ملخص
يرجع مراقبون التعامل الروسي مع الجزائر إلى تجاهل الأخيرة العقوبات المفروضة ضد موسكو وانفرادها بتعويض الحاجات الأوروبية من الغاز وبعض الحبوب.
أفرزت التحولات الدولية الحاصلة وضعاً جديداً على الجزائر كغيرها من الدول، ففي حين احتلت الأمور الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية المشهد تبقى مسألة العلاقات والتموقع شاهدة على "عراك خفي" يخرج للعلن من حين لآخر ثم يعود إلى مبدأ "الضرب تحت الحزام في صمت". ولعل ما يحدث بين الجزائر وروسيا "ابتعاداً" ومع الهند وآسيا "اقتراباً" دليل على تغيير اضطراري في التوجهات المستقبلية.
في الآونة الأخيرة، حملت عدة أحداث روسية اتجاه الجزائر وأخرى معاكسة، إشارات إلى "انقلاب" في العلاقات الثنائية التي وصفت منذ عام 1954 حين اندلعت ثورة التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي بـ"المتينة والتاريخية"، فعلى سبيل المثال انتشرت قوات "فاغنر" الروسية في منطقة الساحل وشاركت في عمليات عسكرية مع الجيوش الحكومية قرب الحدود الجزائرية، ثم التدخل الروسي السلبي في قضية الملاكمة الجزائرية الأولمبية إيمان خليف وعدم دعم البلد الشمال أفريقي في الانضمام إلى "بريكس".
يرجع مراقبون التعامل الروسي مع الجزائر إلى تجاهل الأخيرة للعقوبات المفروضة ضد موسكو وانفرادها بتعويض الحاجات الأوروبية من الغاز وبعض الحبوب، إضافة إلى تقربها من "الأعداء"، بحسب مفهوم موسكو، في سياق تنويع وتوسيع العلاقات مع الدول خدمة للمصلحة المتبادلة.
تغير في التوجهات والأولويات
عن ذلك، يقول المتخصص في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية عبدالنور حميش في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إن الذي يجري بين الجزائر وحليفتها التقليدية روسيا، يكشف عن خلافات باتت تطفو على سطح العلاقات خصوصاً أنها وصلت إلى هيئات الأمم المتحدة، مما ينذر بتغير في توجهات وأولويات البلدين، على رغم أن العاصفة هدأت والأمر تم تفسيره بكونه مجرد خلافات عابرة.
وأوضح حميش أن الأحادية أو الثنائية القطبية لم يعد لها وجود على أرض الواقع في ظل ظهور قوى لا يمكن الاستهانة بها أو تجاهلها أو تهميشها، من ثم من كانوا يعدون أنفسهم كباراً اهتزت عروشهم مقابل صعود دول إلى مراتب قيادية مثل الصين والهند وجنوب أفريقيا وكوريا الجنوبية والبرازيل، مشيراً إلى أن التحولات الدولية فرضت وضعاً جديداً يبحث فيه الجميع عن التموقع مع الكبار الجدد استعداداً لعالم متعدد الأقطاب.
ورأى أن الانتقادات غير المسبوقة التي وجهها مندوب الجزائر الدائم في الأمم المتحدة لدور مجموعة "فاغنر" الروسية في هجوم القوات المالية على متمردين قرب الحدود الجنوبية، ودعوته إلى محاسبة تلك الأطراف، ثم الجدل الساخن بين مندوبي البلدين في مجلس الأمن الدولي على خلفية مشاركة الملاكمة الجزائرية إيمان خليف في الألعاب الأولمبية في باريس، بقدر ما أثارت تساؤلات أكدت أن التحالف التقليدي بين البلدين يمر بأزمة صامتة.
