أثار الإعلان الإثيوبي عن محاولة هجوم على سد النهضة، أُقحم السودان فيه، أسئلة بشأن مستقبل العلاقات الإثيوبية السودانية، خصوصاً أن تصريحات وزارة الدفاع الإثيوبية استدعت رداً من السودان له شقان، الأول سياسي بالدعوة إلى التوقف عن ممارسة عدائيات إثيوبية ضد السودان، وكذلك عدم إقحام الخرطوم في مشكلات أديس أبابا الداخلية، والتأكيد أن السودان لن يكون معبراً لمصالح أي طرف خارجي، والثاني عسكري وذلك باحتجاز شحنة أسلحة إثيوبية في السودان، إذ اتهمت الخرطوم أديس أبابا بمحاولة التأثير في الفترة الانتقالية، وتعويق التحول الديمقراطي.
بطبيعة الحال الموقف السوداني من إثيوبيا يعد تحولاً كاملاً عن موقفها قبل عامين فقط، حين قبلت الخرطوم بآبيي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي وسيطاً بين الأطراف السودانية، حين ترك أحمد مبعوثاً شخصياً له بعد زيارة قصيرة للخرطوم، حيث كانت مهمة المبعوث، الذي عمل فترة سفيراً لإثيوبيا بالقاهرة، التوفيق بين قوى الثورة: تحالف الحرية والتغيير والمجلس العسكري السوداني، وهو ما أنتج شعبية كبيرة لآبيي أحمد في الخرطوم تآكلت مع الوقت، ربما بسبب حربه على جزء من شعبه في إقليم تيغراي، وأيضاً موقف أديس أبابا من الأراضي السودانية في مناطق الفشقة، التي حرر السودان جزءاً كبيراً منها في عمل عسكري، فأصبح من الصعب وجود موالاة شعبية سودانية لإثيوبيا كما كان في السابق.
في هذا السياق ربما يكون السؤال الأكثر إلحاحاً ما أسباب تصاعد التوتر بين أديس أبابا والخرطوم؟ وهل يمكن أن يتطور هذا التوتر إلى أعمال عسكرية ربما تكون مخرجاً لأديس أبابا من أزمة داخلية طاحنة؟ وهل من فرص لحرب بين الطرفين؟
أهداف إثيوبية
في تقديرنا أن مسألة الاستخدام الإثيوبي سد النهضة في إعلان عدائي ضد السودان ليس صدفة، ولكن له أهداف إثيوبية غير معلنة، وهي محاولة تحذير السودان من أي تحالف مع تيغراي ضد أديس أبابا في وقت ينجح دبرصيون زعيم إقليم تيغراي في توسيع التحالفات السياسية والعسكرية ضد أديس أبابا، وكان آخرها انضمام جبهة سيداما للتحرر الوطني (أحد شعوب الجنوب الإثيوبي) في الأسبوع الأخير من أغسطس (آب) إلى تحالف تيغراي وجيش تحرير أوروميا OLA، فضلاً عن جزء من العفر، وكذلك قومية القمز في إقليم بني شنقول، الذي هو أراضي سد النهضة، إذ يدير هؤلاء جميعاً في الوقت الحالي حوارات سياسية، لجذب مزيد من القوميات الإثيوبية ضد تحالف آبيي أحمد مع قومية الأمهرة.
الهدف الإثيوبي الثاني هو استباقة، إذ إن اتهام إثيوبيا السودان بتسهيل عبور تيغراي الحدود المشتركة بين البلدين لهو إشارة من طرف خفي إلى إمكانية حدوث ذلك لطرف لم تتم الإشارة إليه أو تسميته، وهو مصر، إذ إن الهواجس الإثيوبية من دعم مصري لحرب بين السودان وإثيوبيا رئيسة في هذه المرحلة، مع إمكانية تسهيل عبور عسكري مصري إلى منطقة شرق السودان لخلق قاعدة ميدانية للمصريين مهددة لإثيوبيا، وذلك على خلفية الضغوط بين كل من أديس أبابا والقاهرة بشأن سد النهضة، وطبيعة الاتفاق حوله، وهو هاجس يتفق على أية حال مع مسارات الذهنية الإثيوبية تاريخياً إزاء مصر سواء بوجود تسهيلات سودانية أو عدم وجودها.
