يعيش لبنان ازدواجية كبرى في علاقة سلطته السياسية الغارقة في الفراغ الحكومي منذ أكثر من 10 أشهر، بين وجود قوى أمنية خاضعة لقرار السلطة السياسية، وبين قوى الأمر الواقع من ميليشيات مسلحة أجنبية ولبنانية في طليعتها "حزب الله"، الذي فضلاً عن استقلاليته التامة عن قرار هذه السلطة، يمارس نفوذه عليها منذ سنوات، لا سيما منذ انتخاب حليفه العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية عام 2016.
وفي موازاة الأزمة السياسية والمأزق الاقتصادي المالي الخانق والعزلة العربية - الدولية التي يعانيها لبنان بفعل سيطرة خيارات "حزب الله" الإقليمية المعادية للدول العربية والدول الغربية الصديقة تاريخياً للبلد على سياسته الخارجية، لا يتوقف المجتمع الدولي عن إبداء قلقه من إمكان تدهور الوضع الأمني واحتمال استغلال الأزمة الاقتصادية من أجل المس بالاستقرار فيه.
خشية من انضمام اللبنانيين إلى الهجرة غير الشرعية
وفي وقت يسود انطباع عام بأن دول الغرب تهتم للوضع الأمني في لبنان لأنها تخشى أن يقود الانهيار إلى موجة جديدة من هجرة النازحين السوريين فيه عبر زوارق الموت وتهريب المهاجرين إلى أوروبا، قال برلماني لبناني إن "الخشية باتت من أن تحمل هذه الزوارق لبنانيين أُعدمت حالتهم المعيشية وباتت يائسة، إلى الضفة الغربية من البحر الأبيض المتوسط، وبالتالي من الطبيعي أن تهتم هذه الدول بضبط حدود لبنان البحرية".
وعلى الرغم من العزلة، يحاول المجتمع الدولي إنقاذ لبنان من الانهيار الاقتصادي الكامل، لكن من دون جدوى حتى الآن، بسبب استعصاء تفاهم الطبقة السياسية على تشكيل حكومة. واشترط المجتمع الدولي تنفيذ إصلاحات اقتصادية من خلال حكومة جديدة من الاختصاصيين غير الحزبيين لتقديم المساعدات المالية التي يحتاجها لبنان، لكنه يستثني من حجبه المساعدات الجيش اللبناني والقوى الأمنية الشرعية، بحجة أنها الضمانة لحفظ حد أدنى من الاستقرار إزاء احتمالات التدهور الأمني والانتقال إلى الفوضى التي يشهد البلد بعض مظاهرها من قطع الطرقات إلى الصدامات على محطات الوقود نتيجة شح هذه المادة، وصولاً إلى اقتحام محتجين لمقار رسمية وإحراقها أحياناً.
دعم أميركي لصمود الجيش
وتقود الولايات المتحدة التحرك الدولي من أجل مساندة الجيش ومده بالسلاح والذخيرة، ومساعدته في تجاوز انعكاسات الأزمة المعيشية على عديده، مما يتطلب تخصيص موازنة لتلك المساعدة، ويحتاج إلى تبرير صرف الأموال على المؤسسة العسكرية أمام الكونغرس الأميركي، والحجة الرئيسة للبنتاغون ووزارة الخارجية الأميركية هي أن الجيش اللبناني هو المؤسسة التي يمكن أن تكون بديلاً لـ "حزب الله" وتحد من نفوذه.
وكان المؤتمر الذي رعته فرنسا والأمم المتحدة قبل أسابيع من أجل تأمين مساعدات عينية للجيش بالتنسيق والاتفاق مع الإدارة الأميركية أبرز تجليات التنسيق الأميركي – الفرنسي في هذا الملف، خصوصاً أن باريس استقبلت قائد الجيش العماد جوزيف عون الذي التقى الرئيس إيمانويل ماكرون.
وأسهمت واشنطن في استنفار دول غربية وعربية عدة لمساندة الجيش اللبناني وتقديم المساعدات له كي يصمد، لا سيما في مجال تأمين المواد الطبية والغذائية والمحروقات وقطع الغيار لآلياته المتعذر عليه شراؤها بالعملة الصعبة من خزانة الدولة اللبنانية، في وقت تشكل ندرة تلك العملة أحد أبرز مظاهر الأزمة، فضلاً عن القفزات الجنونية في أسعار الصرف.
