المتتبع للوضع العام في الجزائر لا يلمس أن البلاد مقبلة على انتخابات محلية... فتور حزبي وتجاهل شعبي هو الوصف الذي يمكن إطلاقه على المشهد السياسي، ما يطرح عديد التساؤلات حول "الطلاق السياسي" المسجل من دون سابق إنذار.
مشهد "متوقف"
وعلى الرغم من التعديلات التي أقدمت على إدخالها السلطات المعنية في ما يتعلق بقانون الانتخابات، والتعبئة المعتمدة من طرف الحكومة من أجل إنجاح الموعد، إلا أن المشهد "متوقف" كأنه ينتظر من يحركه سياسياً على الرغم من أنه نشيط اجتماعياً، ولعل خروج رئيس مجلس الدستور كمال فنيش، بتصريحات يقول فيها، إن "الانتخابات المحلية المقرر تنظيمها في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، تشكل باعثاً لإعادة الإقلاع الاقتصادي، دليل على فشل السياسيين في تنشيط الشارع، وبات المجالان الاقتصادي والاجتماعي وحدهما من تراهن عليهما الحكومة لدفع المواطنين للالتفات إلى الانتخابات البلدية".
وأكد فنيش، أن هذه الانتخابات المحلية تحمل كثيراً من الأهمية لكون البلديات أفضل هيئة لتحقيق التنمية، مضيفاً أن البلدية تعلم احتياجات المواطن وانشغالاته، وهي بذلك الأجدر للعب دور القاطرة في تجسيد التنمية الاقتصادية المحلية التي تعد من أبرز التزامات الرئيس عبد المجيد تبون وإحدى ركائز الجزائر الجديدة.
وضع اجتماعي صعب؟
يعيش المواطن يوميات صعبة جراء عدة مشكلات تعترضه، من تدهور القدرة الشرائية جراء ارتفاع أسعار المواد الواسعة الاستهلاك إلى البطالة، وندرة بعض المواد، وتدني الأجور وغيرها، الأمر الذي جعل النشاط السياسي آخر اهتماماته، بل على العكس بات لا يلتفت إلى كل ما يرمز للسياسة في "طلاق" يبدو أنه بلا رجعة.
ولعل تصاعد منحى الهجرة غير الشرعية عبر القوارب نحو إسبانيا وإيطاليا، دليل على تراجع الأوضاع الاجتماعية في البلاد، وهوما أشار إليه رئيس جمعية الشباب الجزائري المهاجر في إسبانيا، صندوق محمد الأمين، في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، بالقول إن السلطة تتحمل المسؤولية الأكبر في ما يقع في البلاد، ليس ما يتعلق بتصاعد منحى الهجرة غير الشرعية، وإنما كل المشكلات التي يعانيها المواطن، مبرزاً أن دائرة الفقر والجهل، والظلم في توسع، مع غياب الأمن النفسي والفردي والجماعي، وغلاء المعيشة وتفشي البطالة وتدهور الصحة، وبات المجتمع تحكمه الرشوة والمحسوبية، وشدد على أن سوء التسيير أنتج مشكلات يدفع ثمنها المواطن البسيط، وقد مست بسمعة وصورة البلاد.
اختلال اقتصادي واجتماعي
ولقد باتت الاختلالات في توازن المنظومتين الاقتصادية والاجتماعية ظاهرة للعيان، سواء على مستوى الأرقام أو الحياة اليومية للمواطنين، أو النشاط التجاري والاقتصادي، من ارتفاع الأسعار إلى تصاعد معدل التضخم موازاة مع تراجع قيمة العملة المحلية، الوضع الذي استدعى تدخل الحكومة بعيداً عن "الشعبوية" التي تنادي برفع الأجور من دون وجود نظير لها في مجال الإنتاج الاقتصادي، وهو ما قد يؤدي في حال اعتمادها إلى انحراف تضخمي بزيادة أعلى من 20 في المئة، ما ينعكس سلباً على الفئات الأكثر حرماناً، لا سيما أن التجارب السابقة أثبتت فشلها حين لجأت إلى إجراءات ترقيعية مبنية على الريع البترولي من أجل تهدئة الطبقة الاجتماعية، إذ تمثل التحويلات الاجتماعية 23.7 في المئة من الميزانية العامة للدولة، و9.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لـ2021.
فتور حزبي مريب
وإذا كان "طلاق" المواطنين للسياسة عامة والانتخابات المحلية بخاصة مفهوماً، يبقى الفتور الحزبي يثير عدة استفهامات، خصوصاً بعد إعلان حزب العمال سحب قرار مشاركته في الانتخابات المقبلة، بسبب "الظروف غير المواتية للاندفاع نحو مشاركة جدية في الانتخابات المحلية، وتفاقم وانتشار البؤس بين الشرائح الواسعة، في حين الطبقة المتوسطة تغرق كل يوم أكثر فأكثر في الفقر نتيجة الانهيار غير المسبوق والمستمر للقدرة الشرائية".
