لا تزال ارتدادات الأحداث التي أعقبت الحرائق التي عرفتها الجزائر مع قتل وحرق الشاب جمال بن إسماعيل، تلقي بظلالها على الشارع، تغذيها بعض الأطراف التي تدفع إلى التصادم بين أبناء الشعب لتحقيق مصالح ضيقة تخدم فكرة "استقلال منطقة القبائل".
وأدى نشر وزارة التربية برنامج الدروس المرتقب تطبيقه خلال العام الدراسي الجديد، الذي يبدأ في 21 سبتمبر (أيلول) الجاري، من دون الإشارة إلى مصير اللغة الأمازيغية، إلى احتقان شعبي وأكاديمي أعاد إلى الأذهان حالة التعصب التي رافقت مقتل الشاب جمال بن إسماعيل، من طرف بعض شباب قرية "لربعا ناث إيراثن" التابعة لمحافظة تيزي وزو، بتهمة الوقوف وراء الحرائق التي عرفتها المنطقة، بعد أن عبر مدافعون عن القضية الأمازيغية عن قلقهم، وأشاروا عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى أنه يجب ألا تدفع اللغة الأمازيغية ثمن الملاحقات والمتابعات التي تقودها السلطات ضد المنتمين لحركة "الماك" الانفصالية المصنفة كتنظيم "إرهابي".
كما طالبت المحافظة السامية للأمازيغية، وهي هيئة دستورية، وزير التربية عبد الحكيم بلعابد، بـ"العدول عن تطبيق ما ورد في منشور رسمي، أو تحرير مذكرة توضيحية لرفع كل لبس في التطبيق من طرف مديري مؤسسات التعليم"، بسبب ما وصفته بـ"بعض الغموض الذي اكتنف حيثيات منشور وزارة التربية المتضمن التنظيم الاستثنائي في المراحل التعليمية الثلاث، بما فيه المحور الخاص بتعليم الأمازيغية".
وقال بيان للمحافظة، إن وزارة التربية أكدت أن "تقليص برنامج التدريس وراءه ظروف وباء كورونا، وهي التدابير التي ستتم مناقشتها بين الطرفين خلال لقاء تشاوري يعقد في غضون الأيام المقبلة، ليكون ساحة للنظر في سبل تجسيد إطار تنسيقي دائم يسوده الهدوء وروح الحوار البناء، مع رسم معالم استراتيجية توافقية لتعميم تدريس اللغة الأمازيغية وفقاً لأحكام الدستور، واتخاذ التدابير الضرورية لمواصلة تعزيز وترسيخ تدريسها وفقاً لالتزامات الدولة، وضمان دخول مدرسي ناجح".
وزارة التربية تتدخل
الاحتقان الذي أخذ حيزاً واسعاً من النقاشات التي تطورت في بعض الأحيان إلى شتم وتهجم وتبادل التهم، بشكل يكشف عن حقد وكراهية وجهوية وتعصب، استعجل تدخل الحكومة عبر وزارة التربية التي أكدت أنه نظراً لما يشاع على صفحات التواصل الاجتماعي حول إلغاء تدريس مادة اللغة الأمازيغية خلال الدخول المدرسي للموسم الدراسي المقبل، ولأجل تنوير الرأي العام والأسرة التربوية على وجه الخصوص بمن فيهم أساتذة اللغة الأمازيغية، فقد عُقد اجتماع طارئ بحضور مفتشي مادة اللغة الأمازيغية، وتم التأكيد على أن المادة لم تقص من التنظيم التربوي المسطر حالياً من طرف الوزارة الوصية، كونها مكرسة في الدستور كلغة وطنية ورسمية.
وأوضحت أنه لم يتم المساس بالحجم الساعي لمادة اللغة الأمازيغية، وهي مدرجة في جداول توقيت التلاميذ وفق معايير بيداغوجية محضة، ودعت إلى عدم الانسياق وراء الإشاعات المتداولة على نطاق واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، مضيفة أنه بعد دراسة المنشور الوزاري رقم 1394 المؤرخ في 14 أغسطس (آب) 2021، اتضح أن مادة اللغة الأمازيغية ستدرس مثلها مثل باقي المواد وهي مقررة في المناهج التربوية المعتمدة رسمياً من طرف الوصاية، ولا تزال مدرجة في جداول توقيت التلاميذ، وفق معايير بيداغوجية محضة.
