كثيرون هم الشعراء العرب الفرنكوفونيون الذين حصدوا اعترافاً في فرنسا بقيمة مشروعهم الشعري، لكن عدداً محدوداً جداً من بينهم استطاع احتلال موقع مهم داخل الساحة الشعرية الفرنسية، وبات جزءاً من مشهدها الحديث. المصري جورج حنين واللبناني جورج شحادة حققا هذا الإنجاز في الخمسينيات، تبعهما في ذلك اللبناني صلاح ستيتيه ثم المغربي محمد خير الدين، لكن ثمة اسم خامس يمكن ضمه إلى هذه اللائحة القصيرة ولا يزال شبه مجهول في عالمنا العربي، بما في ذلك داخل حلقة المهتمين بالشعر، ونقصد اللبناني فؤاد العتر. جهل لا يعود إلى لعنة قدر، بل إلى الوضعية التي تبناها هذا الشاعر فور وصوله إلى فرنسا، وتتمثل في التخفف كلياً من أصوله العربية لمعانقة الشعر باعتباره الهوية الوحيدة الممكنة والوطن الذي لا تحده حدود.
وضمن هذه الوضعية أسس العتر في باريس مجلته الشعرية المرجعية، "الهاذية" (La Délirante)، عام 1967، التي تجاورت داخلها نصوص كتاب كبار من مختلف أنحاء المعمورة، مثل بورخيس وبرودسكي وسيوران وأوكتافيو باث وشحادة، مع رسوم لفنانين لا يقلون أهمية وتنوعاً، مثل بايكون وبالتوس وبارتيليمي وبوتيرو. مجلة ما لبثت أن تحولت إلى دار نشر تحمل الاسم نفسه وأصدر العتر فيها، إلى جانب الأعمال الشعرية الكبرى التي نقلها إلى الفرنسية (كيتس، شيلي، دانتي)، دواوينه الخاصة "مثل إخطبوط يمحوه حبره" (1977)، "حيث ينتهي الجسد" (1983)، "مقتلَع من الليل" (1987)، "بين فينوس ومارس" (1993)، "سحاب من أزل" (1995)، "نافخ الزجاج" (2003)، "صمت نزق" (2012).
حب العالم
خلف ظاهره البسيط، يخلف شعر العتر داخل قارئه صدى هرمسياً، لا لتعذر فهمه، بل لإسقاطه إيانا داخل السر الذي يهجس به ويشكل جوهره، "وحده المخفي مرئي/ الشفافية سري". شعر ينطلق دائماً من حب صاحبه للعالم ويتقاطر أبداً نحو نواته التي تضمن وحدته وإمكان العيش في أرجائه. ولكتابته يصقل الشاعر لغة مشدودة على نفسها، وأيضاً على الجسد الحاضر دوماً فيها، "الكلمات التي هي شفتيك حين تتكلمين". شعر لا ندري إن كان مصدر فتنته هو إيقاعات أصواته الساحرة أو صوره الشعرية المبتكَرة التي تعزز هذه الإيقاعات وقعها العميق علينا. شعر قصائده غالباً قصيرة، والحب كلي الحضور فيه.
في "حيث ينتهي الجسد"، نقرأ، "هكذا ننام منفتحَين/ مثل صفحتي كتاب/ على كم من الأوراق المسودة/ وعلى تلك الناصعة البياض/ التي لن تُكتَب أبداً/ إلا في الأحلام". لكن ماذا لو أن الشاعر قرر أخيراً كتابة هذه الصفحات البيضاء؟ نقول ذلك لأن القصة التي يسردها لنا في روايته الأولى، "في ذكرى فصل ماطر"، هي قصة ثلاثي عاشق، الراوي، شابة جميلة أقرب إلى أن تكون واحدة من حوريات الغاب، وفيلسوف. ثلاثي يتوجه في مطلع الرواية بالسيارة إلى منزل قديم في قلب غابة، حيث تنتظرنا "مشاهد بدائية من الحب والصداقة تستحضر عصراً ذهبياً من البراءة".
الرواية التي صدرت حديثاً عن دار "غاليمار" الباريسية هي عبارة عن قصيدة نثر طويلة ساحرة بقدر ما هي مبلبلة، كتبها العتر وهو من دون شك في حال انخطاف، وتمتد على طول 300 صفحة تقريباً. رواية يعود فيها إلى زمن معين من شبابه، وتحديداً إلى ذلك الخريف المبلل بالمطر والحب والضباب الذي أمضاه مع صديقين له في دار مزروعة بين عشب وأشجار ألفية.
