تدعي الحكومة البريطانية أنها تقدم الدعم الذي يتدفق في وجهة واحدة فحسب، من المملكة المتحدة إلى دول فقيرة في أنحاء العالم، وذلك على الرغم من الخفض الشديد في ميزانية لندن للمساعدات الخارجية. وهاهو بوريس جونسون يشدد بفخر في قمة السبع على سخاء بريطانيا الذي يتجلى في تبرعها بما يفيض عن حاجتها من اللقاحات إلى دول تتداعى أنظمتها الصحية تحت وطأة الجائحة.
غير أن السر الكريه حول المساعدات البريطانية هو أن الإعانات غالباً ما تمضي في الحقيقة في الاتجاه الآخر، لأن بريطانيا تتعمد تأهيل عدد أقل مما تحتاج إليه من الأطباء والممرضين. وهي تعوض عن النقص الذي تواجهه من خلال استقطاب أعداد كبيرة من الكوادر الصحية المدربة جيداً من دول فقيرة تفتقر بشكل حاد إلى الخبرات الصحية.
فكينيا، على سبيل المثال لا الحصر، التي يبلغ عدد سكانها 20 مليون نسمة يعيشون في فقر مدقع، إذ لا يزيد متوسط دخل الفرد فيها على 1.25 دولار في اليوم، تتكبد خسارة قدرها 518 ألف دولار لقاء كل طبيب و339 ألف دولار عن كل ممرض يهاجر إلى المملكة المتحدة. وإذ تقدم بريطانيا لغانا مساعدات كبيرة لمكافحة الملاريا وتقليص عدد الوفيات بين الأطفال، فإنها تستعيد في المقابل ما يزيد على قيمة هذه المساعدات بـ91.69 مليون دولار (65 مليون جنيه استرليني) من خلال توظيف 293 طبيباً درس في غانا، علاوة على 53.60 دولار (38 مليون جنيه استرليني) أخرى توفرها من استخدام 1021 ممرضة وممرضاً من تلك البلاد أيضاً للعمل هنا.
وتقول راتشيل جينكنز، وهي أستاذة فخرية في علم الأوبئة وسياسة الصحة العقلية الدولية في جامعة كينغز كوليج لندن، وتخوض حملة في شأن هذه القضية منذ وقت طويل "لن يتغير الوضع أبداً حتى ندرب هنا المزيد من الأطباء".
والسبب الذي يجعل الحكومة مذنبة للغاية هو أن وزارة المالية تعرف حق المعرفة حجم الفوائد المادية التي ينطوي عليها الاكتفاء بتدريب عدد أقل بكثير مما ينبغي من الأطباء، ومن ثم الاستعانة بأطباء وممرضين ممن قد درسوا وتدربوا أصلاً على حساب بلد ما.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من الصعب احتساب الرقم الدقيق لنقص هذه الكوادر في بريطانيا، غير أن جيرمي هانت، وزير الصحة في 2017، قال للجنة الصحة التابعة لمجلس العموم، حينذاك، إن "من المثير للاهتمام أن هيئة التعليم الصحي في إنجلترا تقدر أننا ندرب نحو 6500 طبيب سنوياً، بينما نحتاج إلى 8000 منهم كي نحقق اكتفاءً ذاتياً في هذا المجال". اللافت أن هانت لم يُبدِ قلقه من الضرر الذي تلحقه بلاده بالدول الفقيرة حين تحرمها من خبرات طبية لا تملك منها سوى النزر اليسير، وإنما بدا متخوفاً من عدم توفر ما يكفي من هؤلاء الأطباء الأجانب لتوظيفهم لدينا.
وتعتبر البروفسورة جينكنز أن الرقم الذي أورده هانت غير دقيق، إذ إن بريطانيا تحتاج إلى عدد أكبر من هذه الكوادر، ولا سيما من الأطباء العامين، والنفسيين والمتخصصين في طب الطوارئ. وهناك العديد من البريطانيين الراغبين بالعمل في ميادين الطب والتمريض، غير أن الحكومة كانت دوماً غير مستعدة لإنفاق المال اللازم لتأهيلهم. وتشير جينكنز إلى أن "الكثير من الطلاب يشعرون بالإحباط لأنهم لا يستطيعون الالتحاق بكليات الطب". وتضيف، "ينبغي بهم أن يضاعفوا عدد المقاعد المتاحة لطلاب الطب".
