإخراجاً وتمثيلاً".
الأشقر التي شاركت في أكثر من 300 ساعة تلفزيونية، لا وقت لديها للتلفزيون كما تقول، وتضيف "لا يمكن أن أترك المسرح من أجل المال، ولكن لا مانع من المشاركة في مسلسل بين وقت وآخر. أنا أحب التلفزيون كثيراً، وهو صار سهلاً، بينما في وقتنا كنا نحفظ كما في المسرح 20 دقيقة لتصوير مشهد واحد. وفي حال أعطيت وقتي له فسيكون ذلك على حساب المسرح. لا يمكنني أن أجمع بينهما، إلا في حال نهض المسرح مجدداً، أو إذا كتبت نصوص خصيصاً لي، ولا أمانع التواجد في الجزء الثاني من مسلسل "عشرين عشرين" في حال طلب مني ذلك. طلبت لأعمال كثيرة سابقاً، ولكنها لم تكن "محرزة". الفكر الحر في المسرح لا يمكن أن يتوفر في مجال آخر، والحوار الحر مع المدينة لا يتوفر في التلفزيون".
وكيف تقيم تجربة منى واصف الموجودة تلفزيونياً مع أنها شاركت في أعمال مسرحية مهمة، وهل تعتبر أن المسألة ترتبط بمزاج الفنان؟ تجيب: "لكل منا مزاجه، وربما هي تفضل التلفزيون، أما أنا فأسست مسرحاً وضحيت بجزء من حياتي من أجله، ولا أريد مال التلفزيون. سوريا تعاني منذ عشر سنوات، وفنانونها يعانون كسائر الشعب السوري، وأنا سعيدة لأنهم يعملون في التلفزيون، لعدم إمكانية العمل في المسرح. ولكني متأكدة من أنهم سيعودون إليه، عندما تسنح الفرصة. كل نجوم سوريا وخصوصاً الجيل الشاب، يبدعون في الدراما التلفزيونية".
في المقابل، اعتبرت الأشقر، أن الذين يتحدثون عن تحول المسرح إلى "أونلاين" لا يفقهون هذا الفن ولا علاقة لهم به، مشيرة إلى أنه يخلق حاجزاً بين الممثل وجمهوره ويفقد سمته.
حنان الحاج علي: لا تغريني المسلسلات
حنان الحاج علي ممثلة وكاتبة ومخرجة مسرحية، فازت مسرحيتها "جوكينغ" بجائزة "الرابطة الدولية لنساء المسرح المحترفات". رُشحت لجائزة نوبل للسلام، لتميزها الفني، ولمساهمة مسرحها في التغيير المجتمعي.
الحاج علي تعتبر أن السوق التلفزيونية لا تتطابق مع الصورة التي تمثلها أو تسعى إليها، وتضيف "أنا "anti-star" وكل ما أفعله لا ينسجم مع المواصفات الموجودة فيه، بصرف النظر عن قيمة الأعمال، علماً أن الجيد بينها نادر جداً، والباقي دون المستوى. صحيح أن القطاع يتطور وأتمنى أن يتطور أكثر، ولكنني لا أحقق نفسي فيه، حتى لو توفر العمل المناسب. عُرضت علي أعمال قليلة وجيدة، ولكني لا أظن أنني أستطيع، بعد مسيرتي الفنية الطويلة أن أخوض الغمار التلفزيوني، إلا إذا حصلت معجزة".
وقارنت الحاج علي بين تجربتها وتجارب ممثلين آخرين، كانوا متمسكين مثلها بالمسرح وما لبثوا أن تراجعوا، قائلة: "الأمر ليس مستحيلاً، وكل شيء ممكن، ولكن كل فنان حر في خياراته. وأنا أؤمن بتطور الأشياء وتحولاتها، ولا أعرف إلى أين يمكن أن تأخذنا الحياة. ولكنني لا يمكن أن أحيد عن كل ما تمسكت به خلال مسيرتي الفنية، لذلك أقوم بأشياء أخرى إلى جانب مهنتي، لكي لا أضطر إلى تقديم تنازلات أو أن أعيد النظر بخياراتي بسبب الظروف الصعبة. فأنا ناشطة على أكثر من صعيد، وبالتوازي أمارس الفن كما أراه".
هل هذا يعني أنها مكتفية مادياً؟ ترد: "الطريق الذي اخترته صعب، ولم أفضل يوماً المادة على النوعية، ومن هم مثلي لا يجنون كثيراً من المال. لذا أنا أعمل في مجالات أخرى، بسبب صعوبات الحياة، مما حال دون أن أقدم تنازلات في المهنة".
