على الرغم من كل شي، إن الكشف عن نجاح (رئيس الوزراء البريطاني الأسبق) ديفيد كاميرون بجني سبعة ملايين جنيه إسترليني من شركة الاستثمارات "غرينسيل كابيتال" Greensill Capital خلال عمله (مستشارا) لدى المجموعة المالية قبل إفلاسها، قد أثار حفيظة الكثيرين كما يقال.
يعود ذلك في معظمه إلى طبيعة المسؤوليات الوظيفية التي أنيطت بكاميرون، وكانت من قبيل شغله وظيفة وسيط عالي الشأن للمبيعات عبر الهاتف كوسيلة لحصد الأرباح بعد فترة أمضاها في منصب حكومي عام، وبسبب الطريقة التي كانت تلك الشركة تدير أعمالها، وأيضا وفق معايير الكثير من الناس، فتلك النسبة الكبيرة من الأرباح تعصى الخيال.
لكن بالنسبة لبوريس جونسون فإنه لم يكن ليندهش أبداً ربما، أو ربما إذا بدا مندهشاً، فربما سبب ذلك أن الأرقام المعنية بالقضية يعتبرها جونسون تافهة إذا قارناها بما يروج له رئيس الوزراء (في أوساطه) عن حاجته السنوية لحوالي مليون جنيه إسترليني (حوالي 1.4 مليون دولار أميركي ) لسداد حاجاته الأساسية، ومعروف عنه معاناته بقوة جراء اضطراره إلى العيش على مرتب رئيس الوزراء الذي لا يتعدى سنوياً 157352 جنيها استرلينياً ( أي حوالي 220 الف دولار أميركي).
من جديد، فإن ذلك يضع (بوريس) ضمن فئة الواحد في المئة الأكثر ثراء في المملكة المتحدة من بين دافعي الضرائب، ومع قليل من الدخل الإضافي الذي قد يجنيه من عائدات مبيعات كتبه وعوائد استثمارات عائلية من عقارات وأموال تم توفيرها، قد يصل دخله إلى مستوى 236000 جنيها إسترلينياً أو لمبلغ قريب من تلك النسبة المطلوبة لترفيعه إلى فئة الـ 0.5 في المئة من دافعي الضرائب البريطانيين (الأكثر ثراء).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا لا يبدو كافياً بالنسبة لرجل من طينة بوريس جونسون على كاهله مسؤوليات، ولديه ذوق وتوقعاته (من الحياة)، فهو لطالما كان ميسور الحال وخالط الطبقة المخملية كما هو موثق. ويبدو أن جونسون يود إعالة أبنائه الكثر متى كان ذلك متاحاً، وإضافة الممكن إلى كل الإمتيازات التي تحققت لهم عبر توفير التعليم الخاص الباهظ الثمن لهم إضافة إلى العطلات (التي ترافق نمط العيش ذلك).
طلاقه الأخير (من زوجته أم أبنائه الخمسة) أثر سلباً على إمكاناته المادية وربما زعزع استقرار ماليته الفوضوية. فخلال خلاف علني تناقل الإعلام تفاصيله مع صديقته السابقة، وهي زوجته الحالية كاري سيموندز، أنبته خلاله قائلة إنه لا يفقه في الأمور المالية، ولا يبدو أن أحداً اعترض على تفاصيل تلك المزاعم.
إضافة إلى ذلك، يعرف عن جونسون سمعته بأنه متحفظ بمصاريفه، حيث لم يقدم يوماً مشروبات على حسابه [لرفاقه كما هو العرف الذي يحكم عادات تناول المشروب في الحانات البريطانية]. وكما أظهرت التحقيقات الأخيرة عن عمليات التجديد التي أجراها على شقته في مقر الحكومة في داونينغ ستريت، ورحلته السياحية الأخيرة إلى البحر الكاريبي، أنه يتوقع أن يدفع احدهم المصاريف أكان ذلك صديق، أو زميل أو أحد معارفه أو مستخدمه أو دافعو الضرائب أو أحد ممولي الحزب غير الرئيسيين . وحتى بالنسبة إلى شخص أمضى فترة طويلة كصحفي، فأنه معروف عنه حبه لكل ما هو مجاني، وكل ما كان ثمن ذلك باهظاً لفضله جونسون.
الحقيقة المرة في ذلك كما في كثير من الأمور، أن جونسون يتحفز للزمن الذي يصبح خلاله رئيس الوزراء السابق بنفس الحماسة التي استقبل فيها فوزه بمنصبه ووظيفته الحالية. وسيسعى ومن منطلق كبريائه أن تتخطى مكتسباته في حينه، مداخيل رئيسي الوزراء كاميرون وتيريزا ماي رغم كونها عائدات معتبرة [يعتد بها].
