أثار توقيت سيطرة السلطات الأميركية على أكثر من 30 موقعاً إلكترونياً إعلامياً تابعة لإيران، كثيراً من التخمينات والتوقعات، فقد أعقبت الخطوة الأميركية تصريحات متشددة من الرئيس المنتخب إبراهيم رئيسي، في خضم تباينات واضحة بين الولايات المتحدة وإيران حول شروط العودة إلى الاتفاق النووي الموقع عام 2015، في وقت يتزايد منسوب عدم الثقة بين الجانبين وتتغير الأمور على الأرض، ما ربما يجعل من استعادة الوضع السابق أمراً مستحيلاً. فهل يمكن إبرام اتفاق خلال الأسابيع الستة المقبلة أم أنه سيتعذر تقديم تنازلات مقبولة، بالتالي تفشل كل الجهود السابقة؟
مغزى التوقيت
على الرغم من تأكيد البيت الأبيض أن سيطرة السلطات الأميركية على عشرات المواقع الإلكترونية التابعة لإيران، أمر منفصل تماماً عن مفاوضات فيينا الهادفة إلى إحياء الاتفاق النووي، إلا أن توقيت الإعلان عن هذه الخطوة يحمل مغزىً واضحاً بحسب كثير من المراقبين في واشنطن، إذ جاء بعد يوم واحد من تصريحات بدت متشددة أطلقها رئيسي مفادها بأنه لن يلتقي الرئيس الأميركي جو بايدن، ويرفض طرح مسألتَي الصواريخ الباليستية الإيرانية والميليشيات التابعة لطهران، على التفاوض.
وبينما لم يستغرب البعض مثل هذه التصريحات على اعتبار أنها تشكّل امتداداً لبرنامج حملته الانتخابية، فإن اختيار المرشد الأعلى علي خامنئي شخصيةً مثل إبراهيم رئيسي للرئاسة وتمهيد الساحة لفوزه باستبعاد أهم المنافسين، بعث برسالة واضحة للولايات المتحدة بأن خامنئي يريد لإيران أن تواصل نهجها المتشدد في المستقبل، ليس فقط خلال فترة عهد رئيسي وإنما لأعوام وربما لعقود أخرى مقبلة. ذلك أن اختيار رئيسي الذي يتهمه الغرب بارتكاب انتهاكات كثيرة لحقوق الإنسان وأُدرج اسمه ضمن لوائح العقوبات الأميركية والأوروبية، يستهدف بالأساس خلافة المرشد الأعلى الذي تجاوز الـ82 من العمر ويعاني من سرطان البروستاتا.
إشارات لطهران
ويعني إخلاء الساحة السياسية في إيران على المستوى القيادي من أي قيادات شبه إصلاحية، أن تحالف المتشددين الذي يسيطر بالفعل على مقاليد الحكم سيزداد قوة خلال الأعوام المقبلة، من دون أي أمل في تغيير نهج طهران المثير للقلق وعدم تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط.
وإذا كان بعض المواقع الإلكترونية الإيرانية التي تعرّضت للهجوم الأميركي، عاد إلى العمل ضمن نطاق أو مجال مختلف (domain)، فإن رسالة واشنطن وصلت إلى الإيرانيين، ومفادها بأن إدارة بايدن التي خفّفت من بعض العقوبات ضد شخصيات كانت منخرطة في تهريب النفط الإيراني كبادرة حسن نيّة، قادرة أيضاً على السير في اتجاه معاكس ومستعدة لفرض مزيد من القيود واتخاذ خطوات أخرى مثلما فعلت الإدارة السابقة، إذا لم تلتقط طهران إشارات حسن النوايا وتقدم التنازلات الواجبة للمضي قدماً في إحياء الاتفاق النووي الذي انسحب منه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب عام 2018، وانتهكته إيران بزيادة تخصيب اليورانيوم بشكل متسارع خلال الأعوام التالية.
