منذ بداية مسيرتها الفنية، تمكّنت الأميركية جورجيا أوكيف (1887 ــ 1986) من فرض نفسها في وطنها كأحد روّاد الفن الأميركي الحديث. لكن هذا الإنجاز لم يفتح لها أبواب الشهرة في فرنسا حيث لا تزال غير معروفة كما تستحق. ولتبديد هذا الجهل الجائر في حقّها، ينظّم القائمون على "مركز بومبيدو" (باريس) حالياً أول معرض استعادي لها في فرنسا يتوقف عند جميع مراحل مسيرة تلك التي اختبرت بفنها معظم جماليات القرن الماضي. معرض نشاهد فيه بعض اللوحات ذات المناخات "الكونية" التي استوحتها من سهول ولاية تكساس عام 1910، مختارات من الأعمال التي رصدتها للمشاهد الريفية والمدينية في ولاية نيويورك في العشرينيات والثلاثينيات، ثم لتلك التي أنجزتها داخل أحضان الطبيعة في ولاية نيو مكسيكو، وعدداً من اللوحات التي جعلت منها أحد رواد الرسم التجريدي الذي يُعرَف تحت تسمية "hard edge".
الصالة الأولى من المعرض مكرّسة للعلاقة الحميمة التي ربطت أوكيف بمواطنها المصوّر الكبير ألفرد ستيغليز الذي أسّس "غاليري 291" الشهيرة عام 1905 ونظّم فيها معارض لأبرز وجوه الطلائع الأوروبية منذ 1908. علاقة انطلقت عام 1916، حين أرسلت الفنانة الشابة لستيغليز سلسلة رسوم بالفحم فتنته إلى حدّ عرضه إياها في العام نفسه ضمن معرض جماعي. ولأنه رأى في أوكيف فنانة "تجسّد روح غاليري 291"، لم يتوان عن تنظيم معرض فردي لها كل سنة حتى وفاته عام 1946.
حيوية الفن الجديد
رسوم أوكيف الأولى بالفحم التي عرضها ستيغليز تشهد على ترسّخها داخل تقليد طبعه الأسلوب الطبيعي وحيوية "الفن الجديد" الذي اكتشفته خلال سنوات دراستها في شيكاغو. وفي تلك المرحلة، تأثّرت الفنانة أيضاً بالإيروسية الحاضرة في مائيات أوغست رودان، وبالحصيلة الشكلية والميول التجريدية في أعمال أرثر دوف. أما الرسوم المائية التي أنجزتها في تكساس، حيث درّست الفن بين عاميّ 1912 و1918، واستوحتها من حركة النجوم والأقمار وفضاءات الكون اللامتناهية، فتستحضر الحلولية التي تميّز الأعمال المشهدية لمواطنيها فريديريك إدفين شورش وألبرت بيرستاد، وأيضاً نزعة الارتقاء في كتابات الشاعر والفيلسوف رالف إيميرسون.
في الصالة الثانية، يتبيّن لنا كيف أن اكتشاف أوكيف عام 1911 ترجمة لمقتطفات من كتاب كاندينسكي "روحانية في الفن"، جعلها تستخلص دربين للفن الحديث: درب بيكاسو التكعيبي الذي يقود إلى إنكار الواقع وتجاوزه عبر تحليله بأدوات التشكيل، ودرب ماتيس التلويني الذي رأى كاندينسكي فيه التعبير الصافي عن الحياة وروح الأشياء والعالم. وبأشكالها العضوية، تبيّن اللوحات التي أنجزتها الفنانة آنذاك أنها حسمت خيارها لصالح فن يرتبط بشكل محسوس بالعالم وموارده الرمزية. أعمال لم تخطئ الناقدة التي اكتشفتها عام 1923 برؤية فيها فن "نسائي بشكل مجيد". وحين كانت أوكيف تُسأل عن الجانب "التجريدي" فيها، كانت تجيب دائماً بأن فصل النقاد التجريد عن الواقعية لطالما شكّل مفاجأة لها، فالتجريد لم يكن بالنسبة إليها سوى وسيلة، ثمرة ابتعاد عن مصادرها الشكلية وترسيبها. وكانت تضيف: "أبداً لن يكون الرسم الواقعي جيداً إذا لم يكن ناجحاً من وجهة نظر مجرّدة".