ويكمن سبب هذا النقص في التكلفة العالية لتعليم الكوادر الصحية وتأهيلها، والتي وصلت في عام 2005 إلى 310.36 ألف دولار (220 ألف جنيه استرليني) بالنسبة للطبيب و176.34 ألف دولار (125 ألف جنيه استرليني) للممرض أو الممرضة. ولا شك أن هذه التكلفة قد ازدادت كثيراً منذ ذلك العام. إن إنشاء كليات الطب يكلف كثيراً كما أن دراسة الطب تستغرق فترة طويلة. وعلى الرغم من نهجها الذي يرقى إلى مستوى الصيد الجائر للكوادر من الخارج، فإن معدل عدد الأطباء في المملكة المتحدة بالنسبة للفرد الواحد هو واحد من أقلها في أوروبا، إذ إنه يأتي في المرتبة قبل الأخيرة من حيث الضآلة بين دول القارة، ويزيد فقط على المعدل في بولندا. وتظهر دراسة أجرتها "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" أن ثمة 2.8 طبيب لكل 1000 شخص في بريطانيا بالمقارنة مع 3.5 طبيب لعدد مماثل من الأشخاص في الدول الأعضاء في هذه المنظمة.
وعلى الرغم من كل الكلام الذي قيل على سبيل التباهي بإنجازات مبالغ فيها، عن تبرع بريطانيا بلقاحات لفقراء العالم، فهي في الواقع أشبه بطفيلي يتغذى على الأنظمة الصحية التي تعاني شحاً في التمويل في تلك البلدان الفقيرة. هكذا، فإن ثلثي الأطباء (289.900) المرخص لهم في عام 2021 بالعمل في بريطانيا قد تعلموا فيها، فيما درس ثلثهم الآخر في دول أجنبية حول العالم. والخاسرون في الحقيقة بصورة صارخة هم في الغالب دول فقيرة ومتوسطة الدخل في جنوب شرقي آسيا والشرق الأوسط، فيما يأتي العدد الأكبر من الأطباء الأجانب العاملين في المملكة المتحدة من الهند وباكستان ونيجيريا والسودان وجنوب أفريقيا وغانا.
ونظراً للحاجة الماسة للمزيد من الكوادر الطبية أثناء جائحة كوفيد-19، عمدت بريطانيا، إلى جانب دول غنية أخرى، إلى تخفيف القيود المفروضة على منح تأشيرة الدخول للكوادر الطبية، كما أطلقت "هيئة الصحة الوطنية" حملة توظيف واسعة النطاق تستهدف الأطباء والممرضين في الفيليبين، حيث يتم تدريبهم من جديد وتحضيرهم للهجرة. ونتيجة لذلك، تعاني الفيليبين حالياً من نقص شديد في عدد الكوادر الطبية، الأمر الذي أدى بالكثير من المستشفيات إلى إغلاق بعض أجنحتها.
وتشتمل طرق التخفيف من عمليات تجريد الدول الغنية للفقيرة من أطرها الصحية على إجراءات منها ثنيها عن استقطاب الأطباء والممرضين من الدول التي تعاني شحاً شديداً في هذه الخبرات، وفرض حظر تام على توظيف أي كوادر صحية من الدول الـ57 الأشد فقراً في العالم. وقد تعهدت بريطانيا باتباع هذه السبل منذ زمن طويل، التزاماً منها بقواعد الممارسة الصادرة عن "منظمة الصحة العالمية"، والتي تنص على وجوب تطوير الدول قوة صحية خاصة بها من خلال التخطيط بعيد المدى، والتعليم، والتدريب والحوافز المشجعة لهم للاستمرار في مزاولة أعمالهم، وذلك لسد حاجتها بصورة كاملة، بالتالي عدم قيامها بعمليات إغارة على النظم الصحية في بلدان أخرى وسلبها الخبرات التي تحتاج إليها.