مفارقة جدلية
وربما تكون المفارقة الأكثر إثارة للجدل في مفاوضات الاتفاق النووي التي استمرت في فيينا لأشهر عدة، هي أن كلاً من طهران وواشنطن تريدان بشدة العودة إلى الاتفاق على الرغم من أنهما قد لا تكونان قادرتَين على ذلك، في ظل عدم الثقة المتزايدة بين الطرفين التي تفاقمت في أحد جوانبها بسبب انتخابات الأسبوع الماضي والتي خطط خامنئي كي تحمل أكثر المقربين منه إلى مقعد الرئاسة بدلاً من الرئيس المنتهية ولايته حسن روحاني بدءًا من شهر أغسطس (آب) المقبل.
وعلى الرغم من أن رئيسي يؤيد العودة إلى "خطة العمل الشاملة المشتركة" (الاسم الرسمي للاتفاق النووي الإيراني)، إلا أنه والنظام في طهران يصرّان على مطالب مستحيلة، إذ تريد إيران من بايدن ضمان عدم انسحاب أي إدارة أميركية مقبلة من الاتفاق النووي كما فعل سلفه ترمب، وهو أمر خارج إطار سلطته أو سلطة أي رئيس أميركي آخر.
واقع مختلف
سببٌ آخر لتجدد الشكوك بين واشنطن وطهران، هو أن الأمور تغيرت كثيراً على الأرض بالنسبة إلى الطرفين، فبايدن غير راغب بالتراجع عن كل العقوبات التي فرضها ترمب، بينما يواصل النظام الإيراني تطوير تقنيات أجهزة الطرد المركزي ليصبح لديه جيل جديد أسرع بكثير من الجيل الحالي بما يقلّص المدة الزمنية اللازمة لتخصيب اليورانيوم بمعدلات تسمح بإنتاج قنبلة نووية، وهو ما يجعل الاتفاق النووي محل تساؤل حول جدواه.
ومع إدراك الجانبين بأن استعادة الوضع السابق ليست أمراً ممكناً تماماً، لم يعُد متوقعاً أن تحصل إيران على القدر ذاته من تخفيف العقوبات الذي حصلت عليه عامي 2015 و2016، كما أنه من غير المرجح أن تكون الولايات المتحدة قادرة على إجبار طهران على التراجع عن عمليات التطوير النووية التي كثفتها منذ انسحاب ترمب من الاتفاق عام 2018.
حد أدنى للاتفاق
ومع ذلك، يعتقد مقربون من روبرت مالي، كبير المفاوضين الأميركيين في فيينا، أنه مع استمرار رغبة الطرفين وكذلك الدول الأوروبية التي توسطت لإجراء المحادثات باستعادة شكل من أشكال الاتفاقية، فإن هناك احتمالاً للاتفاق على حد أدنى يصل إلى 70 في المئة، إذا عادت الأطراف إلى العاصمة النمساوية الأسبوع المقبل بالمرونة المطلوبة في الجولة السابعة والأخيرة من المفاوضات، ونظرت بعقول منفتحة في عدد من الحلول الوسط المطروحة في المسائل التقنية.
وإذا سارت الأمور بشكل جيد في الجولة الأخيرة، فمن الممكن الإعلان عن التوصل إلى اتفاق خلال الأسابيع الستة المقبلة أي قبل نهاية شهر يوليو (تموز) المقبل، وهو موعد يناسب الإيرانيين وبشكل خاص المرشد خامنئي الذي يريد توقيع اتفاق قبل مغادرة الرئيس الحالي روحاني منصبه، كي يكون هذا الأخير هو المسؤول عن الضرر، في حال حدث أي رد فعل سلبي الآن أو مستقبلاً داخل إيران جراء اتفاق التسوية الجديد، لا رئيسي، الوريث المعيّن لخامنئي على الأرجح كمرشد أعلى في الأعوام المقبلة.