وأشار إلى أن الأمر يتعلق بصراع بين روسيا والغرب على مصادر الطاقة والذهب، لكن ذلك يأتي على حساب الدول الأفريقية، وهو ما لم تتقبله الجزائر التي ترفض وجود القوات الأجنبية بالمنطقة، خصوصاً أن حضور "فاغنر" شجع المجالس العسكرية لدول الساحل على ممارسات انتقامية وأخرى في غير محلها سواء مع السكان المحليين أو مع الدول المجاورة، مثلما حدث في مالي.
توتر صامت يدفع إلى آسيا
في خضم هذا "التوتر الصامت" الذي تسببت فيه التوجهات الجيوستراتيجية الجديدة للحليفين التقليديين ومنطق المصالح الذي بات العقيدة السياسية الحاسمة في توجيه سياستهما بعيداً من الاعتبارات التاريخية والأيديولوجية، يبدو أن الجزائر التي أصبحت تركز في اختياراتها الاستراتيجية على مفهومي الاستقلالية عن القوى الكبرى والقوة الصلبة المعتمدة على السلاح والطاقة، ولت وجهها صوب آسيا في سعي لربط علاقات تسمح لها بالتموقع وفق رؤيتها.
وجاءت زيارة رئيسة الهند دروبادي مورمو إلى الجزائر، وما رافقها من تصريحات مسؤولي البلدين، لتكشف عن بعض السيناريوهات التي يبدو أن الجزائر اعتمدتها في سياق تطور نظرتها وتحالفاتها، خصوصاً أن العلاقات الثنائية بين البلدين تراجعت خلال الأعوام الأخيرة، بعد أن كانت تصنف في خانة التاريخية القوية، بعدما تردد حول معارضة نيودلهي انضمام الجزائر إلى مجموعة "بريكس".
مصالح متبادلة
بالنظر لما جرى خلال الزيارة وما أحاط بها فإن تطوير العلاقات الاقتصادية يبقى الهدف الأول، فالجزائر تطمح إلى تحصيل ناتج إجمالي محلي بـ400 مليار دولار في 2027، وتسعى الهند الارتقاء إلى ثالث أكبر اقتصاد عالمي بحلول التاريخ نفسه.
وخلال الزيارة كشف الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون أنه اتفق على ترقية مستوى التعاون الاقتصادي وتشجيع الاستثمار والتبادل التجاري، مشيراً إلى التحضير لعقد دورة لكل من اللجنة المشتركة للتعاون وآلية التشاور السياسي في أقرب وقت، بما يخدم جهود دعم العلاقات وتعميق الشراكة الثنائية.
وبحسب البيان الختامي، فإن زيارة الرئيسة الهندية شهدت التئام أعمال المنتدى الاقتصادي الجزائري- الهندي بمشاركة أزيد من 300 متعامل من البلدين، التي توجت بالاتفاق على تأسيس علاقات أعمال وشراكات مثمرة ومربحة للجانبين، وتوقيع مجلس التجديد الاقتصادي الجزائري واتحاد غرف التجارة والصناعة الهندية على مذكرة تفاهم للتعاون.
توسيع التحالفات وتنويع العلاقات
وفي السياق يرى المتخصص في العلاقات الدولية سفيان مدريس، أن الجزائر تعيش على وقع علاقات مضطربة مع جوارها الإقليمي سواء مع منطقة الساحل أو المغرب أو ليبيا، وفي ظل تسجيل اهتزاز في العلاقات مع الحليف التاريخي روسيا، بات لزاماً عليها التحرك نحو توسيع دائرة التحالفات وتنويع العلاقات الثنائية، مشيراً إلى أن زيارة رئيسة الهند يمكن وصفها بالتحول الصامت للجزائر نحو آسيا بهدف إنتاج نوع من العلاقات الحرة المرتكزة على المصالح المتبادلة بعيداً من التبعية أو الخضوع للقوة. أضاف أن موسكو لا يمكنها الاستغناء عن الجزائر لا سيما في المسائل الأفريقية، وبالتأكيد ستعود المياه إلى مجاريها سواء عبر تسويات أو تنازلات متبادلة.