وكشف السفير السابق إدوارد غابرييل، رئيس "مجموعة العمل الأميركي من أجل لبنان"، التي تشكل اللوبي اللبناني الأساس في الولايات المتحدة، وتضم أميركيين من أصل لبناني شغل معظمهم مناصب مهمة في الإدارة الأميركية، عن مساعدات أميركية جديدة مقررة للجيش اللبناني، مشيراً إلى أنهم سمعوا من الجانب الأميركي بأن الجيش سيحصل على 120 مليون دولار هذا العام وعلى 100 مليون دولار إضافية للإسهام في رعاية عائلات أفراده، موضحاً أن "ملف الـ 120 مليون دولار موجود على الطاولة والـ 100 مليون دولار ربما في المستقبل القريب".
وقال غابرييل، "ننتظر مساعدات إضافية أيضاً خلال الأسابيع المقبلة، وسيعتمد ذلك على موافقة الكونغرس. ومبلغ الـ 100 مليون دولار جديد، إذ سبق للسفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا، ولمساعد وزير الخارجية للشؤون السياسية السابق ديفيد هيل أن أعلنا عن مبلغ الـ 120 مليون دولار".
قلق "حزب الله" وتقاطعه مع تصريحات السفيرة
في المقابل، لفت النظر في خطاب الأمين العام لـ "حزب الله" حسن نصرالله في 25 يونيو (حزيران)، إثارته مسألة الدعم الأميركي للجيش، مع أن "الحزب" لم يعترض سابقاً على هذا الدعم المتواصل منذ سنوات، ومما أثار حفيظة "الحزب" هو قول مسؤولين أميركيين "ندعم الجيش اللبناني لأنه الجهة الوحيدة القادرة على مواجهة حزب الله". واستشهد نصرالله بعبارات لمسؤولين أميركيين وقولهم إنهم يدعمون الجيش "من أجل مواجهة حزب الله"، كما استعاد شهادات لمسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية أمام اجتماع مشترك للجنة الشؤون الخارجية في كل من مجلسي الشيوخ والنواب الأميركيين فقال، "بالأمس كان تصريح لأحد القادة الكبار في الجيش الأميركي يقول إن حزب الله هو الذي يقف عائقاً أمام تقوية الجيش اللبناني".
ووصف نصرالله هذه التصريحات بأنها "تحريض أميركي مكشوف للبنانيين على بعضهم البعض، ليس في الجلسات المغلقة وإنما في وسائل الإعلام، ولا يُتوقع أن تقبل مؤسسة وطنية من هذا النوع تحريضاً من هذا القبيل"، لكن اللافت أيضاً أن نصرالله سعى إلى تبرئة حزبه من تهمة إضعاف الجيش، فشدد على أن "في مواقفنا المعلنة وغير المعلنة والعملية، كنا دائماً ندعو إلى تقوية الجيش اللبناني ومدّه بكل عناصر القوة في مواجهة التهديدات الإسرائيلية، ونحن مع تقوية الجيش ولا يُقلقنا ولا يُثيرنا ولا يُثير فينا أي شك أو شبهة، حتى ولو كان الذي يقوم بتقوية الجيش هي الولايات المتحدة الأميركية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأنهى نصرالله مطالعته بتكرار عبارات يستخدمها خصوم "الحزب" وحتى الجانب الأميركي وممثلو المجتمع الدولي، إذ أكد أن "الجيش اللبناني هو الضمانة الحقيقية للأمن والإستقرار في لبنان وأيضاً لوحدة لبنان، لأنه توجد بدايات مقلقة باتجاه لبنان أو باتجاه المنطقة، في ما يتعلق بالوحدة الجغرافية لهذا البلد أو ذاك". وبرر إيجابيته حيال تقوية الجيش بأنه "في ثقافتنا هو جزء أساس من المعادلة الذهبية لقوة لبنان، عندما نتحدث عن الجيش والشعب والمقاومة".
ومع أن بعض المراقبين وجد في إثارة نصرالله لقضية الدعم الأميركي للجيش على أنها نوع من تنبيه لقيادته من الانسجام مع الأهداف الأميركية من وراء هذا الدعم، فإن مراقبين آخرين وجدوا بأنه يتقاطع مع واشنطن عند ضرورة دعم الجيش، وأنها لم تكن النقطة الوحيدة للتقاطع بين الطرفين، ففي اليوم نفسه الذي ألقى فيه نصرالله خطابه، بُث تصريح تلفزيوني للسفيرة شيا، كررت فيه خطط واشنطن لدعم الجيش، فضلاً عن انتقادها بطريقة لبقة لمطلب الفريق الرئاسي اللبناني بالحصول على الثلث المعطل في الحكومة، الذي يشكل العقدة الرئيسة أمام تأليفها. وبدوره، أعاد نصرالله إلى الأذهان أن حزبه يقف ضد حصول أي فريق على الثلث المعطل في الحكومة، فأظهرت الصدفة تقاطع واشنطن والحزب عند نقطتين في الوضع للبناني.
