في يوم خصّصه الفاتيكان للصلاة من أجل السلام في لبنان والتأمل في وضعه المقلق، وجّه البابا فرنسيس، الخميس الأول من يوليو (تموز)، رسالة أمل إلى اللبنانيين، داعياً إياهم إلى عدم الإحباط، وطالباً من قادتهم السياسيين إيجاد "حلول عاجلة ومستقرة للأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الراهنة".
وبعدما اجتمع خلال النهار مع تسعة من رؤساء الكنائس الموجودة في لبنان، لمناقشة كيف يمكن للأديان مساعدة البلاد على النهوض من أزمتها، عبّر البابا خلال كلمة ألقاها في كاتدرائية القديس بطرس عن "قلقه الشديد لرؤية هذا البلد الذي أحمله في قلبي، ولديَّ الرغبة في زيارته، يتجه بسرعة إلى أزمة خطيرة".
ووصل رؤساء الكنائس التسعة صباح الخميس إلى دارة القديسة مارتا في الفاتيكان، حيث يقيم الحبر الأعظم، تلبيةً لدعوة وجهها إليهم للمشاركة في "يوم التأمل والصلاة من أجل لبنان"، الغارق في أزمة اقتصادية صنّفها البنك الدولي على أنها من بين الأكثر شدة منذ عام 1850.
وتوجّه البابا بعد ذلك مع ضيوفه سيراً إلى كنيسة القديس بطرس، حيث عقدت وقفة صلاة "من أجل عطية السلام في لبنان"، وفق ما نقلت وكالة أخبار الفاتيكان. وانتقلوا بعدها إلى القصر الرسولي، حيث عقدت ثلاث جلسات مغلقة بإدارة السفير البابوي في لبنان، المونسنيور جوزف سبيتري.
سياسيون "بلا ضمائر"
وفي نهاية النهار، بعد صلاة مسكونية من "أجل السلام" تخللتها تلاوة نصوص بالعربية والسريانية والأرمنية والكلدانية، ألقى البابا فرنسيس كلمة ختامية بحضور دبلوماسيين، متوجهاً مباشرةً إلى اللبنانيين وقادتهم السياسيين، وأيضاً إلى "أعضاء الأسرة الدولية"، لكي يطلب أن تتوافر "الشروط عبر جهد مشترك حتى لا ينهار البلد، بل يسلك طريق النهوض".
ولم يتردد البابا في توجيه بعض السهام. فقد وجهها أولاً إلى الطبقة السياسية اللبنانية، مؤكداً أن لبنان "لا يمكن أن يترك لمصيره أو تحت رحمة هؤلاء الذين يسعون من دون ضمير إلى مصالحهم الشخصية"، وأنه "ليس هناك سلام من دون عدالة". وتابع، "يجب ألا نسمح من الآن فصاعداً لأنصاف الحقائق أن تحبط تطلعات الناس"، مضيفاً أن اللبنانيين "يشعرون بخيبة الأمل ومرهقون... ويحتاجون إلى اليقين والأمل والسلام".
ووجه كلماته أيضاً إلى دول أخرى متهمة "بتدخل تعسفي"، قائلاً "يجب الكف عن استخدام لبنان والشرق الأوسط لمصالح ومكاسب أجنبية!".
وصلى البابا مراراً من أجل لبنان، الذي يشهد منذ عام 2019 انهياراً اقتصادياً متسارعاً فاقمه انفجار مرفأ بيروت في أغسطس (آب) الماضي، الذي أودى بأكثر من 200 شخص ودمّر أجزاء كاملة من المدينة. وقال في سبتمبر (أيلول) الماضي، في أول تعليق بعد انفجار المرفأ، إن "خطراً شديداً يهدد وجود هذا البلد"، مضيفاً "لا يمكننا أن نترك لبنان في عزلته".