وتقول البروفسورة جينكنز، إن "المملكة المتحدة قد فشلت فشلاً ذريعاً على هذه المستويات كلها"، فلم تتقيد بأي من التعهدات. وتلفت إلى ضرورة دفع بريطانيا تعويضات للدول التي تتكبد خسائر مادية كبيرة جراء حرمانها من الكوادر التي استثمرت مبالغ كبيرة في تدريسها وتدريبها على الرغم من فقرها، ومعاناتها تداعيات هجرتهم على نظامها الصحي الذي يفتقر إلى الفرق الطبية اللازمة في أوقات الأزمات.
قد تدعي "خدمة الصحة الوطنية" والهيئات الصحية للبلدان الغنية الأخرى أن الأطباء والممرضين الأجانب يلتحقون بها طوعاً، غير أن هذه الحجة تفتقر إلى الصدق، ذلك أن الدول الغنية تغري أبناء الدول الفقيرة للعمل فيها برواتب لائقة وظروف معيشة حديثة لا تستطيع حكوماتهم أن توفرها لهم.
وعليه، تزايدت عمليات اصطياد الأطباء والممرضين من ثمانينيات القرن الماضي، إلا أن الوافدين إلى الدول الغنية من الكوادر الطبية الذين كانوا أشبه بجدول ماء باتوا أقرب إلى السيل العارم منذ بداية الجائحة. وفي الأشهر الـ18 الأخيرة ارتفع عدد الأطباء الذين درسوا في دول أجنبية وصاروا يحملون الترخيص اللازم لممارسة المهنة في بريطانيا، من 66 ألفاً إلى 80 ألف طبيب.
وتعتبر هذه أخبار سيئة للجميع. لقد أصبح من الممل القول في سياق التعامل مع داء قادر على الانتقال من شخص إلى آخر مثل كوفيد-19، إن أحداً لا يمكنه أن يكون آمناً بشكل منفرد إذا لم يكن الجميع آمناً، لكن بدلاً من هذا الكلام الممجوج الذي سمعناه كثيراً، ما يجب أن يحصل هو ثني الدول الغنية عن احتكار إمدادات اللقاح وضمان وجود ما يكفي منه لدى الدول الفقيرة لتطعيم سكانها. وعلى الدول الغنية التي تسد حاجتها من الكوادر الصحية باصطياد الأطباء والممرضين الذين درسوا على حساب دول أخرى، أن تعي التهديد الذي ينطوي عليه سلوكها هذا بالنسبة لأمان الجميع. فهذا الدعم الخفي الذي تقدمه الدول الفقيرة للغنية يعني أن الأولى ستتحول إلى مرتع لتطور كوفيد-19 وإنتاج أنواع متحورة جديدة ستنطلق من أرضها الخصبة تلك فيما بعد لتهاجم بقية دول العالم، بما فيها الغنية.
في المحصلة، إن ما تربحه دولة مستوردة للخبرة الطبية مثل المملكة المتحدة يمثل خسارة تتكبدها دولة مصدرة وتؤدي إلى تدهور نظام الرعاية الصحية فيها الذي يعاني سلفاً نقصاً في الخبرات. مثلاً، حين هاجر طبيب نفسي من نيبال إلى بريطانيا قبل أعوام عدة، فإن ذلك البلد قد فقد ربع ثروته من الأطباء النفسيين الذين درس لهم.
يحظى خفض المساعدات الخارجية بالشعبية في أوساط الناخبين ممن يشعرون أن على الحكومة أن تعتني بمواطنيها أولاً فعمل الخير يجب أن يستفيد منه المقربون قبل الآخرين، ويشككون باحتمال جدواه بالنسبة لدول أجنبية، بيد أن تدريس مزيد من الأطباء وتأهيلهم، وعلى الرغم من تكلفته الباهظة، سينال بالتأكيد قدراً أكبر بكثير من التأييد، وسيوفر طريقة فعالة لدعم الدول الأشد فقراً بدلاً من الاستيلاء سراً على المهارات الضرورية لأنظمتها الصحية المرهقة فعلاً.
© The Independent