عاد الشيوعيون الروس إلى سابق عهدهم من ملاحقة الرأسمالية التي تباينت أوصافهم لها، بقدر تباين مراحل تطور الدولة الروسية، وما نجم عن ذلك من تغيرات مجتمعية طرأت على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية. وقد كشف عن ذلك ما أسفر عنه من نتائج المؤتمر الثامن عشر الذي عقده الحزب الشيوعي الروسي في ضواحي موسكو خلال الأيام القليلة الماضية، استعداداً لخوض الانتخابات البرلمانية المرتقبة في سبتمبر (أيلول) المقبل.
وكان المؤتمر الحزبي الأخير بدأ أعماله وسط سلسلة من الإشاعات والأقاويل التي استهدفت التشكيك في مشروعية واحتمالات إعادة انتخاب غينادي زيوغانوف رئيساً للحزب، إلى جانب ظهور بعض الشخصيات اليسارية التي حاولت الانضمام قسراً للمشاركة في أعمال المؤتمر، وهي المعروفة بانتمائها إلى أحزاب أخرى.
وحدة صف القوى الشيوعية
وفي مثل هذه الأجواء، ومن ذات المنطلقات التي سبق وحددها الحزب الشيوعي الروسي منذ تأسيسه في عام 1993 حرص غينادي زيوغانوف الأمين العام للحزب على تأكيد ضرورة وحدة الصف بين القوى الشيوعية وأهمية التمسك بالثوابت والمبادئ التي تسمح للحزب الشيوعي الروسي في مثل الظروف الراهنة بالتصدي لاستمرار السياسات الرأسمالية، ووضع حد لتوجهات أثرياء روسيا الجدد والأوليجاركيا التي كانت نجحت في خصخصة ما يقدر بـ90 في المئة من مقدرات وثروات الدولة الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق.
ولعله يكون من المناسب وقبل استعراض ما أسفر عنه مؤتمر الحزب الشيوعي الروسي من تغيرات في كوادره القيادية، وتطورات في علاقاته مع رئيس الدولة فلاديمير بوتين، وحقيقة التزامه بمواقع المعارضة التي لم يتخل عنها منذ تأسيسه في عام 1993، العودة إلى ذلك التاريخ وما سبقه من أحداث جاءت تالية لانهيار الاتحاد السوفياتي وحظر نشاط الحزب الأم "الحزب الشيوعي السوفياتي" الذي طالما وقف على رأس الدولة لما يزيد على السبعين عاماً.
ويذكر المراقبون ما تعرض له الحزب الشيوعي السوفياتي من كوارث ومآس منذ تزعم أمينه العام السابق ميخائيل غورباتشوف في أواخر ثمانينيات القرن الماضي حملة تنحيته عن موقعه القيادي في الدولة بإلغاء المادة السادسة من الدستور السوفياتي السابق التي كانت تكفل للحزب الشيوعي الانفراد بالرأي والحكم منذ قيام ثورة أكتوبر 1917.
وما أن تحقق لغورباتشوف ورفاقه من أنصار البيريسترويكا والجلاسنوست من تغيير أسفر بالتبعية عن انهيار الحزب والدولة مع نهاية 1991، حتى جاء بوريس الرئيس الجديد لروسيا الاتحادية ليعلن قراره بحظر نشاط الحزب الشيوعي في روسيا الاتحادية، وهو ما لم يستسلم له الشيوعيون الروس. فقد نجح هؤلاء في حملتهم التي أسفرت عن إصدار المحكمة الدستورية قرارها حول عدم مشروعية قرارات يلتسين، وهو القرار الذي استندوا إليه في إعلانهم عن قيام حزبهم الجديد الذي يعتبر ضمناً الوريث الشرعي للحزب السوفياتي، وإن أدخلوا على شعاره وبرنامجه بعضاً من التغييرات، منها إضافة الكتاب إلى المنجل والمطرقة في الزاوية العليا لرايتهم الحمراء، إضافة إلى بعض الرتوش البسيطة التي تستهدف مواءمة ما شهده المجتمع الروسي من تغييرات اجتماعية واقتصادية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق.