في الصالة الثالثة، نشاهد اللوحات التي أنجزتها أوكيف انطلاقاً من عام 1920 في بلدة لايك جورج الريفية وجسّدت فيها حركة الغيوم والماء وأوراق الشجر، وتلك التي رصدتها لناطحات السحاب في نيويورك التي كانت تتأملها من نوافذ فندق "شلتون" حيث استقرّت مع ستيغليز بعد زواجها منه عام 1924. أعمال تشهد على اهتمامها بفناني "غاليري 291"، بالأسلوب الطبيعي لأرثر دوف وجون مارين، وبالأشكال الخطوطية والمسطّحات الموحّدة التي طبعت مشهد أميركا الصناعية والمدينية آنذاك. أما مخازن الحبوب التي رسمتها في لايك جورج فصالحت فيها ذكريات طفولتها مع الأشكال البلورية التي ورثتها من التكعيبية والغالية على قلب الرسامين شارل ديموث وشارل شيلر. ولأنها حافظت على افتتانها المبكر بمشهد الكون، تحضر ناطحات سحاب نيويورك في أعمالها على شكل وديان شاهقة الارتفاع تحت القبة السماوية أو كائنات حجرية عملاقة تلتهمها أشعة الشمس أو يحوّلها ضوء القمر إلى ظلال.
الصالة الرابعة مرصودة للزهور التي انطلقت أوكيف في رسمها منذ 1919، قبل أن تبلور مقاربة شخصية لها إثر زيارتها محترف شارل ديموث عام 1923 ومشاهدتها الزهور التي كان يرسمها منذ عقدين. مقاربة تقوم على إخضاع زهورها إلى رؤية مقرّبة استوحتها من تقنية "blow up" (تكبير) الفوتوغرافية التي كان يمارسها جيل جديد من المصوّرين، مثل بول ستراند وإدوارد وستون وأنسيل أدامس. ومع أنها أقرّت في البداية بمعالجتها في هذه الأعمال "مشاعر أنثوية بشكل أساسي"، لكنها ما لبثت أن انتقدت بشدّة القراءة "الإيروسية" لها التي اعتمدها النقاد.
دورات الحياة
في الصالة الخامسة، يتضح لنا أن الحياة، في حركتها ودوراتها، هي موضوع لوحات أوكيف الأول، وربما الوحيد. فنمو نبتة أو تفتّح زهرة يعبّران عن الحيّ، بالنسبة إليها، بقدر الشكل اللولبي لصدفة بزّاقة ميتة أو العظام البيضاء لبقرة. ولقول دورة الحياة، شرّكت الفنانة داخل لوحة واحدة ورقة شجر وصدَفة أو جمجمة وزهرة. وديمومة هذه الدورة الحيوية حدست بها في نيو مكسيكو: "جلبتُ معي عظام ابيضّت تحت أشعة الشمس وجعلتُ منها رموزي للصحراء (...). عظام تبدو وكأنها نُحِتت في قلب ما هو عميق الحياة في الصحراء". وعام 1943، رسمت للمرة الأولى عظمة حوض عثرت عليها خلال إحدى جولاتها في الصحراء. ومع أن هذه العظمة ليست استعارة مباشرة لزمن الحرب، فإن السماء التي نلمحها في تجويفتها ستصبح بالنسبة إليها "تلك الزرقة التي ستدوم أبداً كما هي الآن، بعد أن يفرغ البشر من تقاتلهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ورُصدت الصالة السادسة لافتتان أوكيف بطبيعة نيو مكسيكو إلى حد استقرارها نهائياً في مزرعة داخل هذه الولاية، عام 1929. طبيعة استلهمت الفنانة مناظرها الخلابة وأنسنت أشكالها فجعلت من آثارها الجيولوجية طيّات جلدٍ أو تجاعيد بشرة، ومن تضاريسها تفاصيل جسدية. وحولها كتبت: "طيبة هذه الأرض ورقّة تلالها تجعلني أرغب في نزع ثيابي والتمدد في أحضانها". وستدفعها مشاعرها المتّقدة تجاه هذه الطبيعة إلى تبنّي في لوحاتها ألوان كان يمليها عليها مزاجها. هكذا أصبحت لوحة "المكان الأسوَد" ــ وهو الاسم الذي منحته أوكيف لأحد مناظرها القمرية القاحلة المفضّلة ــ انعكاساً لمآسي الحرب العالمية الثانية. وفي لوحات أخرى عديدة، اتخذت كنموذج دمى "كاشينا" التي يستخدمها هنود الـ "هوبي" لتلقين أطفالهم أساطيرهم.
أما في الصالة الأخيرة من المعرض، فيتبيّن لنا كيف عمدت أوكيف انطلاقاً من الخمسينيات وحتى وفاتها إلى تبسيط رسمها، فدفعت بعملها التشكيلي نحو حصيلة شكلية مصفّاة تضع فنّها في حالة تناغم مع أبحاث الجيل الجديد من فناني وطنها. ويترجم التجريد الذي أخضعت نماذجها وأشكالها له روحانية عميقة والمشاعر الصوفية التي كانت تعتريها. فافتتانها بباب باحة منزلها، على سبيل المثال، أوحى لها بلوحات اختصرت فيها تأملاتها في النور والظل، وفي علاقات الفارغ بالممتلئ، التي لطالما غذّت فنّها. وما شاهدته من علو شاهق خلال أسفارها الكثيرة بالطائرة أسقطته داخل أعمال تحضر فيها أنهار على شكل أغصان شجر أو قرون حيوانات، وغيوم تصالح الأرض والسماء.