وأشارت علي إلى أنها متمسكة بالمسرح حتى الرمق الأخير، لأنه شغفها والفن الذي تجيده، والذي أحبها الناس من خلاله، ويتيح أمامها الفرصة لتناول كل المواضيع التي تريدها، من دون أن تتنازل عن القيمة الفنية للعمل. وعما إذا كانت توافق على عمل تلفزيوني بشروطها، ضحكت ممازحة: "طبعاً، وهذا يعني أن الأمور أصبحت جيدة في لبنان". وتابعت: "شروطي صعبة وخاصة، وفي الأساس أنا اخترت مكاناً مغايراً. أنا متصالحة مع نفسي وسعيدة بعملي والتلفزيون له شروطه". ولأن الممثل يفترض أن يوجد في كل مكان، علقت: "أخيراً، شاركت في فيلم لأن "سينما الكاتب" متاحة في السينما، وهو من توقيع مخرجة في أول فيلم روائي قصير لها، وكما فعلت مع كريسيتال خضر في عملي المسرحي الأخير، لأنني آمنت بعمليهما. وفي الدراما التلفزيونية يجب أن يكون هناك "تلفزيون الكاتب" كما كان يحصل سابقاً. ذوقي خاص، ولا أجد أن ما يقدم تلفزيونياً يتفق مع متطلباتي، كالنص الحقيقي، والوقت الكافي للتدريب مع الممثلين، واحترام شروط العمل للممثل إلى أقصى الحدود، موقع التصوير، فريق العمل... يجب أن يأخذ كل شيء وقته من دون الخضوع لشروط السوق والشروط التقنية، وهذا الأمر يتعارض مع منطق الإنتاجات التلفزيونية".
عصام أبوخالد: وراء الكاميرا
عصام بو خالد ممثل ومخرج طليعي، من أفلامه "زمن الرصاصة"، و"الرجل الضائع"، و"فلافل"، وغيرها، كما أخرج العديد من الأعمال المسرحية أبرزها "أرخبيل"، و"مارس"، و"عالم بلا صوت"، و"العلبة السوداء".
بو خالد هو الجندي المجهول في التلفزيون والدراما، ولكنه يستبعد فكرة الوجود فيهما كممثل، إذ يقول: "علاقتي بالتلفزيون قديمة ولكنها لا ترتبط بالتمثيل، فأنا أعمل فيه كمستشار ومشرف وفي تدريب المذيعين. وفي الدراما أساعد في تطوير الأفكار والنصوص، وتدريب الممثلين، وفي التصوير، أما كممثل فتقتصر مشاركتي فيه على مسلسل "الرئيس" عند تخرجي في الجامعة. التلفزيون لم يغرني كممثل، وأفضل عليه السينما والمسرح. والحل عندي لأزمة المسرح، هو خياراتي الأخرى التي لها علاقة بمهنتي. فأنا مخرج وكاتب ومدرب ومستشار لعدة جهات في العالم العربي وليس في لبنان وحسب. لذا، أنا لم أعانِ من خلل كممثل بسبب أزمة المسرح، لكي أعوض بالتمثيل في التلفزيون. عدا عن أن الدراما الحالية لا تغريني، علماً أنه لا توجد مشكلة مبدأ معها، إلا أنني لم أصادف عملاً يسحرني ويجعلني أتراجع عن قراري. سبق أن عُرضت علي مجموعة من الأعمال ورفضتها لأسباب مختلفة، أحيانا لأنني لم أكن أرغب بذلك، وأحياناً أخرى لأن العمل نفسه لم يعجبني".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي حال توفر النص الجيد؟ يردّ: "طبعاً أقبل به، فأنا ممثل والممثل يعمل في كافة المجالات، ولكني لا أطرح نفسي في السوق كممثل ينتظر عملاً. كما أن المسألة ترتبط عندي بالعلاقة مع الآخرين، وبرغبتي في التعامل مع هذا الكتاب أو المخرج أم لا. مع أنني أحترم تجارب فادي إبي سمرا، وزوجتي برناديت حديب وسعيد سرحان وعبده شاهين، الذين تميزوا سينمائياً ومسرحياً، وكانت خيارتهم في الدراما مبينة على قناعة".
ولأن نهضة الدراما أسهم فيها ممثلو المسرح، فلماذا لا يكون واحداً منهم؟ يجيب: "الممثل الجيد يرفع مستوى الدراما سواء كان ابن مسرح أم لا، وشاءت الظروف أن يكونوا منه، ولكنهم لمعوا في السينما أيضاً. في المقابل بعض ممثلي المسرح فشلوا فشلاً ذريعاً في الدراما وآخرون نجحوا فيها مع أنه لا علاقة لهم بالمسرح، لأنهم ممثلون جيدون". لكن ألا يعتبر أن رفع مستوى الدراما واجب وطني وعليه المساهمة فيه؟ "هنا النقاش يختلف، ويصبح له علاقة بإدارة الإنتاج، وعلى أي أساس يتم الاختيار، وسواها من التفاصيل. يمكن أن أرفع مستوى الدراما بالمساهمة بالكتابة، أو بطرح أفكار جديدة أو بالضغط على الإنتاج لتغيير سياسته التسويقية للدراما أو بكيفية صناعتها، بصرف النظر عما إذا كان ما يحصل صحيحاً أم لا. أما التمثيل، فلأنه مهنتي وشغفي به كبير جداً، فلا أحب أن أستخدمه كوسيلة، بل أفضل استخدام وسائل أخرى من خلال المشاركة بأفكاري وإخراجياً، ويبقى الخيار لي في المشاركة في الدراما كممثل أم لا".