تتنهد أم أيمن أثناء وداع فلذة كبدها أمام سيارة أجرة تقله صوب مطار دمشق، وتتبعثر معها كلمات الدعاء له بالسلامة في بوح لا يخلو من صخب يعلو صوتها المرتجف، وتقطعه دموع انهمرت بسخاء على وجنتي امرأة سورية مسنة قاست مآسي الحرب وويلاتها.
وجهة الفتى اليافع نحو بلد لطالما استقبل مئات الألوف من السوريين برحابة صدر، كغيره من بلدان الجوار لم يكن بأي حال خياره، بل أتى بشكل مفاجئ وبقرار من صاحب ورشة كبيرة في حرفة الخياطة والتطريز، يعمل فيها وقرر نقل أعماله نحو القاهرة بعدما نفض يديه من نجاح مشروعه الناشئ في وطنه.
الاستثمار الغائب وطريق الهجرة
وفي بلد مثل سوريا ما زال يواجه تخبطات الشأن الاقتصادي وتداعيات الحرب وانعكاساتها، يرافقها انخفاض في قيمة الليرة التي بلغ 3500 منها دولار واحد، والعقوبات الأوروبية والأميركية، وأبرزها قانون قيصر، علاوة على تكبده حوالى 442.2 مليار دولار كقيمة للدمار اللاحق برأس المال المادي.
ويصف الاقتصاديون بيئة العمل المحلية بالطاردة للاستثمارات، فلم يطرأ أي تحسن على الرغم من مرور ما يقارب ثلاث سنوات مذ شهدت البلاد استقراراً شبه تام بمدن رئيسة تشتهر بالصناعة والتجارة مثل ريف العاصمة دمشق جنوباً أو حلب شمالاً، في وقت يبلغ تعداد السوريين حوالى نصف مليون سوري في مصر، وتعد اليوم من أكبر الجاليات السورية في المنطقة.
وتلملم بعض الآلات الثقيلة نفسها رويداً لتنسل إلى خارج الجغرافيا السورية، علها تحظى برعاية وتشجيع فقدته، وبحسب ما أورد رجل الأعمال باسم برصوم عن نية شركاء له في منشأة للصناعات النسيجية الهجرة نحو القاهرة، وأن الفكرة أشبعت بالدراسة وباتت قاب قوسين من التنفيذ، يشجعهم في اتخاذ قرارهم هذا وفرة الآلات واليد العاملة، يقول، "إلى متى سنبقى ننادي بإيجاد مظلة قانونية لواقع المدن الصناعية المنكوبة نتيجة الحرب، لقد تأذينا كثيراً وخسرنا رؤوس أموالنا، ومع ذلك عدنا لافتتاح مصانعنا، إلا أن الضرائب باتت لا تطاق والحال من سيء إلى أسوأ، ونتكبد خسائر فادحة نتيجة عدم توفر المواد المشغلة لمنشآتنا".
ولا يتوقف الأمر عند ذلك، فكثير من أصحاب الماكينات الثقيلة يفكرون بشكل جدي في انتهاز فرصة موسم الهجرة اليوم إلى بلد محدد بعينه وهو مصر، والسر في ذلك القوانين المشجعة على الاستثمار في مقابل معاناة الصناعيين من عدم توفر الكهرباء وانقطاعها المستمر، إضافة إلى شح المازوت وتشديد القوانين بالتعامل بالعملة الأجنبية، وارتفاع أجور كلف النقل وشحن البضائع ونقص الخدمات، ناهيك عن الأخطار الأمنية التي تواجه أصحاب رؤوس الأموال.
خريطة توزع الاستثمار
من جانبه، يعلق خبير الاقتصاد السوري رضوان مبيض عن قدرة الاقتصادي السوري على الولوج بالاستثمار في مصر مع توفر بيئة مساعدة ومشجعة، فالمستثمر السوري يعامل معاملة نظيره المصري عند تأسيس شركته، وفق تراخيص نظامية معتمدة من هيئة الاستثمار.
ويمنح الخبير الاقتصادي نصيحة بضرورة درس السوق الاقتصادية جيداً لأي صناعي يُقدم على افتتاح مشروعه الاستثماري، ومعرفة الرائج منها، ودرس بيئة المكان من الناحية الطبيعية والنفسية، فعلى سبيل المثال، بحسب مبيض، أغلقت ورش لصناعة الصوف في القاهرة خرجت من مدينة حلب وهاجرت مع اندلاع الحرب لأنها لم تلق رواجاً.
وعلى الرغم من النجاح المبهر الذي حققه معظم المستثمرين السوريين في أعمالهم، لكن من الأهمية بمكان اختيار الاستثمار الناجح والذي في معظمه يتركز في شركات التطوير العقارية، أو المنشآت الصناعية النسيجية وغيرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتقد الخبير أن ما جعل مصر وجهة لنزوح الاستثمار السوري اليوم "المعاملة المنصفة التي لا تفرق بين الصناعي والمستثمر المحلي والأجنبي، من دون الدخول في وطأة القرارات الصارمة أو التعسفية".
