"الفاتورة العالية" دفعت كثيراً من اللبنانيين إلى هجرة الكافيهات العصرية، والعودة إلى أحضان المقاهي الشعبية. فقد استعادت تلك المقاهي عمر الشباب بعد أن كانت تعد من "الزمن السابق"، وتحتضن روتين كبار السن وأصحاب المهن، وذلك بسبب ارتفاع الأسعار الملحوظ الذي تخطى ثلاثة أضعاف.
وعادت الحياة إلى المقاهي عقب تضاعف شريحة زبائنها، لتفتح أبوابها أمام الشبان والعائلات، إذ يشكل الفرق اللافت في الأسعار عاملاً جاذباً، بالإضافة إلى العقود الحجرية والديكور المزركش (الأرابيسك) الذي بات يحن إليه رواد المقاهي، فيما فضل كثيرون التوجه نحو مقاهي السوق والحارة، أو حتى إلى أماكن أكثر هدوءاً نحو شواطئ البحر أو أحضان الطبيعة وحتى وأسطح المباني لخطف القليل من لحظات الاستجمام "منخفضة التكلفة".
فواتير مبالغ فيها
لم تعد المقاهي العصرية الخيار الصائب بالنسبة لأبناء الطبقة الوسطى في لبنان، بعد أن ضاقت بهم الظروف، فيما تستمر في استقبال زبائنها من الطبقات الميسورة والمغتربين، إلى جانب الفئات التي تتلقى حوالات بالدولار الفريش، بعد أن أصبحت تكلفة جلسة أرغيلة لأربعة أشخاص، تساوي الحد الأدنى الرسمي للأجور. وتعبيراً عن صدمته بالأسعار، يقول أحد الزبائن، "دخلت إلى مقهى في الشمال، فوجدت ثمن كوب العصير الفريش ازداد من 18 ألف ليرة، إلى 40 ألفاً خلال ثلاثة أيام، أي أكثر من الضعف. هذه الزيادة كانت على سائر السلع، فثمن البرغر كذلك تجاوز الـ140 ألفاً". وعند سؤال مدير الصالة عن سبب هذ الارتفاع "الصاعق"، كانت الإجابة بأن "المازوت أصبح بالدولار".
واحة طرابلسية طبيعية
ويُعد مقهى شهير في طرابلس نموذجاً للمقاهي الشعبية التي تحتضن مختلف شرائح المجتمع الطرابلسي خصوصاً، واللبناني عموماً، إذ تشكل البيئة المفضلة للطبقة المثقفة، أرباب المهن، والأساتذة، وكذلك العائلات، وأخيراً بدأت باستقطاب أعداد متزايدة من الشبان والمراهقين. ونرى الطلاب يتحلقون حول الطاولات للدرس والمراجعة ببيئة هادئة، كذلك تستقطب النقاشات الفكرية المجردة والعملية. كما أنها الوجهة المفضلة للباحثين عن الاستجمام والراحة، ويعد المقهى إحدى الواحات الخضراء الأخيرة في المدينة التي تحيطها الحواجز الخرسانية. في مقهى آخر، تصدح أصوات الطرب الكلاسيكي والشعبي، وتحضر ألعاب الورق والزهر، وتتنافس السيدات بالظفر في البرجيس، وكذلك قضايا الأسرة والمجتمع.
حافظ هذا المقهى الشعبي، حتى اللحظة، على أسعاره المنخفضة، وليس من قبيل المبالغة القول إن "عشرة آلاف ليرة" ما زالت تحكي هنا، ويصر أصحابها على الحفاظ عليها كجزء من الذاكرة الطرابلسية، فهي شاهدة على تاريخ المدينة وأهلها بحكم موقعها الاستراتيجي في الوسط التجاري والسياسي، والمشرف على القصر البلدي.
مقهى المئة عام
وفي وسط ساحة المدينة، تصطف المقاهي التي تدمج بين الأجواء التراثية والحضارية. وقد نجح خضر شعراني، المستثمر الجديد لأحد المقاهي في إعادة الحياة إلى أحد أعرق المقاهي الطرابلسية، واستفاد من موقع المقهى لاستقطاب الطبقة المتوسطة وعامة الناس، وزوار السوق الشعبية.
