مشهد سوريالي عاشه لبنان مع "شح المازوت"، لا ماء، لا كهرباء، مؤسسات سياحية تقفل أبوابها، ومستشفيات تقنّن استقبال المرضى.
في المقابل، حملت نهاية الأسبوع بعض الأمل الآتي من بغداد، مع توقيع الاتفاقية التي بموجبها ستزوّد الدولة العراقية لبنان بمادة المازوت. وأشار وزير الطاقة ريمون غجر إلى أن "الاتفاقية تشمل استيراد مليون طن من الفيول لصالح مؤسسة كهرباء لبنان"، كما "ستعطي كهرباء لمدة أربعة أشهر"، موضحاً " أننا نأخذ الفيول مقابل الخدمات".
من جهتها، كانت وكالة الأنباء العراقية أكثر وضوحاً من الموقف اللبناني، فشرحت أن "العراق وقّع اتفاقاً مع لبنان لبيع مليون طن من زيت الوقود الثقيل بالسعر العالمي على أن يكون السداد بالخدمات والسلع".
ولاقت البادرة العراقية ترحاباً من الأوساط اللبنانية، إذ أكد جورج البراكس، ممثل نقابة المحطات أن "الخطوة تعبّر عن عاطفة أخوية وتستحق الشكر، تحديداً تعجيل رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي في التوقيع قبل توجهه إلى واشنطن".
ولفت البراكس إلى أن "الاتفاقية تشكل جزءًا من الحل، وليست الحل بأكمله، لأنها ستعيد أزمة الطاقة إلى ما قبل مرحلة التقنين الحاد في الكهرباء" الذي بلغ مستوى 23 ساعة انقطاع في بعض المناطق.
وتحدث عن "أزمة مفاجئة من حيث الحدة بسبب التوقف الكلي لكهرباء لبنان عن إمداد البلاد بالطاقة"، بالتالي ارتفعت الحاجة إلى المازوت بمعدّل من ضعفين إلى 3 أضعاف.
ويعتقد البراكس أن اللبناني لن يبدأ الشعور بالحلحلة قبل تحويل المليون طن إلى كهرباء، وإلى ذلك الحين سيستمر الضيق في السوق لأن "المخزون الموجود في البلد لا يكفي أسبوعاً في أحسن حالاته"، إذ تبلغ الكميات المتاحة بين الخزانات والتي تحملها البواخر الوافدة حوالى 100 مليون ليتر.
الحل يحتاج إلى قرار حاسم
من جهة ثانية، أدى شح المازوت والفيول في لبنان إلى خروج معامل الكهرباء عن الخدمة إلى حد كبير، وشكّل ذلك عبئاً كبيراً على المولدات الخاصة التي حاولت التعويض عن النقص في الطاقة الكهربائية.
ومن أجل الحفاظ على مستوى عالٍ من التغذية، انتقل القطاع الخاص إلى تأمين حاجاته من "السوق السوداء" بأسعار مضاعفة للسعر الرسمي لمادة المازوت، التي وصلت إلى 150 ألف ليرة لبنانية (100 دولار بحسب السعر الرسمي للصرف) عوضاً عن 55 ألف ليرة (34 دولاراً).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع توقف منشآت النفط عن تسليم مادة المازوت حفاظاً على الاحتياطي الاستراتيجي، اضطر أصحاب الاشتراكات إلى التعاطي مع السوق الرديفة، الأمر الذي انعكس مضاعفةً لتسعيرة الأمبير.
وأدى اختفاء مادة المازوت إلى نتائج كارثية، ودقّ ناقوس الخطر بالنسبة إلى الوضع الذي يمكن أن يكون عليه لبنان على أبواب موسم الشتاء، بحيث يمكن أن تنعدم الحياة في القرى الجبلية في حال عدم تأمين المحروقات للتدفئة.
ويشعر المواطن اللبناني بأنه أمام خيارين أحلاهما مر، إما أن ينتظر اللحظة الأخيرة ويخاطر بحياته واستمرارية نشاطاته الاقتصادية، أو اللجوء إلى "المهربين وتجار الأزمات".