الاستثمار السوري في مصر أو في أي دولة من دول الجوار يشكل ما نسبته 20 في المئة، وبالتأكيد ستعود الاستثمارات مع الاستقرار الأمني وتوقف الاضطرابات التي عمت البلاد قبل عقد من الزمن، إضافة إلى استثمارات سورية تعمل حتى قبل الحرب.
في المقابل، زاد مجموع الاستثمارات السورية بما يقارب 23 مليار دولار أميركي وفق تقارير أممية، إذ كانت في مارس (آذار) 2011 قرابة 800 مليون دولار بمعدل 30 ألف مستثمر، وفق بيانات لصندوق الأمم المتحدة الإنمائي.
الاستثمار الناجح في البلاد الجديدة
إزاء ذلك تحافظ شخصيات سورية على مكانتها من أصحاب الماكينات الضخمة والثقيلة، مثل رجل الأعمال الشهير محمد كامل شرباتي، صاحب أكبر معمل للجينز في المنطقة، وأطلق عليه "ملك الجينز" إذ نقل منشآته قبل الحرب الأخيرة 2011، واشتهر كذلك رجال أعمال آخرون حققوا نجاحات باهرة في قطاع الأعمال والريادة.
ولم يتوقف نجاح رجال الأعمال عند حدود الصناعات الكبيرة مثل النسيج أو التعدين وغيرها، بل في نجاح باهر بإنشاء مشاريع صغيرة ومتوسطة، لاقت استحساناً ودعماً من الشعب المصري وحكومته، وتنوعت بين افتتاح مطاعم ومنشآت سياحية، وراجت معها المأكولات الشعبية الشامية والحلبية، وبات الاستثمار في المطبخ الأقرب والأسرع بين السوريين الوافدين.
وفي هذا الإطار يروي الأمين العام لجمعية الصداقة المصرية - السورية، طلال عطار وأحد المستثمرين بمشروع سياحي في القاهرة، حال التآخي في هذا البلد التي دونها لن تتكلل إنجازات السوريين بالنجاح، "ليس غريباً الحديث عن الهجرة إلى مصر وأن تكون قبلة للمستثمرين والشباب، فالمتابع سيلاحظ تسهيلات جمة حكومية مع بيئة شعبية التفت حول السوري ودعمته في أحلك ظروفه".
من جانبها، تبث هيئة الاستثمار السورية تفاؤلاً مشوباً بالحذر من المبالغة فيه، وتقر بما تواجهه من صعوبات محلية ودولية من الجانب السياسي والاقتصادي، وأوردت عبر تقرير لها عام 2021 عن عملها في رفد مجموعة استثمارات نوعية في أغلب القطاعات، إلا أنها ضمن مشاريع متنوعة في قطاعات الزراعة وتربية الحيوان والطاقات المتجددة والنقل لتلبية حاجات السوق المحلية، من دون التوقف عن برامج الإصلاح الحكومي لتشكيل بيئة جاذبة للاستثمار.
الشباب والصناعة
وتشهد سوريا في هذه الأثناء إقبالاً غير مسبوق ومتزايداً على السفر من الشباب لأسباب عدة، مثل عزوفهم عن الالتحاق بالخدمة الإجبارية في الجيش أو سعياً إلى كسب مصدر رزق يحقق لهم حياة كريمة، بالتزامن مع تسهيلات جديدة من المصريين كان جلها خفض قيمة تأشيرات الدخول التي لا تتجاوز الـ 500 دولار.
وعلى الرغم من مؤشرات اقتصادية واجتماعية تنذر بخطر نزف الهجرة غير المندملة، والتي تشكل خسارة للموارد البشرية المؤهلة والعلمية لدول العالم، وخطراً داهماً يزداد مع مرور الوقت، زاد المشهد الاقتصادي بالمقابل قتامة بما أفرزته هجرة الاستثمارات أخيراً ومعها هجرة الشباب التي ستفقد المنشآت الصناعية الأيدي العاملة المؤهلة والمشغلة لها.
ورسمت الهجرة الواسعة من قبل أصحاب المصانع مشهداً مظلماً لمستقبل مجهول، في وقت قرع رئيس قطاع النسيج بغرفة صناعة دمشق، مهند دعدوش خطر هجرة الصناعيين لمصر في ظل عدم توفير الحكومة الطاقة الكهربائية والمحروقات المشغلة للآلات، بعدما شكلت كلفتها ارتفاعاً في فاتورة الإنتاج لا طاقة للصناعي السوري على تحملها.
ووصف عضو مجلس إدارة غرفة الصناعة في حديث له لإذاعة محلية، الهجرة الخيالية من الصناعيين نحو مصر "الذين لا يمكن تعويضهم نتيجة الصعوبات التي يعانونها، وعدم امتلاك المواطن الدخل المناسب للشراء وتصريف المنتجات".
وانخفضت القدرة الشرائية للسوريين بشكل كبير بعد تهاوي الليرة إلى حدود غير مسبوقة وصلت نحو 5 آلاف للدولار الواحد، لتعاود التحسن الطفيف مع تدني الطلب على منتجات محلية وشحها في الأسواق، وتوقف استيراد المواد الأولية، بحكم قوانين حصار صارمة قوضت التحويلات والتعاملات المالية، وأضعفت معها حركة البيع والشراء والتبادلات التجارية.