يتوافق الطيف السياسي في تونس، ما خلا حركة النهضة الإسلامية، على فشل المنظومة السياسية التي انبثقت من الدستور الذي أُقرّ في يناير (كانون الثاني) 2014، فدستور الجمهورية الثانية على الرغم من ثرائه في مجالات حقوقية إلا أنه وبحسب غالبية المهتمين بالشأن السياسي، أسهم بشكل مباشر في تفتيت السلطة في البلاد، فنتج منه صراع بين الرئاسات (رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان) الذي بدأ بالظهور في فترة حكم الرئيس الراحل باجي قائد السبسي وتعمّق في الفترة الحالية.
في السياق، شدّد الرئيس التونسي قيس سعيد خلال اجتماعه الثلاثاء، 15 يونيو (حزيران) الحالي مع رؤساء الحكومات السابقين، على ضرورة إدخال إصلاحات سياسية بعدما أثبتت التجربة أن النظام الحالي وطريقة الاقتراع المعتمدة أدّت إلى الانقسام وتعطّل السير العادي لعجلة الدولة، وذلك بحسب ما ورد في بيان مؤسسة رئاسة الجمهورية التونسية.
واتّفق خلال الاجتماع على أن الوضع في البلاد لا يمكن معالجته بالطرق التقليدية، بل يجب بلورة تصوّر جديد يقوم على إدخال إصلاحات سياسية جوهرية ومن بينها القانون الانتخابي إلى جانب بعض الأحكام الواردة في نص الدستور.
نحو السرعة القصوى
ويرى البعض أن مطالبة سعيد بتغيير النظام وتعديله، تهدف إلى افتكاك بعض الصلاحيات وتحويل النظام من برلماني إلى رئاسي، بينما يعتبر البعض الآخر أن الوقت غير مناسب للدخول في هذا الجدال الذي يستغرق وقتاً ويحتاج إلى جهد، في حين أن إنقاذ الاقتصاد أولى به. لكن هناك مَن يعتقد أن هذا النظام العقيم أصل الأزمة ويجب التوجه بسرعة قصوى نحو تعديله.
وقال الناشط السياسي التونسي طيب يوسفي في تدوينة، "تبيّن بالملموس وبالدليل القاطع مدى قصور وفشل المنظومة السياسية الهجينة في صيغتها الحالية، شبه برلمانية وشبه رئاسية مستوحاة من نظام الرئاسات الثلاث في العراق ومما يُعرف بدستور بريمر الذي فرضه الغزاة"، مضيفاً، "وبما أن المنظومة المنبثقة من دستور27 يناير 2014 ليست قرآناً مُنزلاً أو قدراً محتوماً، فقد أصبح من الضروري تغيير هذه المنظومة التي لم تنتج سوى الشلل والأزمات والخيبات التي تنذر بتفكيك الدولة وفتح الباب أمام مزيد من التشرذم والفوضى".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، قال الناطق الرسمي لـ "حركة النهضة" فتحي العيادي إن موقف الحركة من النظام السياسي واضح وهي تتبنّى النظام البرلماني، مستدركاً، "ولكن مَن يطرح فكرة تغيير النظام يجب أن يمدنا بخريطة طريق واضحة وكم نحتاج من وقت وكم سننفق من جهد على حساب الوضع الاجتماعي والاقتصادي في البلاد"، وأضاف أن "النهضة" تفضل التركيز على مسائل ذات أولوية كوضعية الحكومة ومسألة المحكمة الدستورية والإصلاحات الاقتصادية الكبرى، ثم بعد ذلك يمكن في وقت لاحق مناقشة مسألة النظام السياسي.
وانتقد سياسيون ومراقبون موقف "النهضة" المتشبث بالنظام الحالي، متّهمين إياها بالاستفادة منه، بخاصة أن النظام الانتخابي الحالي مكّنها من السيطرة على الانتخابات التشريعية، بالتالي البرلمان.
نظام هجين
في سياق متصل، صرّح أستاذ القانون الدستوري التونسي عبد الرزاق المختار أن "اختيارنا النظام السياسي كان مبنيّاً على هواجس ومخاوف ومطامع"، مشيراً إلى "الهواجس المتمثلة في مخاوف الطبقة السياسية في البلاد من العودة إلى النظام الرئاسي والتجربة الديكتاتورية السابقة التي عشناها قبل الثورة".
أما المطامع بحسب المختار، فتظهر في "السيطرة على البرلمان والسلطة التنفيذية، فمَن لهم أحزاب يطمعون في السيطرة على البرلمان ومَن لديهم رئيس من دون أحزاب يدعمون الرئيس، وبين هذا وذاك، اختلّت الموازين".
من جانب آخر، اعتبر أستاذ القانون الدستوري أن "النظام السياسي ليس القاعدة القانونية والدستورية فحسب، بل هو مؤسسات وعقل سياسي ديمقراطي"، وأوضح، "في تونس، أسسنا لنظام برلماني من دون تقاليد برلمانية ومن دون عقل سياسي برلماني، ونحن في هذه الوضعية أمام زمنين غير متناسقين، زمن سياسي وزمن دستوري. وأدى هذا الخلل إلى نوع من العطالة في النظام السياسي"، أطلق عليها تسمية "سلوك الفاعل السياسي"، وسأل المختار عن "رغبة هذا الفاعل السياسي بتفعيل النظام البرلماني"، موضحاً أن "وظيفة النظام السياسي وفاعليته تتغيران بحسب سلوك الفاعل السياسي في تونس ومصالحه".
وخلص أستاذ القانون الدستوري إلى أن "النظام السياسي التونسي تغلب عليه النزعة البرلمانية وهو خلطة بين الرئاسي والبرلماني ما جعله نظاماً هجيناً".
فراغات وفخاخ
من جانب آخر، قال الصحافي التونسي مراد علالة إن "دستور 2014 لم يشذّ عن النصوص القانونية الأخرى"، موضحاً أنه "كان انعكاساً لموازين القوى حينها، التي كانت مختلّة لصالح غير الديمقراطيين، علاوة على أن هذا النص افتقد إلى روح وفلسفة واضحتين، وغلبت عليه آلية القص واللصق إن جاز القول، فجاء في المحصّلة دستوراً مليئاً بالفراغات والفخاخ التي فتحت الباب أمام الاجتهادات الخاطئة والتأويلات الانتهازية والتكييف المصلحي الغنائمي، منها تسويق بدعة الرئاسات الثلاث ومقولة: أنا الدستور في غياب محكمته".
وأعرب علالة عن اعتقاده بأن "غياب الثقافة الديمقراطية غذّى تفكيك السلطة، وأوجد كل طرف قراءته الخاصة للدستور، فاتخذه البعض ذريعة للتغوّل وربط مصير التجربة الديمقراطية في البلاد بوجوده هو في السلطة، بينما وظّفه البعض الآخر فقط لاختزال الشرعية والمشروعية في ذاته، وفي الوقت نفسه استثمره من دون تردد في تكرار اللعنة على هذا الدستور الذي هرم وحان وقت تعديله أو بالأحرى تغيير النظام السياسي للعودة إلى النظام الرئاسي والرئاسوي إن لزم الأمر".