ومن المفارقات المعبّرة التي يمكن رصدها، تلك التي تنتشر على طول طرقات مناطق الأطراف في لبنان، ففي منطقة عكار (شمال لبنان) تغيب مادة المازوت بالكامل عن المحطات. في المقابل، تنتشر بسطات "غالونات المازوت" على حافتي الطريق. ويضطر المواطن وسائق الفان إلى شراء الغالون بسعر يتراوح بين 75 ألف ليرة (50 دولاراً) و90 ألفاً (60 دولاراً) نتيجة غياب البديل.
هذا المشهد قاد إلى سؤال الدكتور جورج البراكس عن سبب غياب المازوت عن المحطات في وقت ينتشر بيعه في الغالونات، ويلفت إلى أنه لطالما توجهت النقابة بالشكوى إلى الأجهزة الأمنية من أجل مكافحته، موضحاً أنهم "منذ بدء الأزمة، كانوا يعارضون بيع الغالونات لأنها تغذي السوق السوداء".
ويتحدث عن أزمة تعصف بالقطاعات كافة، التي تعتمد في إنتاجيتها على الطاقة الكهربائية. ومع توقف كهرباء لبنان عن تزويد المؤسسات بالطاقة، اضطر هؤلاء إلى شراء المازوت من مصادر شتى، إما القطاع الرسمي، أو الشركات الخاصة، وحتى السوق السوداء. كما لجأ بعض المصانع إلى استخدام المازوت في المصانع عوضاً عن الفيول الثقيل Heavy Fuel، والأمر ذاته ينسحب على مضخات المياه لري المزروعات.
الحاجة متزايدة
تبلغ حاجة السوق المحلية في لبنان حوالى 5 مليون ليتر مازوت في اليوم، ومع زيادة التقنين في كهرباء لبنان، ازدادت لحدود 8 ملايين ليتر يومياً، ولكنها بلغت حالياً حدوداً غير مسبوقة 18 مليون ليتر يومياً. وهذه الزيادة التي تصل الى حوالى 10 مليون ليتر لا يمكن تفسيرها إلا من خلال الحديث عن التخزين والتهريب إلى سوريا. يقول البراكس "إذا ضخيت 20 مليون ليتر في السوق اليوم، ستختفي".
ويرى ممثل نقابة المحطات أن استيراد المازوت يتضمن مسؤولية مشتركة، ففي حين تتراوح حصة الدولة اللبنانية من سوق استيراد المازوت بين 30 و40 في المئة، تُخزّن في منشآت النفط في دير عمار والزهراني، يستورد القطاع الخاص ثلثي الكمية السوقية. ويتأثر استيراد المادة بصورة مباشرة بصرف الاعتمادات بالدولار من قبل مصرف لبنان.
ويشكو البراكس من أن المشكلة لا تقتصر على زيادة الطلب المحلي والناشئ عن الحاجة المتزايدة لتوليد الطاقة بصورة ذاتية.
ويبقى عبء التهريب يثقل عاتق لبنان، الذي يتغذى من فارق السعر بين المادة المدعومة في البلاد والشحيحة في الجارة سوريا. كما ينوّه البراكس إلى التخزين الذي يلجأ إليه المواطنون خوفاً من ازدياد سعرها مع قرب فصل الشتاء والحديث عن رفع الدعم، متوقعاً تخطي ثمنها 320 ألف ليرة (213 دولاراً) على سعر 72 دولاراً لبرميل النفط في السوق العالمية، و23 ألف ليرة لسعر صرف دولار، والضريبة على القيمة المضافة والجعالة.
ويجزم البراكس أن "الحل الوحيد الممكن حالياً هو أن يفتح مصرف لبنان الاعتمادات لبعض البواخر على وجه السرعة من أجل تأمين حاجة السوق"، متسائلاً "لماذا وافق حاكم المركزي على الاستمرار في تمويل ودعم الاستيراد لثلاثة أشهر إضافية إذا كان لا يريد صرفه؟".
ويعتقد أنه "لا يوجد حل للأزمة إلا في رفع الدعم"، متحدثاً عن "واجب الدولة في درء الارتدادات السلبية لرفع الدعم من خلال منح بطاقة تمويلية تتضمن 200 دولار لما لا يقل عن 800 ألف عائلة لبنانية بمبلغ يقارب 2 مليار دولار".