تعديل في المقاربة الأميركية
ويتحدث سياسيون لبنانيون قريبون من الجانب الأميركي في بيروت، وبعض أعضاء اللوبي اللبناني في أميركا، عن تعديل في التوجهات الأميركية، تعبّر عنه ضغوط واشنطن من أجل إنهاء الفراغ الحكومي في لبنان من جهة، وحرصها على دعم الجيش من جهة أخرى. وفي ملف الحكومة، لم تعد الدبلوماسية الأميركية تعترض على أن يكون لـ "حزب الله" دور في الحكومة المقبلة، وباتت تقول إن سفارتها في بيروت سبق أن تعاملت مع حكومات تضم ممثلين للحزب أو أصدقاء له، مثل حكومة رئيس الوزراء حسان دياب المستقيلة. ويردد الدبلوماسيون الأميركيون بأن أقصى موقف يمكن أن يكون عدم التعامل مع وزارة يتولاها صديق واضح للحزب، من دون مقاطعة الحكومة ككل.
أما بالنسبة إلى الجيش، فإن مسؤولاً كبيراً في القيادة المركزية الأميركية التي تتعاطى مع المؤسسة العسكرية، أعلن قبل أيام في شهادة أمام الكونغرس أنه "على الرغم من التهديد الكبير الذي يشكله حزب الله، فإن واشنطن ليس لديها أي مخاوف من احتمال أن يتم تسريب المعدات والمساعدات العسكرية التي نقدمها للجيش اللبناني إلى هذا الحزب، لأن الجيش اللبناني ليس حزب الله".
ويمكن الاستنتاج أن "التقاطع" المفترض بين موقفي الإدارة الأميركية و"حزب الله" حيال الثلث المعطل في الحكومة، وحيال دعم الجيش، لا يعني بالضرورة اتفاقاً بين الجانبين بقدر ما هو مرحلة جديدة في تنافسهما على الساحة اللبنانية.
فمن جهة، يسعى الحزب إلى نوع من التهدئة على الساحة اللبنانية لتخفيف الأضرار عليه وعلى جمهوره جراء الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يمر بها لبنان، ويريد للجيش أن يمسك بمفاصل الأمن الذي يعجز هو عن ضبطه في حال انفلات الفوضى بسبب التراجع الدراماتيكي للوضع المعيشي، ويشكل قطع الطرقات العشوائي احتجاجاً أحد نماذجه. ومن جهة ثانية، تسعى واشنطن إلى التخفيف من أسباب التوترات الأمنية في لبنان والعسكرية في الشرق الأوسط، بحيث تعتمد مقاربة طويلة النفس لتحييد خصومها ومنهم الحزب، وتُعد حماستها لاستئناف مفاوضات ترسيم الحدود البحرية اللبنانية - الإسرائيلية إحدى الوسائل.
ويبدو أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تبنت مقاربة البنتاغون المعتمدة منذ ولاية الرئيس السابق دونالد ترمب، بأن الجيش اللبناني يتمتع بقدر عال من الاستقلالية عن الحزب، على الرغم من تأثير الأخير عبر صلاته بعدد من الضباط فيه، لكن قيادته ليست من النوع الذي يتلقى أوامر منه.
إلا أن الأهم هو أن هذه المقاربة تستند إلى قناعة بأن إضعاف "حزب الله" يمكن أن يتم بأساليب غير خيار الحرب ضد لبنان والحزب الذي تلوح به إسرائيل بين الفينة والأخرى، والذي يعاكس التوجه الأميركي بتجنب الحروب في الشرق الأوسط، إذ إن همّ الإدارة في المرحلة المقبلة هو التركيز على أولويات أخرى تحددها معركتها على النفوذ مع الصين، كما أن تقوية الجيش ودعمه هما حجر الرحى في توجهات الإدارة، بحيث يتمكن من الحؤول دون مزيد من تمدد الحزب في مناطق غير تلك ذات الطابع الشيعي التي يسيطر عليها حالياً، ومحاولة إضعاف تمدده في مناطق سبق أن تمدد فيها مثل بيروت وطرابلس وبعض الأقضية المسيحية من جبل لبنان.
ويفيد أعضاء في اللوبي اللبناني الأميركي في واشنطن بأن الجانب الأميركي أبلغ حليفته إسرائيل بأنها ترفض المس بالجيش، ويسوق هؤلاء أمثلة من نوع أنه حين احتجت إسرائيل على نجاح مخابرات الجيش اللبناني في كشف عملاء لها في لبنان، فإن الجانب الأميركي لم يأخذ بهذه الاحتجاجات، ودعا تل أبيب إلى اعتبار ما جرى على أن الجيش يقوم بواجبه، وأقفل الموضوع.