فثمن الخطاب الواحد الذي تلقيه رئيسة الوزراء السابقة ماي يتراوح بين مئة ألف ومئة وخمسين ألف جنيه إسترليني ( 140 إلى 210 الاف دولار أميركي تقريبا)، ومن المنصف أن نقول أنها لا تتمتع بجاذبية جونسون "الحكواتية " رغم كونها قد أصبحت مرتاحة أكثر وطورت نوعاً من خفة الدم اللاذعة بعد استقالتها.
العام الماضي كسبت ماي أكثر من مليون جنيه إسترليني (حوالي 1.4 مليون دولار أميركي). سيسعى جونسون حتما لتحقيق مستوى دخل رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر و[رئيس الوزراء الأسبق] توني بلير اللذين كسبا ملايين عدة لقاء كتابة مذكراتهما وظهورهما العلني (وإلقاء الخطب) إضافة إلى شغلهما مناصب استشارية أو ما يماثلها لكنهما أيضا، شأن غوردون براون، مالا إلى وضع دخلهما هذا في مؤسسات خيرية عدة أسساها بدلاً من استخدام تلك المداخيل لخدمة مصاريفهم الشخصية.
عندما تبوأ جونسون منصب رئيس الوزراء في 2019، كان في ذلك الوقت يحصل على أجر جيد جدا، واضطر لخسارة 670 ألف جينيه إسترليني (حوالي 930 ألف دولار أميركي) من دخله. ففي الأشهر الإثني عشرة التي سبقت شهر يوليو (تموز) 2019 كان جونسون قد كسب 829 ألف جنيه إسترليني (حوالي 1.15 مليون دولار أميركي) بما فيها أجور مقابل خطب ألقاها (قيمة أحدها وصلت إلى 122899 جينه إسترليني قدمها في إحدى دور النشر الهندية) بالإضافة طبعاً إلى عقده مع صحيفة ديلي تيلغراف لقاء مقال أسبوعي يكتبه والبالغ 275 ألف جنيه إسترليني سنويا. وتتطلب كتابه هذه المقالات منه حسب تقديراته ساعات عمل لا تزيد على عشرة ساعات شهرياً، ويساوي ذلك أكثر من الفي جنيه إسترليني في الساعة أو حوالي خمسة جنيهات مقابل كل كلمة يكتبها. كما يجني جونسون أيضاً بين عشرة إلى عشرين ألف جنيه إسترليني كحقوق المؤلف من مبيعات كتب قام بنشرها (مثل كتابه الذي يسرد قصة حياة وينستون تشرشل).
منزله العائلي السابق في منطقة إيسلنغتون (شمال لندن) بيع بمبلغ 3.7 مليون جنيه إسترليني، وبعد ذلك قام مع شريكة حياته كاري بشراء منزل في منطقة كامبرويل Camberwell جنوب لندن بمبلغ 1.9 مليون جنيه إسترليني (حوالي 2.66 مليون دولار أميركي). كما قام بتأجير منزله في دائرته الانتخابية السابقة في منطقة هينلي (العريقة) بحوالي أربعة آلاف جنيه (شهرياً).
إذا، جونسون ليس فقيراً بكل المقاييس، لكنه يشعر دوماً بحاجته لكسب المال. فبإمكانه التفوق على معظم إن لم نقل جميع أسلافه (من رؤساء الوزراء) في مضاعفة وتيرة أعماله. وسترفع الخبرة التي حصدها من شغل منصب رئيس الوزراء من قيمته ككاتب مقال، ومن هنا ستكون أفضل البدايات [في انتظاره]. فهو كاتب جيد وأداؤه سريع (والامران متلازمان) وستكون مقالاته وخطبه أكثر حيوية من الجميع (من أمثاله). كما لن يحتاج لمن يكتب عوضاً عنه (وهو ما يعرف بالكاتب الشبح) ghostwriter لكن عمله المقبل قد يتطلب منه الاستعانة بباحث يتمتع بالخبرة.
مذكرات رؤساء الوزراء تساوي الكثير من المال، لكن الضغوط العصرية، تحتم عليه كما كان كاميرون قد اكتشف، أنه على المرء التبرع بعائداتها لصالح الأعمال الخيرية (وليس واضحا إن كان ذلك يشمل عادة قيمة المبلغ المقدم الأساسي السخي لعقد كتابتها). بليرحصل على خمسة ملاييين جنيه إسترليني مقابل خواطر كتبها والإفصاح عن أفكاره مثلاً، وجونسون قد يسعى للحصول على أكثر من ذلك. هناك عادة أجر أعلى مقابل أن تكون هذه المذكرات آنية، وأعتقد أن رئيس الوزراء سينتهي من كتابتها بوقت قياسي، بغض النظر لو كانت تلك المذكرات محرجة لخليفته أم لا.