وليس حزب العمال وحده من أعلن المقاطعة، بل هو الثاني بعد "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية"، الذي أرجع رفض المشاركة إلى "الظروف غير المناسبة التي استدعى فيها الرئيس عبد المجيد تبون الهيئة الناخبة لإجراء الانتخابات المحلية، وغياب شروط المنافسة الانتخابية الحرة والشفافة، وبطلان النظام الانتخابي الصادر بمرسوم رئاسي، لعدم عرضه على غرفتي البرلمان للمصادقة عليه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي ذات السياق، يعتبر القيادي في حزب "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" مراد بياتور أن ظهور رئيس الهيئة المستقلة للانتخابات للإعلان عن انتخابات بلدية مسبقة، جاء عكس توقعات الشعب الذي كان ينتظر حديثاً عن تأخير إجرائها للتفرغ لمواجهة الأزمة الصحية، مضيفاً أن الأحزاب السياسية لم تجد لنفسها مخرجاً سوى المطالبة بتعديل قانون البلدية لدخول غمار المحليات وتقاسم المناصب لتجديد الفشل، وقال إنه لا أحد ينظر في جوهر القوانين بل هي أدوات تصادق على كل مخرجات السلطة، مشدداً أنه "نحن كحزب سياسي مسؤول، نرى أن الحل لا يكمن في تغيير قانون الجماعات المحلية بل في تغيير المنظومة".
14 تشكيلة سياسية تشكو إلى الرئيس
وما يؤكد "التوتر" الحزبي إزاء الانتخابات المحلية، مطالبة 14 حزباً سياسياً منذ 4 أيام، الرئيس تبون، بالإسراع في حل المجالس البلدية الحالية لمنع استغلالها من قبل التشكيلات التي تسطير عليها، وبإجراء تعديل عاجل في القانون الانتخابي لخفض سقف التوقيعات المطلوبة، وقالوا في رسالة إلى الرئيس، "نطالب بتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين المترشحين والأحزاب".
وشكت الأحزاب السياسية الـ14 إلى الرئيس تبون، عجز السلطة المستقلة "التي لم تتمكن من توفير ملفات الترشح واستمارات التوقيعات في عدد كبير من المحافظات، وتأخر تسخير الأعوان المكلفين التوقيع على استمارات الاكتتاب"، داعين إلى تمديد آجال إيداع الاستمارات، وطالبوا بلقاء عاجل مع رئيس سلطة الانتخابات، محمد شرفي.
وأكدت هذه الأحزاب أنها واجهت، منذ الإعلان عن إجراء الانتخابات المحلية، صعوبات وعوائق قانونية وإجرائية تحول دون تحقيق رغبة مشتركة لها في إنجاح هذا الاستحقاق الانتخابي، والإسهام في استكمال المسار المؤسساتي، وضمان مشاركة شعبية قوية في مقابل حالة العزوف التي شهدتها الاستحقاقات السابقة، واقترحت على تبون إقرار سقف وطني للتوقيعات عبر تعديل القانون الانتخابي.
محصلة منتظرة لهياكل فارغة
إلى ذلك، يعتبر أستاذ الحقوق عابد نعمان أن الفتور الحزبي هو محصلة منتظرة بعدما أصبحت هياكل شكلية مفرغة من العامل البشري المعروف بمصطلح مناضل، وهو ما أدى إلى فشلها الذريع في التعامل مع واقع ما بعد الحراك، مشيراً إلى أن نتائج الانتخابات البرلمانية أفرزت منتوجاً انتخابياً زاد من اتساع الهوة بين المواطن والحزب وعزز من نظرية "لا انخراط "، ما جعل الأحزاب تشبه الإنسان فاقد الوعي والبوصلة وكأنه تجاوزه الزمن، و"في نظري هو عقاب شعبي".
ويتابع نعمان، أن بحث الحزب عن ممثليه خارج هياكله هو مؤشر شبيه بالرسوب المدرسي، ويوحي إلى العجز في تكوين منخرطيه ليصبحوا مناضلين، ومع ذلك تجد الحزب يتفنن في تغطية الفشل بمقولة أن الحزب يدعم أبناء الشعب في الترشح، ونسي أنه أصبح من ممثل سياسي للمواطن إلى "سمسار" سياسي، وهي الحال التي أفقدت المواطن الاحساس بالأمان والثقة، وواصل أنه حتى المدارس السياسية التقليدية التي كانت تزخر بسياسييها، أصبحت هي كذلك تلجأ لاستيراد الوجوه، وهذا يعني أن المدرسة السياسية تم غلقها وفتح مكتب السمسار السياسي.
اتساع هوة عدم الثقة اجتماعياً وأحزاب عقيمة سياسياً
من جانبه، يلخص الإعلامي المهتم بالشأن السياسي، محمد لهوازي، في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، أن الوضع الاجتماعي العام الذي تعيشه الجزائر له تأثير مباشر على الفتور السياسي الذي أدى إلى تجاهل شعبي للعملية الانتخابية ككل، مضيفاً أن البلاد تعرف أزمة اجتماعية تتعلق بارتفاع الأسعار وتدهور القدرة الشرائية إلى مستويات تنذر بالخطر، ما دفع المواطن إلى الاهتمام بشكل أكبر في كيفية تأمين حاجياته اليومية دون الخوض في السياسة كثيراً، وقال إن النقطة الأساسية هي اتساع هوة عدم الثقة بين المواطن والسلطة بسبب عجز هذه الأخيرة عن ضمان الشروط الأساسية للعيش الكريم، وبقاء الوعود التي تم إطلاقها لتحسين الإطار المعيشي مجرد حبر على ورق، ومن شأن ذلك أن يؤثر بشكل كبير على نسبة المشاركة في الاستحقاق الانتخابي المقبل.
أما في ما يتعلق بأداء الأحزاب في المشهد السياسي الحالي، يرى لهوزاي، أنه شبه منعدم بسبب عدة عوامل منها أن الأحزاب السياسية باتت عقيمة عن إنتاج برامج ذات فاعلية، وإن وجدت فلن تأخذ طريقها إلى التطبيق نظراً لمركزية القرار، إضافة إلى تراجع شعبية التشكيلات بسبب ممارسات سابقة تتعلق بتورط بعض قياداتها في قضايا فساد.