تُعدّ "العيطة" من أعرق الفنون الغنائية الشعبية في المغرب، وتعني باللهجة العامية المغربية النداء، وتضم قصائد هذا الفن النداء، والاستعانة، والتبرك بالسلف الصالح، وينقسم فن "العيطة" إلى تسعة أنواع تبعاً للنطاق الجغرافي الموجودة فيه، وتتميز منطقة الشمال المغربي بـ"العيطة" الجبلية، والمعروفة بـ"الطقطوقة" الجبلية.
مميزات "العيطة" الجبلية
تختص "العيطة" الجبلية عن باقي الأنواع بسلاستها وعذوبتها وخفة إيقاعها. ويشير الباحث المغربي في المجال الفني، أسامة غجو، إلى أن "العيطة" الجبلية تتميز بليونتها وسهولة عزفها وعذوبة لحنها، فهي لا تتوفر على فصول كثيرة، ما يجعلها خفيفةً على السمع، وتمتاز بملامحها المتوسطية، إذ نجد تقاطعات وتشابهات مع بعض أهازيج وموسيقى البحر الأبيض المتوسط، كموسيقى "المجرودة" في ليبيا، أو "طقطوقات" مصر القديمة، مثل "يا بلح زغلول" من تلحين سيد درويش، أو موسيقى "موناكو" الشبيهة كثيراً بـ"العيطة". وقال إن الأغنية التقليدية، بحسب متخصصين، تتحدد في خمس نقاط تنطبق كلها على "العيطة" الجبلية: فهي أولاً موسيقى ذات أصول قديمة، ثم إنها تستند على التناقل الشفوي فقط، وترتبط بسياق ثقافي، وتحمل جملة من القيم، وترتبط بشبكة من المعتقدات والممارسات، بيد أن بها هامشاً غير قليل للارتجال العفوي، كما في الموسيقى الشعبية عموماً، و"العيطة" موسيقى ذات طابع رعوي، تصدر عن أصوات وتضاريس الطبيعة الجميلة بجبالها وسهولها، وتأخذ من صفات الشخصية الجبلية الفريدة التي تمتاز بالإقدام والشجاعة.
ويشير الباحث المغربي إلى أنه على الرغم من أنها تنتشر في مختلف المناطق الشمالية في المغرب، كقبائل "أهل سريف"، و"بني حسان"، و"الخماس"، و"سوماتة"، و"بني جرفط"، و"بني زكاف"، و"بني زروال"، و"جبل الحبيب"، فإن عديداً من الباحثين يعتبرون قبيلة "بني عروس" المنبع الرئيس والأصلي لـ"العيطة" الجبلية.
ويورد الكاتب والباحث المتخصص في فن "العيطة"، حسن نجمي، في كتابه "غناء العيطة"، "الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب"، أن من بين العادات الأندلسية خلال العهد "المرابطي"، ثم العهد "الموحدي"، الخروج الجماعي المنظم الذي يسمى "النزاهة" (من التنزه)، إذ كان الأندلسيون يخرجون مع أطفالهم إلى الحقول مرتدين أجمل الملابس، ومصطحبين آلات الموسيقى والطرب بغرض الرقص والغناء، ولقد تأثرت منطقة "جبالة" بهذا الطقس، فتشكلت فرق "الملحون الجبلي"، وهو نمط غنائي اندثر بفعل الإهمال وغياب التدوين، على الرغم من احتفاظ بعض الشيوخ بقصائد قليلة نادرة منه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتبر الباحث الفني أن تشكّل هذه الفرق كان البداية الفعلية للأغنية الجبلية بكل تلويناتها اللاحقة، والأكيد أن انتقال شيوخ هذه الفرق وشيخاتها أفراداً وجماعات بين المدن والقرى المجاورة في مواسم الأولياء أو في بعض الأعياد كذكرى عاشوراء، أو طلباً للعمل أو للاسترواح، قد ساعد على تبادل المعارف والخبرات الموسيقية وتبادل صنوف من "العيطات" يمكن اعتبارها حينئذٍ الأساسات الأولى للأغنية الجبلية بالشكل الذي نعرفه الآن. وأشار إلى أنه لذلك، يكاد يجمع المختصون على اعتبار الموسيقى الأندلسية منبعاً أساسياً للأغنية الجبلية، وأن هذا التأثر يتجلى في شيئين اثنين: البنية الموسيقية والآلات المستعملة، مضيفاً أنه من جهة، تعتمد قالب المتتابعات المكون لـ"النوبة الأندلسية" تقريباً (البغية، والتصديرة، والقنطرة، والانصراف)، المقابل لـ(الرايلة، والعيطة، والكباحي، والدرديكة) في النمط الجبلي، ولا يخفى، من جهة أخرى، أن الأغنية الجبلية تستعمل معظم الآلات المستعملة في الطرب الأندلسي، إذ تقوم أساساً على العزف الآلي (الطبل والغيطة)، ويصاحب الغناء "الكنبري" (آلة موسيقية لها أحجام ثلاثة: الهجهوج، والفرخ، والسويسي)، والكمنجة (الكمان)، والبندير (الدُّف)، وفي بعض النماذج الغنائية يتم استعمال آلات النفخ كـ"الليرة"، إذ تفيد دراسات بأن الهلاليين هم من أدخلوا هذه الآلات النفخية لفن "العيطة"، كـ"الشبابة"، وهي قصبة للنفخ أكبر من الناي.