ويمتاز المقهى بطابعه العمراني القديم، وبعقوده الحجرية المكتملة، والبلور الملون الذي يغطي النوافد، بالإضافة إلى المقاعد الخشبية والقماش المزركش "الأرابيسك".
ويجتذب شرائح مختلفة من الناس، ويبدو واضحاً للعيان حضور عشاق "التنبك الأصفهاني"، بالإضافة إلى هواة لعب الورق، ومحبي الدراجات النارية، بفعل وجود مجموعة منها في البهو الكبير. هذا المزيج، يشكل إضافة بالنسبة إلى السياح الأجانب الذين يختبرون الجو الشرقي بنكهته اللبنانية.
مقهى سوق حراج
وفي أقدم الأسواق التجارية في طرابلس، بين محلتي الملاحة والدباغة، يلفت المارة أحد المقاهي الشعبية التي تستقطب الزوار الأجانب بفعل وجوده داخل المدينة المملوكية. وقد حافظ على طابعه الأثري، إذ يقع في باحة واسعة يتوسطها عمودان من الغرانيت الفرعوني.
ويدير الدليل السياحي سامر عبدالحي هذا المقهى، مؤكداً أنه "كان أول مقهى واستراحة في الأسواق القديمة في المدينة كلها"، مضيفاً أنه "لقي إعجاب الزبائن، لا سيما الأجانب الذين كانوا يجولون في الأسواق النهار كله، ولا يحظون بمكان ليستريحوا فيه".
ويمتاز هذا المقهى بسقفه الحجري، والمقتنيات التراثية كـ"الطربوش"، والخيزرانة، والكرسي الهزاز، والراديو القديم، وغيرها من المفروشات التي تزكي الذكريات القديمة، ناهيك بمقاعد الخيزران، وتلك التي تؤكد على الهوية العربية. ومن اللافت تخصيصه مقاعد على أسماء كبار نجوم الفن في العالم العربي، من أم كلثوم، وفيروز، إلى صباح فخري، ورشدي أباظة، وفريد الأطرش.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأعباء كبيرة على المقاهي
ويلفت مجد نابلسي، صاحب مقهى شعبي في منطقة السرايا العتيقة، إلى ازدياد الأعباء على أصحاب المقاهي، لأنهم مضطرون للحفاظ على هامش ضيق من الأرباح. كما أن الزبائن في تلك الأحياء هم من محدودي الدخل، ولا يمكنهم دفع المبالغ المرتفعة مقارنةً برواد المقاهي الفارهة، لافتاً إلى أكثرية السلع التي تعتمد عليها المقاهي، فعلى سبيل المثال كان ثمن كيلو البن يتراوح بين 10 و15 ألف ليرة، أما اليوم فأصبح 130 ألفاً، وهو في اتجاه صعودي. ويشدد على الأجواء والخدمات التي تقدمها المقاهي الشعبية، حيث يشعر الزبون بأنه على طبيعته وحريته، موضحاً، "التباين الفاحش في الأسعار بين المقاهي الشعبية والـResto cafe دفع شريحة كبيرة من الناس إلى التوجه نحوها"، مشيراً إلى دور أساسي تلعبه تكلفة الأرغيلة في رفع جاذبية المقاهي الشعبية، لأن "تكلفة إعدادها في البيت أعلى من ثمنها في المقهى الشعبي، باعتبار أن سعرها يتفاوت بين 10 و15 ألفاً، كما أن ثمن الأرغيلة في الكافيهات الكبرى يشكل 5 أضعاف في حدها الأدنى".
ولاحظ النابلسي ارتياد أبناء الطبقة الوسطى والدخل المحدود للمقاهي الشعبية ومناطق الأسواق. كما يتحدث عن اضطرار أصحاب المقاهي الشعبية لاتخاذ خطوات متزنة من أجل الحفاظ على زبائنها، وتقديم الخدمات بسعر مقبول بشكل "يغطي زيادة تكاليف الغاز الذي أصبح 230 ألف ليرة جرة 10 كيلوغرامات، واشتراك المولد 3 ملايين ونصف المليون، والإنترنت، وأسعار السلع المستخدمة وغيرها".
تحاول المقاهي الشعبية الصمود في وجه الأزمة الاقتصادية، فهي تؤمن بأنها تقدم فسحة راحة لأصحاب الدخل المحدود، كما أنها تشكل جزءاً من الروتين اليومي لزبائنها ومرتاديها.