الاتهام الإثيوبي للسودان لا يخلو من هندسة من جانب قومية الأمهرة المتحالفة مع آبيي أحمد، فهي لا تنسى الدور السوداني في صعود تيغراي إلى سدة السلطة الإثيوبية في تسعينيات القرن الماضي، وهو الدور الذي أنهى حكم منغستو هيلا مريام، وبدورها تريد الأمهرة حرباً بين إثيوبيا والسودان لعلها تستطيع أن تستعيد أراضي الفشقة التي حررتها السودان من سيطرتها.
ولعل مؤشر إغلاق المعابر الحدودية بين البلدين (المتمة - القلابات) الذي تم في أبريل (نيسان) الماضي بإرادة سودانية أثار الكثير من القلق، بشأن دخول العلاقات السودانية - الإثيوبية إلى مرحلة شديدة التدهور، إذ يمكن أن تتحول المعابر الحدودية إلى أداة مهمة للغاية في إطار التصعيد المتبادل في المرحلة المقبلة.
أما الهدف الإثيوبي الثالث فيتعلق باستنهاض همم قومية إثيوبية، ترابطت مرحلياً بسبب مشروع سد النهضة، وهي همم مشكوك في تبلورها، خصوصاً مع انهيار الروح المعنوية للجيش الفيدرالي الإثيوبي وعدم نجاح نداء التعبئة العامة الذي أطلقه آبيي أحمد لدعم الجيش الفيدرالي بقوى بشرية جديدة، بعد فقدان قوة تيغراي وانسحاب قوميات أخرى من الجيش الفيدرالي.
التهديدات السودانية
على الصعيد السوداني يمكننا فهم أسباب سرعة الرد وقوته، ذلك أن تصاعد التوتر مع السودان هو مصلحة إثيوبية بامتياز، بينما هو خسارة سودانية بالتأكيد، خصوصاً أن هذا الوضع يمكن أن يتطور إلى حرب فعلية لا يريدها السودان في هذه المرحلة، وذلك مع تأزم الأوضاع الداخلية السودانية إلى حد كبير، ووجود سيولة سياسية كبيرة، فضلاً عن توترات مكتومة بين المكونات العسكرية السودانية، إذ أصبحت التشكيلات العسكرية للحركات المسلحة الموجودة بالخرطوم تشكل تهديداً ربما يكون مرشحاً للتصعيد من حيث القوة والاتساع، طبقاً للتقديرات السودانية التي تعبر عن نفسها على منصات التواصل الاجتماعي أو بعض أعمدة الرأي والمقالات في الصحف السودانية، إذ شهدت منطقة سوبا بالخرطوم أخيراً، تبادلاً كثيفاً لإطلاق النار بين أفراد تابعين لقوات من الحركات المسلحة الموقعة على اتفاقية سلام جوبا، كانوا يقيمون مؤقتاً في المجمع "رهف" التابع للشرطة، والقوات المسلحة وقوات الدعم السريع، وذلك حينما طلب منهم إخلاء لمركز الشرطة، وقد نتج عن العملية بعض الإصابات، وأثار إطلاق النار قدراً كبيراً من الهلع السياسي في فضاء الرأي العام السوداني بشأن فرص كل من الاستقرار السياسي، والتحول الديمقراطي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى صعيد مواز، هناك توترات وأعمال تخريب في بعض مناطق إنتاج البترول السودانية اعترف بها الفريق ياسين إبراهيم ياسين وزير الدفاع، الذي قال إن هذه الأعمال ناتجة عن مطالب للمجتمعات المحلية السودانية في الثروة البترولية بمناطقهم.