وقد جرت كل هذه الأحداث في توقيت بالغ الحرج والأهمية شهد ذروة المواجهة بين الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين ورفاقه من الطغمة الأوليجاركية اليهودية في معظمها، ومجلس السوفيات الأعلى لروسيا الاتحادية (البرلمان) التي انتهت بإصدار يلتسين مرسوم حل البرلمان، وما تبع ذلك من تصاعد المواجهة وقصف مبنى البرلمان بالدبابات في الرابع من أكتوبر (تشرين الأول) 1993 واعتقال قياداته.
ورغم حملة الاعتقالات التي طالت كثيرين من الشيوعيين واليساريين وممثلي المعارضة بمختلف أطيافها، فإن ذلك لم يحل دون تمسك الحزب الشيوعي الروسي بما أعلنه من سياسات يرفض فيها التوجهات اليمينية التي انتهجتها حكومة يلتسين بدعم واضح ومباركة الأوساط السياسية والمالية الغربية.
وقد أسهم تدهور الأحوال المعيشية وتردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد وتحول حكومة يلتسين والقائم بأعمال رئيس حكومته يجور جايدار صوب اقتصاد السوق دون مراعاة لخصائص الداخل الروسي، إلى جانب اندلاع الحركات الانفصالية واشتعال الحرب في الشيشان في القوقاز، في انحسار شعبية يلتسين، وتصاعد شعبية الحزب الشيوعي وفوزه بالأغلبية في أول انتخابات برلمانية تجرى في نهاية عام 1995، وهي الانتخابات التي أسهمت ضمناً في تزايد شعبية زعيم الحزب غينادي زيوغانوف.
ولم يمض من الزمن سوى بضعة أشهر حتى عاد زيوغانوف إلى تصدر الساحة السياسية ليخوض الانتخابات الرئاسية منافساً ليلتسين. ورغم كل الدعم الداخلي والخارجي لبوريس يلتسين الذي قيل أن عناصر من المخابرات المركزية الأميركية أشرفت على حملته الانتخابية من داخل فندق بريزدنت التابع للكرملين، وما اعترف به الرئيس بوتين في معرض تعداده لمثالب "مهندس الخصخصة" والعدو الرئيس للشيوعية والنظام السوفياتي السابق أناتولي تشوبايس، فقد اضطر يلتسين إلى خوض جولة انتخابات الإعادة، منافساً لزيوغانوف الذي "أذعن" لاحقاً للاعتراف بهزيمته في جولة الإعادة، لأسباب يظل الغموض يكتنفها حتى اليوم، رغم أن المؤشرات والأرقام كانت تقول بغير ذلك.
ولعل المصالحة غير المعلنة بين الكرملين وممثليه من كبار رموز اليمين والأوليجاركيا، والحزب الشيوعي ومن انتمى إليه من فصائل القوى اليسارية، هو ما سمح للحزب الشيوعي بانتخاب ممثله غينادي سيليزنيوف رئيساً لمجلس الدوما وسط أجواء اتسمت بما يمكن وصفها بـ"المهادنة السياسية" المؤقتة.
تغير موازين القوى
ومع تغير السلطة في الكرملين وبزوغ نجم الرئيس الجديد فلاديمير بوتين في مطلع القرن الحادي والعشرين، وما تلى ذلك من تغيرات طرأت على مختلف قطاعات الدولة، بما كان يحقق ضمناً كثيراً من أطروحات وشعارات الحزب الشيوعي الروسي، تراجعت مواقع الحزب ليفقد عدداً من أهم مواقعه في مختلف أركان الدولة الروسية. فما كان يطالب به من الحد من سلطة الأوليجاركيا وعبثية رموزها الإعلامية والسياسية وتسلط نفوذ أثرياء روسيا الجدد، إلى جانب الحد من نشاط الجريمة المنظمة، جاء بوتين ليحققه خلال سنوات معدودات خلال ولايته الأولى، ما أسهم في فوز الرئيس الحالي بنسبة أصوات تجاوزت السبعين في المئة، متقدماً بنسبة كبيرة عن منافس الحزب الشيوعي نيكولاي خاريتونوف، في ثاني انتخابات رئاسية جرت في عام 2004.