التسمية
يرفض عديد من الفنانين والمتخصصين إطلاق تسمية الطقطوقة الجبلية على موسيقى "العيطة" الجبلية. ويشير أسامة غجو إلى أن تلك التسمية دخيلة، غير دقيقة، بل وخاطئة، لأن الطقطوقة أهزوجة خفيفة لا يعنى تمام العناية بتلحينها تلحيناً فنياً دقيقاً، أما "العيطة" فتتوفر على مقومات تجعل من بنيتها، سواء الشعرية أو الموسيقية (إيقاعاً وتلحيناً) بنية مركبة.
في المقابل، يشير باحثون إلى أن خلفية تسمية الطقطوقة تعود إلى أصوات طلقات البنادق التي كانت في السابق تصاحب "العيطة" الجبلية خلال الاحتفالات، وإلى نغمة "طق طق" الموجودة في إيقاع أغاني "العيطة" الجبلية.
البنية الموسيقية
ويوضح الباحث الفني غجو أن عزف "العيطة" الجبلية غير عسير، ويتم بثلاثة أوتار متكاملة، إذا كان على آلة "الكنبري"، أما إذا كان على الكمان فيتم بثلاثة أوتار متكاملة، وبالسلم الموسيقي الخامس المتكامل، أما في العود، فيستحسن أن يساوي الوتر الثاني في نغمة "صول"، والتدرج معه إلى الوتر الخامس، على أساس أن الجبلي خلافاً للغناء العصري، يبدأ من أخشن الأصوات وينتهي إلى أدقها، واعتبر أن "العيطة" تستمد خصوصيتها الإيقاعية من الإيقاع الذي ينبني عليه قسمها الأول الموسع للحركة، وهو إيقاع معقد يبنى على تشكيلة زمنية ذات تقسيم أعرج، والدور الإيقاعي تتواتر في نطاقه الزمني أربعة أزمنة ونصف زمن، حسب ثمن الوحدة البسيطة، وخصوصية هذا الإيقاع تتمثل في النبض الأعرج الذي يقع في نصف الزمن الذي يلتصق بالزمن الرابع، وتوجد أنواع "العيطة" الجبلية نغمياً في أجناس اصطناعية، ونطاقها الصوتي إما من ثلاث درجات أو أربع درجات.
ويضيف الباحث غجو أنه في الوقت الذي تخضع فيه "العيطة" لانتقالات مقامية يغلب عليها مقام "الحجاز" في "التصديرة" و"الجنس الرباعي" الأول من مقام "نهاوند" على الدرجة نفسها، فالجنس الرباعي الأول لمقام "سيكا"، أو "الكرد"، يغلب على الأغنية الجبلية الخفيفة البساطة في اللحن وسهولة الحفظ، ويطغى عليها الإيقاع الشعبي، هذا من جهة المبنى، أما من جهة المعنى، فموضوع الأغنية الجبلية ينحصر في ثلاثة أشياء: إما أن يكون عرضاً للحالات النفسية والروحية مثل الفرح والحزن والسعادة والألم وغيرها، وإما أن يكون نقلاً لأخبار المعارك والحروب والانتصارات والهزائم من جهة ثانية، وإما أن يكون تغنياً بجمال الطبيعة والمرأة من جهة ثالثة.