"لا تتخلوا عن منازلكم"
وقال البابا، الخميس، "لبنان بلد صغير عظيم لكنه أكثر من ذلك: هو رسالة عالمية للسلام والأخوة تنبثق من الشرق الأوسط"، فيما يبدو الوجود المسيحي في هذا البلد مهدداً بسبب العدد المتزايد للراغبين في الهجرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان الحبر الأعظم استبق اللقاء بتغريدة الأربعاء كتب فيها، "أدعو الجميع إلى الاتحاد معنا روحياً بالصلاة، كي ينهض لبنان من الأزمة الخطيرة التي يمر بها وأن يُظهر مجدداً وجهه، وجه السلام والرجاء".
وسبق أن أعرب في مناسبات عدة عن رغبته في زيارة لبنان، البلد الذي وصفه بأنه "رسالة حرية، ومثال على التعددية بين الشرق والغرب". وتوجّه إلى اللبنانيين بالقول، "لا تتخلوا عن منازلكم وعن تراثكم".
وأفاد الأسقف بول ريتشارد غالاغر، الذي يتولى منصب وزير خارجية الكرسي الرسولي، أن الزيارة "يمكن" أن تتم في نهاية عام 2021 أو مطلع 2022، ويفضّل بعد تشكيل حكومة جديدة.
الأزمة اللبنانية
ويشهد لبنان منذ صيف 2019 انهياراً اقتصادياً متمادياً، فقدت معه العملة المحلية أكثر من 90 في المئة من قيمتها أمام الدولار.
وبات أكثر من 55 في المئة من السكان يعيشون تحت خط الفقر على وقع تدهور قدراتهم الشرائية. ولم توفر تداعيات الانهيار أي طبقة اجتماعية، وتفاقمت يوماً بعد يوم معاناة السكان الذين باتوا يكافحون من أجل تأمين لقمة العيش.
ولا تلوح في الأفق أي حلول جذرية لإنقاذ البلاد، ويغرق المسؤولون في خلافات سياسية حادة حالت منذ انفجار المرفأ دون تشكيل حكومة قادرة على القيام بإصلاحات، يضعها المجتمع الدولي شرطاً لحصول لبنان على دعم مالي.
وذكرت وكالة أنباء الفاتيكان أن زيارة رؤساء الكنائس "لا تهدف إلى إيجاد حل سياسي" للأزمة، إنما "الرد على شكاوى الشعب ومعاناته".
الشراكة المسيحية - الإسلامية
وتحدث النائب البطريركي العام، المطران الماروني سمير مظلوم، لوكالة الصحافة الفرنسية في بيروت، عن تقديرات تشير إلى أن "50 إلى 60 في المئة من شبابنا يعيشون في الخارج، لم يبقَ إلا كبار السن والأطفال".
وأعرب عن اعتقاده بأن الحبر الأعظم "يكثف عمله الدبلوماسي لدى رؤساء الكنائس والدول الكبرى... لإيجاد حلول تؤدي إلى تشكيل حكومة قادرة على اتخاذ قرارات توقف البلد على قدميه، وتعيد إنماء الاقتصاد وتخفف من وطأة الكارثة على الناس ومن أسباب الهجرة"، خصوصاً هجرة المسيحيين التي تشكل "عنصراً أساسياً في المحنة التي نعيشها".
ومن بين الشخصيات التي حضرت محادثات الفاتيكان، البطريرك الماروني بشارة الراعي، الذي تحدث علناً عن فساد الطبقة السياسية في لبنان. وقال الراعي لصحيفة "لوريون لو جور" اللبنانية الصادرة بالفرنسية، إن اليوم الجامع مع البابا يمثّل "خطوة مهمة باتجاه مساعدة لبنان على البقاء كوطن للشراكة المسيحية الإسلامية".
ويضمّ لبنان 18 طائفة، وتتوزع مقاعد البرلمان الـ128 مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، في عُرف فريد من نوعه في الدول العربية.
وشدد النائب الرسولي في بيروت، المونسنيور سيزار ايسايان، الذي شارك أيضاً في اللقاء، على أن "لبنان يعيش أزمة هوية" مع بلوغ الفساد كامل قطاعات المجتمع بما في ذلك تلك الدينية. وقال في مؤتمر صحافي عبر الإنترنت، "إنها لحظة مهمة للغاية بالنسبة إلينا".