"طالع النخل"، مهنة محفوفة بالمخاطر المتعددة لطلب الرزق بين السماء والأرض عبر صعود النخيل الشاهق بهدف جمع التمور أو تلقيحها. هذه المهنة لا تزال منتشرة في غالبية محافظات جنوب مصر على الرغم من التقدم التكنولوجي في أساليب الحصاد. "اندبندنت عربية" التقت محمد جودة، أشهر طالع نخيل في الإقليم، البالغ من العمر 55 سنة، ليسرد لنا كواليس تلك المهنة الشاقة والخطيرة.
موسم حصاد التمور
رافقنا محمد جودة خلال صعوده بمهارة واقتدار: يربط حول خصره والنخلة مجموعة من الحبال المقوّاة التي تشكل حزاماً، وهو ما يطلق عليه المطلع. وخلال صعوده، يتمكّن من توسيعه أو تضييقه، وبرفقته فأس صغيرة، وسكين حاد يُعرف بالمنجل، ليبدأ مهمة تقطيع سباطة التمور لربطها بالحبال واحدة تلو الأخرى، فيجري بعد ذلك إنزالها إلى من ينتظره في الأسفل. وخلال هذا التسلق، يتابعه بأبصارهم جمع غفير من الصغار والكبار، لأنهم يدركون الخطورة والمغامرة في مهنته هذه.
بحسب الجداريات الفرعونية داخل المعابد الأثرية في البلاد، فإن المصريين عرفوا مهنة طالع النخل منذ أكثر من خمسة آلاف عام، اعتمدوا عليها في جني محاصيل البلح، الذي كان أبرز أطعمتهم من جميع الطبقات، كما استخدموه في صناعة الخمور، بخاصة في منطقة طيبة وأبيدوس (الأقصر وسوهاج).
وفقاً لوزارة الزراعة، تنتج مصر من التمور مليون و700 ألف طن سنوياً، بحيث تمتلك ثروة من النخيل تُقدّر بأكثر من 15 مليون نخلة، كما تتصدر الوادي الجديد وأسوان (جنوب البلاد) المحافظات المصرية في إنتاج البلح، وتتمركز فيهما مصانع منتجات التمور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ميراث الأب الشاق
يقول جودة إن "البعض يعتقد أن موسم صعود النخل لا يجري إلا مرة واحدة في العام بهدف حصاد وجمع التمور عقب نضوجها"، مؤكداً "أن كل نخلة تحتاج إلى ثلاث عمليات صعود في العام الواحد بهدف التلقيح، والتنظيف والخف، والحصاد والجمع". وأشار إلى أنه ورث المهنة عن والده، وهو في عمر 7 سنوات وتُعدّ من أخطر المهن التي من الممكن أن تعرّض صاحبها للموت أو لدغات العقارب والثعابين التي تتخذ من أعلى النخل سكناً لها، لذلك فهي تحتاج إلى الثبات الانفعالي وسرعة رد الفعل، والقوة البدنية التي تمكّنه من الصعود على قدميه إلى أكثر من 9 أمتار في بعض النخيل، ثم تقطيع كل سباطة من البلح لإنزالها على حدة عبر الفأس والسكين والحبال".
وأوضح جودة أن "طالع النخل يحرص خلال صعوده على أن يكون عكس اتجاه الرياح، لأن بعضه يعاني السوس والحرارة الداخلية، وهو ما يعني فقدان النخلة لحجمها، ما قد يتسبب في سقوطها بمن يصعد عليها جراء قوة الرياح وحجم طالعه". وأشار إلى أن "تسلّق النخيل ليس عشوائياً بل محفوف بمخاطر متعددة، ويكثر الإقبال على أرباب هذه المهنة في موسم الحصاد الذي يبدأ من منتصف يوليو (تموز) وحتى منتصف سبتمبر (أيلول)، ويكون سعر الحد الأدنى للنخلة الواحدة 50 جنيهاً (3.18 دولار أميركي) سواء في مواسم التلقيح أو الحصاد".
مواقف خطيرة
يذكر جودة أن "نسب الخطورة في صعود النخيل مرتفعة، فكثيرون سقطوا من ارتفاع بعضها الشاهق صرعى أو أُصيبوا بعاهات مستديمة". عن أصعب المواقف التي تعرّض لها في تلك المهنة، يقول، "عام 2010، كنت فوق نخلة يقارب طولها 8 أمتار، خلال تقطيعي لسباطة البلح في موسم الحصاد، ظهر لي ثعبان كوبرا، فهو يتخذ من سباطة النخيل عشاً لها، وسرعان ما نزل من الاتجاه المخالف لي. بات المشهد الأكثر مرعباً، خصوصاً أن الثعبان عاود التقدم نحوي من أسفل، فألهمني الله الصواب، إذ أنزلت سباطة النخل الكبيرة عليه فسقط على الأرض، وبادرت بالنزول على الفور، خشية خروج ثعابين أخرى من تلك النخلة المشؤومة".