ويعتقد مدريس، أن رفع وتيرة التعاون مع دول آسيا مثل الهند والصين وكوريا الجنوبية واليابان وغيرهم، لا يتعلق بالنفور من روسيا، على رغم أن ممارسات هذه الأخيرة لها دور فإن الرؤية الجزائرية نحو المستقبل التي تتمحور حول تنويع الشراكات وتوسيعها بعيداً من التحالفات المحدودة من أهم الأسباب التي تدفعها إلى آسيا وأميركا الجنوبية وحتى أوروبا.
وأعاد التذكير بأن الأوضاع الدولية والمتغيرات الحاصلة في العالم تفرض على الجزائر إعادة النظر في سياستها الخارجية، مستشهداً بحديث الرئيس تبون في آخر لقاء له مع الصحافة المحلية عن أن عدم الانضمام إلى مجموع "بريكس" أيقظ الجزائر وجعلها تستفيق على حقيقة الأوضاع، ودفعها إلى الاهتمام بأحوالها ومستقبلها.
الانفلات من التبعيات
من جانبه يرى الوزير الجزائري السابق عمار تو، أن زيارة رئيسة الهند إلى البلاد كانت بخلفيات معلنة وأهداف خفية. وقال في تصريحات صحافية، إن الزيارة صبت في خدمة البرنامج التنموي والسياسي الجيوستراتيجي ضمن إرادة الصعود الاقتصادي للجزائر وبلوغ درجة وافية من الاستقلالية الوطنية في كل المجالات.
وأوضح أن الزيارة تندرج في إطار تنويع التعاون بغرض الانفلات من التبعيات الجهوية التقليدية، أو لأجل امتلاك الجزائر ما يساعدها على التعامل المتكافئ مع مصادر التموين المهيمنة، مشيراً إلى أن الجزائر تستهدف التعاون مع الهند كصديق قديم وقوة إقليمية جديدة خدمة لمشروعها التنموي الطموح، ضمن سياسة غير منحازة وبعيداً من سياسة التحالفات.
تصاعد إيجابي متسارع
في الوقت نفسه تشهد العلاقات الجزائرية - الصينية تصاعداً إيجابياً متسارعاً على رغم أن الروابط بين البلدين تاريخية ومتينة، خصوصاً بعد تأكيد السفير الصيني لدى الجزائر لي جيان، خلال يوليو (تموز) الماضي، على مستوى الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين، والإرادة السياسية القوية الموجودة لتعزيزها وما تنتظره من آفاق واعدة مستقبلاً. وقال، إن بلاده تعد شريكاً تجارياً رئيساً للجزائر، نظراً إلى ارتفاع المبادلات التجارية وتجاوزها للمرة الأولى 10 مليارات دولار سنة 2023.
وبدا واضحاً أن زيارة قائد أركان الجيش الجزائري السعيد شنقريحة إلى الصين، المنعرج الذي فسرته عديد الأطراف بأنه يكشف عن توجهات جديدة للبلد الشمال أفريقي، وفاتحة عهد جديد في مجال التسليح، بعدما ظل حكراً على السوق الروسية، لا سيما في ظل الصدقية التي باتت تثبتها السوق الصينية، فيما يمر القطاع العسكري الروسي بظروف صعبة نتيجة الحصار الأوروبي- الأميركي واستنزاف قدراته في الحرب الأوكرانية.
وتبقى زيارة تبون في 2023 إلى الصين وهي الأطول خارجياً، بمثابة مقياس يوضح حقيقة الأمور بين الجزائر وبكين، لا سيما أنها شهدت محادثات رفيعة المستوى توجت بتوقيع 19 اتفاقاً ومذكرة تفاهم، واستثمارات صينية وشيكة بـ36 مليار دولار، مما جعل المراقبين يصفون نتائجها بـ"الإيجابية جداً".