الإقصاء والتهميش
في السياق، رأى المحلل السياسي، رابح لونيسي، أن جذور مشكلة الهوية في الجزائر هي الإقصاء والتهميش الذي تعرض له البعد الأمازيغي لسنوات بعد الاستقلال، ما أنتج ردود فعل لدى كثيرين من الناطقين بالأمازيغية، ويبدأ المشكل في التفاقم، وقال إن النظام لمس الخطأ الذي ارتكب، فعمل على تداركه بخطوات عدة لاقت رفضاً من البعض، بخاصة تيارات القومية العربية، وكذلك بعض الإسلاميين، الذين لجأوا إلى أساليب عدة لإفشال مخطط النظام لإصلاح الخطأ الفادح، وتتمثل في إعلانهم حملة ضد الأمازيغية، كما شنوا أيضاً حملة مركزة ضد منطقة القبائل بلغت حد تخوينها، وهو ما ساعد دعاة الانفصال بشكل غير مباشر، وأبرز أن المساس بالبعد الأمازيغي في الجزائر أمر مستبعد، بل على العكس سيحظى بالدعم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جانبه، استبعد أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، بريك الله حبيب، أن تختفي اللغة الأمازيغية من البرامج التعليمية في الجزائر تحت أي سبب من الأسباب لأنها أصبحت لغة ثانية رسمية، مشدداً على ضرورة التفريق بين الممارسات الأيديولوجية المقيتة للتنظيمات المشبوهة وبين الثوابت، كما يجب عدم الانسياق وراء كل ما يشاع، وأوضح أن التنظيمات الإرهابية هي من يقف وراء هذه الإشاعات الكاذبة التي ترمي إلى استعطاف الرأي العام.
تشكيك في جهود وتصد حكومي
وتعمل جهات "متعصبة" على التشكيك في جهود السلطات من خلال البحث في النصوص القانونية والتاريخية بهدف خلق كتلة "أمازيغية" معارضة للسلطة، وتوسيع دائرة الغضب الأمازيغي، ويذكرون أنه لا يمكن الحديث عن تطور تدريس اللغة الأمازيغية، ما دام أن تعليمها يبقى اختيارياً وليس إجبارياً، بينما ينتقد البعض عدم تعميمها على كل مناطق البلاد وحصرها في محافظات محسوبة على القبائل، في وقت يطالب بعضهم بضرورة استعمالها في المقررات والوثائق الرسمية باعتبارها لغة وطنية مثلها مثل العربية.
ومن أجل مواجهة محاولات زرع "الفتنة" وإفشال مخططات الفوضى، تواصل السلطات منح اللغة الأمازيغية مكانتها التي تستحقها كأحد أبعاد الهوية المنصوص عليها في الدستور، إذ تتجه المساعي نحو تسجيل حضورها في الجانب الاقتصادي والإداري من خلال تدوينها على العملة المحلية والوثائق الرسمية.
وأكد الأمين العام للمحافظة السامية للأمازيغية، عصاد سي الهاشمي، أن الهيئة التي يشرف عليها تعمل على تعزيز المكتسبات المحققة من أجل ترقية مهمة، وإعادة تأهيل اللغة الأمازيغية في شتى القطاعات، منها إصدار نسخة من الدستور الجزائري باللغة الأمازيغية، إلى جانب اعتماد يناير (كانون الثاني) عيداَ وطنياَ وعطلة مدفوعة الأجر، ما سمح بأن تكون الجزائر أول دولة في منطقة شمال أفريقيا تقدم على هذه الخطوة التي تندرج في إطار تعزيز الهوية بمختلف مكوناتها وإعطاء الثقافة الأمازيغية مكانتها الحقيقية.
واعترفت السلطات الجزائرية في عام 2002 باللغة الأمازيغية كلغة وطنية، ومكون رئيس للهوية الجزائرية، كما تم خلال التعديل الدستوري اعتبار الأمازيغية لغة وطنية رسمية، على أن تلتزم الدولة ترقيتها وتطويرها.