بعد 6 أسابيع
أما إذا لم يتمكّن الطرفان من الاتفاق قبل حلول شهر أغسطس المقبل، فربما يؤدي ذلك إلى إنهاء كل الآمال لدى الأميركيين، الذين يعتقدون أن إبراهيم رئيسي سيستغرق كثيراً من الوقت قبل استئناف المحادثات، لأنه على الرغم من إعلان تأييده لها، إلا أنه يُرجَّح أن يكون أكثر تشدداً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا تأخر رئيسي في استئناف المفاوضات، ربما يصعب تقييد إيران بالاتفاقية، مع تشغيلها أحدث جيل من أجهزة الطرد المركزي المعروف باسم "آي آر 9"، الذي يُعتقد أنه أسرع 50 مرة من الجيل الأول، وهذا من شأنه أن يسمح لطهران بتخصيب مزيد من اليورانيوم بدرجة نقاء أكبر وفي وقت أقل، ومن ثم تقصير الطريق إلى صنع قنبلة نووية، بينما في الوقت ذاته ستتزايد الضغوط على إدارة بايدن من أعضاء الكونغرس لتشديد شروط اتفاقية عام 2015، وأن تشمل برنامج إيران الصاروخي ودعمها للميليشيات المسلحة في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
خلافات أخرى
علاوةً على ذلك، تتمثّل نقطة الخلاف الضخمة الأخرى في إصرار إيران على إزالة كل العقوبات التي فرضها ترمب والتي تزيد على 700 عقوبة خارج الاتفاقية النووية والتي صُممت لإضعاف الاقتصاد الوطني ومحاصرة القيادات السياسية والعسكرية، بما فيها شخصيات رئيسة في مكتب المرشد وعلي خامنئي نفسه.
وعلى الرغم من عدم اتضاح الرؤية بعد، إلا أن فريق بايدن ألمح إلى عدم إمكانية إزالة كل هذه العقوبات، بما في ذلك، تلك المفروضة على رئيسي بسبب مشاركته في إعدام مئات المعارضين في أواخر الثمانينيات ومساهمته في شن حملة قمع عنيفة أخرى عام 2009. ومع ذلك، لا يستبعد مقربون من الوفد الأميركي إزالة بعض العقوبات المفروضة على الخارجية الإيرانية، مثل رفع اسم الوزير محمد جواد ظريف.
وتتماشى سياسة رفع القيود مع قرار إدارة بايدن في وقت سابق من شهر يونيو (حزيران) الحالي، بشكل استباقي إلغاء العقوبات المفروضة على بعض الإيرانيين المتورطين في تجارة النفط من خلال شبكة من الشركات الوهمية والوسطاء، والتي كانت بادرة حسن نيّة، على الرغم من أنها ترافقت مع فرض واشنطن عقوبات إضافية على إيرانيين متهمين بتقديم دعم مالي للمتمردين الحوثيين المدعومين من طهران في اليمن.
خامنئي مستعد
لا شك في أن ضغوط العقوبات على الاقتصاد الإيراني تجعل خامنئي، الذي سيتخذ أي قرار نهائي، مستعداً للتوصل إلى حل وسط عبر عقد صفقة جديدة من أجل الإفراج عن عشرات مليارات الدولارات من الأصول الإيرانية المجمدة تحت طائلة العقوبات، إضافة إلى مئات الملايين التي ستتدفق على الخزانة الإيرانية من بيع النفط المحلي في السوق العالمية مرة أخرى.
وعلى الرغم من كل العقبات، يقترح خبراء أميركيون وإيرانيون، أن العودة إلى شكل من أشكال اتفاق عام 2015، أمر مرغوب به بشكل أكبر من استمرار حالة الجمود الراهنة، لأنه لا يمكن للاقتصاد الإيراني أن يستمر في تحمّل العقوبات الأميركية من دون توقع مزيد من الاضطرابات السياسية. كما تعلم واشنطن أن أي نوع من الاتفاق سيمثّل تقييداً نووياً لطهران، ولهذا تبدو البدائل الأخرى وكأنها ليست على المستوى ذاته من الجاذبية.