أزمة مياه مستجدة
في الأيام القليلة الماضية، دخلت أزمة المياه إلى المشهد العام، في ظل تحذير "يونيسيف" من انهيار شبكات توزيع المياه في لبنان ضمن فترة زمنية تتراوح بين 4 و6 أسابيع. وأكدت في تقرير حديث لها (صدر في 23 يوليو/ تموز الحالي) أن 4 ملايين لبناني معرّضون لخطر فقدان إمكانية الحصول على المياه الصالحة للشرب. وهذا الخطر يتزامن مع التفاقم السريع للأزمة الاقتصادية ونقص التمويل وعدم توافر المحروقات وإمدادات أساسية مثل الكلور وقطع الغيار.
في موازاة هذا التحذير، بدأ ظهور شاحنات نقل المياه في المناطق الجردية اللبنانية بسبب توقف مضخات المياه من المنابع إلى الشبكات داخل القرى. ويشير أحد مزودي المياه إلى أن الطلب على المياه ازداد أخيراً بسبب عدم وصول الماء إلى المنازل، ويحصل لقاء ذلك على مبلغ مادي بدءًا من 50 ألف ليرة.
في سياق متصل، يتخوف الخبير الهيدروجيولوجي سمير زعاطيطي من تأثير عدم صيانة الشبكات في تزويد المدن الكبرى بالمياه، ففي بيروت يبلغ الهدر 40 في المئة ضمن الشبكة.
ويعتقد أن هناك حاجة لمصادر مائية جديدة، "لم تتمكن السدود من تأمينها لأنها سياسة مائية فاشلة في لبنان"، ويمكن الاستعاضة عنها بالآبار الجوفية التي يمكن الاستفادة منها باستمرار، بالرغم من نقص الوقود والمازوت، من خلال الاعتماد على البطاريات، الطاقة الشمسية أو المراوح.
المستشفيات في خطر
يزداد مستوى القلق مع الاقتراب من أبواب المستشفيات، ففي الأيام القليلة الماضية، اضطر بعض المستشفيات إلى إيقاف أنظمة التكييف بصورة جزئية، فيما أقفلت أخرى بعض الطوابق والأقسام بحسب نقيب المستشفيات سليمان هارون، الذي حذّر من مشهد كارثي لأنه "لا يمكن للمستشفيات الاستمرار في تأدية خدماتها من دون مازوت وكهرباء"، مناشداً الإسراع في إيجاد الحل لأنه في حال انقطاع المازوت، ستتوقف غرف العمليات، سيموت المرضى الذين يحتاجون إلى أجهزة التنفس الاصطناعي، ولن يتمكن مرضى غسيل الكلى الحصول على علاجهم. ويرفض هارون تكرار السيناريو المأساوي الذي حصل في بعض الدول المجاورة عندما انقطعت الكهرباء عن أقسام العناية المركزة.
كما يتخوف نقيب المستشفيات الخاصة من موجة جديدة لجائحة كورونا، لأن زيادة الضغط على القطاع الصحي في هذه الظروف سيعني معاناة محتمة لأعداد كبيرة من المصابين بسبب الحاجة المتزايدة لأجهزة التنفس. ولكن في ظل الظروف الراهنة، تستمر المستشفيات في المقاومة لأن "الضغط ما زال محدوداً على الأسرّة".
في المحصلة، يمكن اختصار حالة لبنان بمقولة "لا مازوت لا حياة"، إذ اتسعت الصرخات من أصحاب المولدات الكهربائية، إلى متاجر التجزئة الذين يشتكون من فساد المواد الغذائية بسبب عدم التبريد، فيما عاد البعض منهم في طرابلس إلى البيع على ضوء الشمعة، ولا ننسى الحالة المزرية التي يضطر اللبناني إلى عيشها داخل منزله في ظل انقطاع الكهرباء في عز الصيف.
وعليه تضرب أزمة شح المازوت القطاعات الإنتاجية كافة، وكلما طوى لبنان أزمة، ظهرت أزمة أشد وطأة، يضطر معها اللبناني إلى تكييف سلوكياته وحاجاته.