ويذكر المراقبون أن ما شهدته تلك الفترة من أحداث أسهمت ضمناً في تغير موازين القوى، وما ارتبط بذلك من خلافات وانشقاقات داخل الحزب، بلغت حد جنوح رئيس مجلس الدوما سيليزنيوف المنتخب رئيساً للمجلس عن الحزب الشيوعي الروسي، إلى أن يخطب ود الحزب الحاكم، طلباً للدعم والمؤازرة ضد هجمات رفاق الأمس ممن انقلبوا عليه قبل انتهاء مدته القانونية خلال الدورة البرلمانية 2000 - 2004.
على أن ذلك لم يحل دون استمرار الحزب الشيوعي ممثلاً للأغلبية المعارضة في مجلس الدوما، مع الحزب الليبرالي الديمقراطي (المعروف تحت اسم حزب جيرينوفسكي)، وعدد آخر لا وزن انتخابياً له من ممثلي اليمين الذين سرعان ما انسحبوا من الساحة البرلمانية، بسبب عدم توفيقهم في الحصول على الحد الأدنى المناسب للفوز بعضوية مجلس الدوما.
لكن، الحزب الشيوعي الذي طالما عُرف بتشدده العقائدي ومواقفه المتصلبة تجاه كثير من قضايا الطبقة العاملة، عاد ليجنح نحو المواءمات السياسية مع الحزب الحاكم الذي يمكن نسبته إلى قوى يسار الوسط، وهو ما أسهم إلى حد كبير في توفير اللغة المشتركة التي تكفل حماية الشيوعيين الروس وحزبهم "المعارض" من البطش المباشر من جانب السلطات الرسمية. وهو موقف سرعان ما تحولت إليه أحزاب المعارضة التي بقيت تطفو على سطح الحياة السياسية، دونما تأثير قوي على مسارات التطور العام للبلاد.
وفيما وجدنا في مثل هذه المواقف ما يمكن أن يستند إليه وصف الحزب الشيوعي وأمثاله من قوى المعارضة البرلمانية، بـ"المعارضة المستأنسة"، وجدت السلطة الرسمية وممثلها الحزب الحاكم لهذا الوضع تسمية أخرى لا تزال تستخدمها حتى اليوم، وهي "المعارضة الممنهجة"، في إشارة صريحة إلى وضعها الرسمي داخل صفوف النظام السياسي، على النقيض من المعارضة التي لم تحظ بفرصة الفوز بعضوية البرلمان، وتصفها السلطة الرسمية بأنها "المعارضة غير الممنهجة"، التي تضم إلى جانب الأحزاب الشرعية، القوى والحركات السياسية غير المنظمة، ومنها منظمات المجتمع المدني التي ينتمي إليها المعارض الروسي المعروف دولياً ألكسي نافالني.
التدخلات المدمرة
أما عن تغير التوجهات والمبادئ التي طالما استندت إليها الأحزاب الشيوعية في نشاطها السياسي والمجتمعي، فلم نجد بعد ما يمكن أن يتسم به برنامج الحزب الذي أقره المؤتمر الثامن عشر للحزب، من تغيرات جذرية عن البرنامج السابق، وإن طال بعضها في معظمه الشكليات دون الجوهر. فالحزب الشيوعي الروسي يظل عند موقفه من ضرورة سيادة اقتصاد الدولة والتخطيط المركزي والملكية العامة. وذلك ما أعاد زيوجانوف تأكيده في المؤتمر الثامن عشر للحزب الذي عقده خلال الأيام القليلة الماضية.
وفي هذا الشأن قال زيوغانوف "إن الحزب الشيوعي الروسي لن يسمح بتدخل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وغيرها من الهياكل الدولية، في حياة روسيا"، فيما وصف توصيات هذه الكيانات الدولية بـ"التدخلات المدمرة"، مؤكداً ضرورة العمل من أجل "تأميم صندوق الأراضي والقطاعات الاستراتيجية للاقتصاد والبنوك ذات الأهمية النظامية".
وبهذا الصدد أعاد زيوغانوف وبعد الإعلان عن انتخابه لفترة رئاسة حزبية جديدة، أن الحزب الشيوعي الروسي يجدد العهد، ومعه ما يراه ضرورياً لتطور روسيا في الفترة المقبلة، على غير ما يقترحه الكرملين ومعه الحزب الحاكم "حزب الوحدة الروسية" الذي كان عقد مؤتمره السنوي قبيل انعقاد مؤتمر الحزب الشيوعي الروسي. وقال زيوغانوف، إن الحزب الشيوعي الروسي يقترح "إلغاء ضريبة القيمة المضافة تدريجياً، وحظر تسجيل الشركات والمؤسسات الروسية في الخارج، وتقييد مشاركة رأس المال الأجنبي في الشركات المساهمة الروسية".