ويتحتم على تلك المذكرات أن تكون عملا يستحق القراءة. لقد كان جونسون بالمناسبة في أعلى المناصب السياسية منذ انتخابه عمدة لمدينة لندن عام 2008، وقد يحتاج لكتابين ليغطي كل تطورات حياته السياسية المليئة بالأحداث المؤذية [نجمت عنها آثار سلبية] حقاًـ بما فيها حملة الخروج من أوروبا، "بريكست"، وحملتان انتخابيتان وحشيتان للمنافسة على قيادة حزب المحافظين، وتجربة مشارفته على الموت بعد إصابته بعدوى كوفيد، وعلاقاته الحميمة الخاصة (التي كان خجولا في السابق في الكشف عنها، ولكننا لا نعرف كيف سيتطور موقفه حيالها لاحقاً) إضافة إلى التفاصيل عن نادي بولينغدون Bullingdon ومدرسة إيتون، وعلاقاته مع أمثال دونالد ترمب .
جرت العادة أن يعرض الوزراء السابقون مذكراتهم للمصادقة الرسمية عليها، ولكننا من دون شك سنرى كيف سيسعى جونسون لتجاوز العرف بخصوص أسرار الدولة وخصوصيتها إلى الحد الأقصى الممكن. وستتضمن تلك المذكرات نميمة ذات جودة عالية للغاية، ولكن كم سيمكننا تصديق ما سيسرده جونسون عن وقائع حياته، سيبقى على المحك.
وكما هو النمط السائد في أوساط رؤساء الوزراء الشباب، كما جرى مع بلير وكاميرون، على جونسون وبوجود عائلة فتية (برعايته) العمل من أجل تكديس ثروة معتبرة تكفيه طوال عمره على وجه الأرض وتكفيه بعد أفول نجمه، وزوال شهرته. الدولة البريطانية في المقابل لن تنساه. فهو سيحصل على سيارة وسائق لبقية عمره (وهذا تجديد طارئ بدأ العمل بموجبه في عهد هارولد ويلسون عام 1975 قبل فترة على تقاعده)، ويمكنه الاعتماد على بدل مادي من الدولة لدفع تكاليف مسؤولياته العامة كرئيس سابق للوزراء، أجازه رئيس الوزراء السابق جون ميجور عام 1991. ويمكن لجونسون وعائلته الاعتماد على فريق حماية شخصية على مدار الساعة، إضافة إلى كسبه معاش الضمان الاجتماعي الخاص بوظائف شغلها كنائب، ووزير وعمدة سابق.
لم يكتب لكل رؤساء الوزراء السابقين أن يصبحوا أغنياء، إما بفضل جهودهم أم بعد نجاحهم في بناء "مؤسسات" (خيرية) تمنحهم هدفاً يعملون من أجله في حياتهم. بعض رؤساء الحكومة السابقين عانوا أوضاعاً اقتصادية صعبة (هارولد ويلسون و هيربرت هنري أسكويث Harold Wilson and HH Asquith ). آخرون كانت لديهم ثرواتهم الخاصة أم عاودوا العمل في تجارتهم العائلية بعد تقاعدهم الجزئي [من الوظيفة الحكومية] (هارولد ماكميلان عاد للعمل بما يسمى دار نشره، وجيم كلاهان إلى مزرعته). بعضهم كانت زوجاتهم على شيء من الثراء أم نجحن بكسب الكثير بعرق الجبين (من بين هؤلاء الليدي دوروثي ماكميلان، وهي إبنة دوق، أو المحامية شيري بوث زوجة توني بلير). أكثر المسرفين من بين رؤساء الحكومة ومحبي جمع المال على الأقل قبل جونسون، كان وينستون تشرشل. حبه لامتلاك المنازل الغالية الثمن القديمة (تحديدا تشارتويل Chartwell)، وتدخين السيجار، ومشروب الشمبانيا، والعطلات السياحية الفارهة، والوجبات في المطاعم الشهيرة والملبس المتأنق تركته مفلساً في بداية الحرب: لكن بحلول خمسينيات القرن الماضي جعل منه كرم بعض الأصدقاء وأمتنانهم له إضافة إلى براعته الأدبية رجلاً غنياً بشكل دائم لأول مرة في حياته. وربما سيكون لجونسون الأمر نفسه.
© The Independent