للاستمتاع في قراءة هذا النص الفريد شكلاً ومضموناً، علينا منذ البداية تقبل استحالة سبر القصة المسرودة فيه وفك جميع أسرارها، وترك أنفسنا نسير خلف شخصياته التي تبدو وكأنها منبثقة من ذاكرة صاحبه. استحالة يعززها انزلاق الراوي باستمرار ومن دون تحذير، من حلم إلى ذكرى، من جسد عشيقته إلى جسده، من "أناه" إلى "أنا" صديقه الفيلسوف الذي سيرمي بنفسه في النهاية من قمة برج "مونبارناس" الباريسي.
هويات متحركة
بالتالي، الهويات متحركة والضمائر لا تدل دائماً على المتكلمين أو المخاطبين أنفسهم، وهو ما يحول النص إلى نوع من حلم يقظة تتسلط عليه حال استذكار محمومة. حلم ضبابي يتعذر ولوجه لمن لا قدرة له على الحلم، وندوخ داخل سرديته ذات الألف استعارة واستعارة لذهابها وإيابها الثابت بين طريق جبلية يقطعها الثلاثي العاشق بالسيارة بسرعة جنونية من أجل بلوغ تلك الدار في الغابة، والدار نفسها المشحونة بالضحك والمرح والمشاعر الملتبسة وكم من الذكريات، وغرفة دير حزينة تسكنها عاشقة متيمة بشاعر، وحاضر يتسلط عليه طيفا الفيلسوف نيكوس بولانتزاس وزوجته الروائية أني لوكليرك اللذين لا يذكرهما أبداً العتر في الرواية، لكنه ينشر علامات داخلها تقودنا إليهما. وهو ما يحول أيضاً النص إلى نشيد احتفاء بصديقيه المتواريين، وبذلك الفصل الماطر الذي أمضاه معهما في صباه وانبثقت خلاله دعوته الشعرية التي كرس لها مذاك حياته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولأن مشاعر الثلاثي العاشق تشهد بدورها تحولات ثابتة داخل الرواية، نتوقف بعد فترة عن متابعة هذا "الباليه" المثير للدوار، مفضلين الاستسلام بنشوة لموسيقى الكلمات، التي تقع في آذاننا مثل قطرات مطر أو ندى على أوراق الشجر. كلمات شعرية بامتياز تجعل من الرواية نصاً غنائياً يرتج بالأحاسيس والانفعالات والإيقاعات، كتاباً ملغزاً نقرأه بصوت عال كقصيدة، ولا نلجه بقدر ما نعيشه، لتشكيله دعوة إلى نزهة غسقية في غبش غابة "ترتفع جذوع أشجارها مثل كم من الأعمدة لدعم سماء ملبدة بالغيوم"، وتستضيف مغامرة أثيرية تقطع الأنفاس بفتنتها، ونتتبع فيها خطى عاشقين لا اسم لأي منهما، فقط هو وهي تائهان بين الأغصان، تحت المطر، يتحولان تدريجياً تحت أنظارنا إلى الإلهة ديانا والإله أبولون.
وبالنتيجة، ما ترويه "في ذكرى فصل ماطر" هو ولادة الحب، وأيضاً الطابع المحول والمؤسس لكل قصة حب، ولكل نزهة حقيقية داخل الطبيعة. وهذا ما يقودنا إلى قيمة أخرى تتحلى بها الرواية، ونقصد تلك الإثارة الناتجة من اختلاط حمية الطبيعة بحمية الأجساد، وبالتالي تلك الحلولية في شعر العتر التي تعيد إلى الطبيعة كل قواها الحيوية وتؤنسنها، كما في قوله التالي، "أثناء عبورنا كانت الأشجار تحسب عمرها بأوراقها، وكنا نسير على السنوات"، أو في وصفه لأرزة، "كانت ذكرياتها تتدفق على شكل دوائر متحدة المركز، مثل الماء عندما يحرك مشاعره شخص آخر غيره، إنساناً كان أو حيواناً مغامراً، أو ورقة، أو ريشة. وكان جذعها عرضة لارتجافات تدوم أحياناً ألف عام".
باختصار، كتاب يلغي العتر فيه الحدود الفاصلة بين شعر ورواية، ويجعل من هذين النوعين الأدبيين ركيزة واحدة لإشراقات مدهشة وفريدة.