وأضاف، "أن الحزب الشيوعي سوف يواصل العمل من أجل إلغاء عدد من الضرائب، منها ضريبة القيمة المضافة التي قال إنها غير موجودة في الولايات المتحدة، ولم تكن موجودة في الاتحاد السوفياتي"، مؤكداً أن العديد من الضرائب "تفرض عبئاً لا يطاق على المواطنين، وتعيق تنمية الأعمال التجارية الصغيرة".
ولم يكن زيوغانوف ليغفل الحديث عن "قضية نافالني" التي تناولها من مواقع أكثر يسارية من مواقف الكرملين. وقال زعيم الشيوعيين الروس في تقريره الذي ألقاه في المؤتمر الحزبي، إن "مهمة نافالني وأتباعه هي إثارة الاضطرابات وإقامة حكومة مؤقتة جديدة في البلاد، وهو ما لا بد أن يسفر عن تمزيق وحدة روسيا من جانب من وصفهم بـ(دعاة العولمة)".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مغازلة نافالني
ومن ذات المنطلقات حذر أناتولي لوكوت رئيس بلدية نوفوسيبيرسك والمشارك في المؤتمر الحزبي مما وصفه بـ"مغازلة نافالني"، الذي وصف مقر مؤسسته "صندوق مكافحة الفساد" في نوفوسيبيرسك بأنه "قد يكون القوة الرئيسة المناهضة للشيوعية في المنطقة".
وفي هذا الصدد عاد زيوغانوف ليحذر من مغبة ما وصفه بلعب السلطات الروسية على أوتار مشابهة لما يلعب عليها "أيديولوجيو الثورة البرتقالية" من خلال ما ينتهجونه من سياسات خاصة. وشن حملة شديدة اللهجة ضد سياسات الحكومة التي تستهدف الحيلولة دون تحركات اليسار من أجل التغيير. وقال "إن الحكومة الروسية تعمل من أجل تعميق الخلافات والحيلولة دون تغيير المسارات من خلال الانتخابات، وترهيب المواطنين واللجوء إلى العنف".
كما أشار إلى ما تقوم به السلطة الحاكمة ضد عدد من أعضاء حزبه، ومنهم فلاديمير بيسونوف عضو مجلس الدوما السابق، وبافيل غرودينين الذي خاض الانتخابات الرئاسية الماضية في عام 2018، منافساً للرئيس بوتين، وقال إنهم يتعرضون الآن للاضطهاد لأسباب سياسية، على حد قوله.
وتلك اتهامات تستهدف ضمن ما تستهدف، تبرير ما قد يلحق بالحزب الشيوعي الروسي من إخفاقات في الانتخابات المقبلة، نظراً إلى أنه لا يزال بعيداً عن مواقع الأمس بوصفه "حائط الصد الأول" دفاعاً عن مصالح الطبقة العاملة.
ورغماً عن بقاء كثيرين من مؤسسي الحزب الشيوعي الروسي في مطلع تسعينيات القرن الماضي ضمن الصفوف القيادية للحزب في تشكيلته الراهن، فإن ما تردد من أرقام حول أن الحزب يجدد قواه وكوادره التي تبلغ فيها أعداد الشباب من عمر العشرين وحتى الأربعين نسبة 25 في المئة من أعضائه، يمكن أن تكون رداً على اتهامات خصومه، ومن يصفونه بأنه "حزب الماضي" و"نادي العواجيز".
على أن ذلك لا يمكن أن يكون كافياً لمواجهة متطلبات الساحة الانتخابية التي يظل الحزب الحاكم يسيطر على معظم آلياتها بحكم زعامة الرئيس بوتين، وما يملكه الحزب من مقدرات إدارية ومالية اعتماداً على صلاته بكل آليات السلطة التنفيذية. وتلك مشكلة لا تقتصر على الحزب الشيوعي وحده، وتنسحب على بقية الأحزاب والحركات والتنظيمات السياسية المعارضة، "ممنهجة" كانت أو "غير ممنهجة"، على حد تعبير الرئيس فلاديمير بوتين.