وإذا كانت هذه هي التهديدات الداخلية السودانية المستجدة فإن التهديدات التقليدية ما زالت ماثلة في إقليم دارفور، الذي لا يمر شهر من دون وقوع اشتباكات وفقدان ضحايا، وفي سياق مواز فإن هناك تغولاً ديمغرافياً من دول جوار السودان على حسابه، ذلك أن اتساع الوجود السكاني الإثيوبي والإريتري في شرق السودان يعد مهدداً مؤثراً، كما هو الحال في الغرب الذي يعاني من أمرين: تغول تشادي يمتد إلى دول أخرى في غرب أفريقيا، فضلاً عما تشكله الحالة في ليبيا من تهديد للسودان، خصوصاً من مناطق الجنوب الليبية التي تملك أجندات خاصة بها .
ضغوط على أديس أبابا
إجمالاً، يبدو لنا أن انفلات الأوضاع بين إثيوبيا والسودان لهو أمر في غاية الخطورة على مجمل أوضاع المنطقة على المستوى الجيوسياسي، ولعل ذلك ما يدفع عواصم عالمية إلى محاولة ممارسة ضغوط على أديس أبابا بشأن إنهاء الحرب على إقليم تيغراي، كما تنشط مراكز أبحاث أميركية وأوروبية بشأن بلورة مشروعات اتفاق سياسي بين الأطراف المتصارعة في إثيوبيا، ومحاولة إنهاء الحرب على إقليم تيغراي لما لها من أثر يزداد اتساعاً مع الوقت، ذلك أن سعي النخب السياسية الإثيوبية لإعادة تموضع القوميات الإثيوبية طبقاً لمصالح ضيقة وذهنية ثأرية تبلورت تاريخياً، يجعل الإقليم يعيش على لهب النار.
هذه الأوضاع الخطيرة دفعت نحو بلورة ضغوط من جانب الأمم المتحدة على إثيوبيا من قناة ضمان الأمن الغذائي للإقليم ومحاولة تجنب مجاعة، خصوصاً مع رفض أديس أبابا ضمان سيولة المساعدات الإنسانية إلى الإقليم، وهو الأمر الذي شجع أصواتاً غربية حالياً، منها وكالة (بلومبيرغ) على تشريح الموقف الراهن في إثيوبيا، وأشارت إلى ذكريات تجربة إثيوبيا السابقة مع المجاعة في الثمانينيات، حين لقي نحو مليون شخص حتفهم بسبب الجوع وسوء التغذية، كما عقدت مقارنات مع الصراعات الإثنية الكارثية الأخرى في أفريقيا، بما في ذلك الإبادة الجماعية في رواندا. وذلك مع أنماط الدبلوماسية المكوكية والقيود المالية المعتدلة، التي استُخدمت وقتذاك، ويُعاد استخدامها حالياً بلا جدوى.
في هذا السياق اقتُرح تعليق جميع المساعدات غير الضرورية لأديس أبابا، وكذلك منع المساعدة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لإثيوبيا، كما اقتُرح إلغاء الوصول المعفي من الرسوم الجمركية للصادرات الإثيوبية إلى السوق الأميركية بموجب قانون النمو والفرص الأفريقي، فضلاً عن تجميد أي أصول يحتفظ بها المسؤولون الإثيوبيون في الولايات المتحدة، والضغط على الأوروبيين للقيام بإجراءات مماثلة ضد الإثيوبيين.
وقد تكون هذه الضغوط المتوالية على أديس أبابا دافعة إلى حوار سياسي بين آبيي أحمد ودبرصيون زعيم إقليم تيغراي، ينتج صيغاً ومعادلات تضمن استقرار الدولة الإثيوبية والحفاظ عليها، وأيضاً قد لا تكون أمام ذهنية إثيوبية تتميز بتعنت وعنجهية.