بغضب وألم وحسرة، نزل اللبنانيون إلى مسرح الجريمة لينادوا بحقيقة وعدالة لا تزالان مفقودتين بعد مرور عام كامل على انفجار مرفأ بيروت المروع. تطغى على العاصمة بصمات الدمار والخراب حتى اليوم، وعلى ذاكرة اللبنانيين روائح الدم وصور الجرحى والقتلى في الشوارع، وكأن الوقت لم يمر.
تحت أشعة الشمس الحارقة وعلى الرغم من تفشي فيروس كورونا في البلاد، توجّه اللبنانيون إلى بيروت من مختلف المناطق، الأربعاء الرابع من أغسطس (آب)، لينضموا إلى ذوي ضحايا انفجار المرفأ والناجين منه، في المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن الكارثة التي أودت بحياة 214 شخصاً وستة آلاف جريح، فضلاً عن تدمير العاصمة بمرافقها ومبانيها.
دعوات للمحاسبة وإسقاط الحكام
ومنذ ساعات الظهر، بدأ اللبنانيون يتوافدون إلى بيروت، حيث تجمعوا في محيط المرفأ وبالقرب من نصب المغترب، رافعين الأعلام اللبنانية ولافتات مطالبة بالحقيقة والعدالة ورفع الحصانات ومحاسبة كل المسؤولين عن الانفجار، ومرددين شعارات تدعو إلى "الثورة" وإسقاط المنظومة الحاكمة وحياد لبنان.
وعلى الرغم من الإجراءات الأمنية المشددة، وتفتيش سيارات الوافدين ومنعهم من الدخول فيها إلى العاصمة واضطرارهم إلى ركنها بعيداً والسير لمسافات طويلة، استمر المواطنون بالتوافد إلى العاصمة للمشاركة في إحياء ذكرى الانفجار.
وبتصفيق مهيب خرق أجواء الحزن والغضب السائدة، استقبل اللبنانيون أهالي ضحايا فوج إطفاء بيروت، الذين انطلقوا سيراً على الأقدام من ثكنة الفوج في الكرنتينا وصولاً إلى تمثال المغترب قبالة المرفأ، حيث لفظ ذووهم أنفاسهم الأخيرة في مهمة إطفاء ملغومة بمئات الأطنان من مادة نيترات الأمونيوم المتفجرة.
وفيما عجز القضاء حتى الساعة عن تبيان حقيقة ما حصل في ظل تمسّك السياسيين بحصاناتهم ورفضهم المثول أمام المحقق العدلي في القضية طارق بيطار، كان لسان حال المحتجين واحداً، "كانوا يعرفون، وحصاناتهم ساقطة"، في إشارة إلى التقارير التحذيرية التي وصلت إلى كبار المسؤولين السياسيين والأمنيين بشأن المواد الخطيرة المخزنة في العنبر 12 في المرفأ قبل أيام من الحادثة، من دون أن يتخذوا أي إجراءات لتجنيب بيروت الكارثة التي حلّت بها.
الراعي يجدد الدعوة للحياد
وفي الساعة 18:07 مساءً في قلب مرفأ بيروت، في الوقت والمكان اللذين وقع فيهما الانفجار قبل عام، انطلق قداس عن راحة أنفس الضحايا، ترأسه البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي وحضره أهالي القتلى. بدأ الاحتفال بتلاوة آيات قرآنية، تلاها عرض جوي فوق منطقة الانفجار، حلّقت خلاله طوافة صعوداً نحو السماء، تجسيداً لأرواح الضحايا، فيما رسمت ثلاث طوافات ألوان العلم اللبناني بالدخان. من ثم تُليت أسماء ضحايا الانفجار الـ214، ووقف المشاركون دقيقة صمت لراحة أنفسهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في عظته، قال الراعي إن "صوت الله ينادي كل مسؤول عن التفجير مهما اختبأ بحصانة"، مؤكداً أن "العدالة مطلب الشعب اللبناني كله ونريد أن نعرف مَن أتى بالنيترات ولصالح مَن ومَن سحب منها كميات وإلى أين أرسلت ومَن عرف خطورتها وتغاضى عنها ومَن طلب منه أن يتغاضى ومَن فجّرها؟"، داعياً القضاء إلى الحزم. وأضاف "معيب أن يتهرب المسؤولون من التحقيق تحت ستار الحصانة أو عريضة من هنا أو هناك"، مشدداً على أن "كل الحصانات تسقط أمام الضحايا... من يخاف العدالة يدين نفسه بنفسه".
وفيما شكر الدول المشاركة في مؤتمر باريس الذي أقيم في المناسبة لمساعدة بيروت، جدّد الراعي دعوته إلى "عقد مؤتمر دولي خاص بلبنان يعلن حياده ويضع آلية لتنفيذ القرارات الدولية، حتى لو استدعى ذلك إصدار قرارات جديدة"، مضيفاً "مهما تغاضت الجماعة السياسية عن الواقع، لن تستطيع قهر الشعب إلى ما لا نهاية... القضية مسألة وقت وإنقاذ لبنان آتٍ لا محالة".
وأضاف البطريرك الماروني، "لا نريد قتالاً ولا اقتتالاً ولا حروباً، لدينا فائض حروب وشهداء ومقاومات، فلنتجه نحو الحرية والسلام ولنبعد عن كياننا التاريخي الخرائط التي تحاك لمنطقة الشرق الأوسط".
اشتباكات وتوترات
على الصعيد الأمني، لم يخلُ هذا النهار الطويل من أعمال عنف وشغب، إذ شهد محيط مجلس النواب و"ساحة الشهداء" في العاصمة اشتباكات بين المحتجين والقوى الأمنية.
وتمكّن المحتجون من إزالة الأسلاك الشائكة عند أحد مداخل مجلس النواب، ما أدى إلى سقوط عدد من الجرحى، بينما شهد مدخل آخر للبرلمان حشوداً من المتظاهرين الذين حاولوا اقتحامه وسط وابل كثيف من الحجارة.
وردت قوى الأمن بإطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع، وأصدرت بياناً دعت فيه "المتظاهرين السلميين، حفاظاً على سلامتهم، إلى الخروج فوراً من الأماكن التي تحصل فيها الاعتداءات"، كما نفت "استخدامها للرصاص المطاطي أو أي رصاص من نوع آخر لتفريق المتظاهرين".
وأعلن "الصليب الأحمر اللبناني" أنه أسعف 45 مصاباً في احتجاجات بيروت، ونقل 13 مصاباً إلى المستشفى.
في غضون ذلك، نظمت مناطق عدة تحركات إحياءً لذكرى انفجار مرفأ بيروت وللمطالبة بالعدالة، منها مسيرة في حلبا شمالاً، ووقفة رمزية لجهاز الطوارئ والإغاثة وفوج الإطفاء في اتحاد بلديات الفيحاء في طرابلس، وإطلاق صفارات الإنذار عبر سيارات الإسعاف والإطفاء في مدينة صيدا جنوباً.