"جهجوكة"
تشكل موسيقى "جهجوكة"، جزءاً من "العيطة" الجبلية، و"جهجوكة" هي قرية جبلية تقع قرب مدينة القصر الكبير الواقعة في الشمال المغربي، حيث عملت عائلة العطار دوراً كبيرة في الحفاظ على ذلك الطابع الموسيقي عبر الأجيال، وساهمت في نقل ذلك الفن إلى العالمية.
يشير المؤلف الموسيقي المصري، أحمد يونس، إلى أن موسيقى "الجهجوكة" تتميز بالطابعين الصوفي والفولكلوري، وتعتمد في تكوينها على الطبل، و"الغيطة" بشكل أساسي، وعلى آلة "الشبابة" في بعض الأحيان، موضحاً أن الطبل المستخدم في موسيقى "الجهجوكة" ذو وجهين من "الرق"، وهو عبارة عن أسطوانة مفرغة تتباين في قطرها، يشد على كل وجه من وجهيها "رق" من الجلد، وهو الطبل الذي يعرف في مصر بـ"طبل المزمار"، أو "الطبل البلدي"، ونرى عازف الطبل يعلقه على كتفه بحبل أو بحزام، ويكون الطبل مسنوداً على بطن العازف، ويضرب العازف على الوجه الأيمن للطبل ضربات ثقيلة، وعلى الوجه الأيسر ضربات خفيفة.
أضاف يونس أن "الغيطة"، هي آلة نفخ تشبه المزمار البلدي، وهي ذات ريشة مزدوجة عبارة عن أنبوب أسطواني مفتوحة على صدره ثقوب عدة، ويتدرج الأنبوب في الاتساع لينتهي طرفه ببوق على شكل جرس، ولـ"الغيطة" أحجام مختلفة الطول والاتساع، ويصدر كل حجم صوتاً مختلف الحدة، فكلما زاد طول الأنبوب واتسع، زاد صوته خشونة، والعكس بالعكس.
ويقول المؤلف الموسيقي المصري إن الطبل و"الغيطة" هما المكونان الأساسيان لموسيقى "الجهجوكة"، ولكن في بعض الأحيان تستخدم "الشبابة"، المعروفة باسم "المجوز"، وهي آلة نفخ تشبه الناي، وفي معظم الأحيان يكون في الفريق عازفان لآلة الشبابة، أحدهما يعزف نغمة أساس ثابتة، والآخر يقدم اللحن المطلوب، أو يرتجل، وكذلك الحال في الطبل و"الغيطة"، فالفريق يتكون من أكثر من عازف لكل آلة، ويلعب كل عازف جزءاً مختلفاً عن الآخر، سواء في الإيقاع أو اللحن، ليشكلوا مجتمعين المقطوعة المراد عزفها، مشيراً إلى أن من المظاهر الفنية التي ارتبطت بموسيقى "الجهجوكة" فن مغربي يعرف باسم "بو جلود"، وهو نوع من الرقص يقدمه أحد أبناء القرية، وتغطي جسده جلود الحيوانات ويرقص أمام النار، وفي يده عصا يهاجم بها الناس محاولاً إبعادهم عن النار.
إلى العالمية
وساهم كل من الرسام الإنجليزي برايان كيسن وصديقه الكاتب الأميركي الذي عاش جُل حياته في المغرب بول بولز، في الحفاظ على موسيقى "جهجوكة" ونقلها إلى العالمية. ويشير أحمد يونس إلى أن موسيقى "الجهجوكة" انتقلت في البداية من القرية إلى مدينة طنجة على يد كيسن، بعد أن خاف على ضياعها بسبب هجرة الشباب من الجبل إلى المدينة، وقرر وقتها تأسيس مطعم في مدينة طنجة يحمل اسم "ألف ليلة وليلة"، وجلب كثيراً من الفرق من قرية "جهجوكة" ليعزفوا موسيقاهم كل يوم فيه.
وقال إن جهود كيسن وبولز لم تقف عند هذا الحد، بل أسهما في توصيل هذه الموسيقى إلى العالمية عن طريق دعوة كثير من الفنانين العالميين إلى قرية "جهجوكة" للتعرف إلى موسيقاها، ومن هؤلاء مؤسس فريق "رولينغ ستونز"، ميك جاغر، الذي تعاون مع موسيقيي "جهجوكة" في تقديم ألبوم موسيقي، مضيفاً أن عازف الساكسوفون والمؤلف الموسيقي أورنيت كولمان تعاون بدوره مع موسيقيي "جهجوكة" في تقديم ألبوم أيضاً، إضافة إلى التعاون مع عدد من الفنانين الآخرين.