منذ الصباح بدا الوضع مريباً في بيروت، فأثناء توجُهنا إلى ساحة قصر العدل لمواكبة التظاهرة التي دعا إليها "الثنائي الشيعي" ("حزب الله" و"حركة أمل") اعتراضاً على إجراءات المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار، كانت مجموعات منظمة يقدر عديد كل منها بحوالى 20 شاباً يرتدون زياً أسود موحداً منتشرين على التقاطعات الفرعية للشوارع المحيطة بمنطقة "المتحف" غرب العاصمة. هذا المشهد أعطى انطباعاً واضحاً أن يوماً أسود ينتظر اللبنانيين وأن التظاهرة المعلنة ليست سوى غطاء لتحرك أمني واسع النطاق، إذ شهدت بيروت ظواهر مماثلة لانتشار "القمصان السود" عند أكثر من مفصل سياسي حاسم.
وبالفعل ومع بدء التجمع أمام قصر العدل، بدأت تلك المجموعات تتوافد من كل الطرقات المؤدية إليه وكأنها عملية تطويق منظمة لعقر دار القضاء، فيما كانت مواكب الدراجات النارية تجوب الطرقات الملاصقة على الرغم من دعوات الجيش اللبناني والقوى الأمنية إلى عدم الاقتراب. وما هي إلا دقائق معدودة وبدأت رشقات إطلاق النار تُسمع في الأجواء، ليتبين أن بين المتظاهرين عناصر مسلحة.
اقتحام عين الرمانة
وبينما كانت الأنظار مركزة على محيط منطقة "المتحف"، حتى أُفيد عن اشتباك حصل بين مجموعة تابعة لـ"حزب الله" و"حركة أمل" من جهة، وأهالي منطقة عين الرمانة من جهة أخرى، الذين فوجئوا باقتحام تلك المجموعات شوارعهم الفرعية وبدأت تكسير السيارات والمحال التجارية وفق مصدر ميداني في المنطقة.
ولفت المصدر إلى أن الاقتحام وتر الأجواء بشدة ودفع عدداً من الشباب إلى النزول إلى الشارع، دفاعاً عن المنطقة. وما فاقم الأمور، بحسب المصدر ذاته، هو استدعاء المجموعة المقتحمة مسلحين، ما أدى إلى خروج الأمور عن السيطرة، نافياً بشكل قاطع وجود أي كمين في المنطقة أو جاهزية مسبقة لافتعال أي حدث أمني.
وأشار إلى أنه منذ الليلة التي سبقت التظاهرة، انتشرت مقاطع مصورة وتسجيلات صوتية سُربت من مجموعات تابعة لـ"الثنائي الشيعي" تتوعد أهالي منطقتَي الشياح وعين الرمانة بـ"اجتياح"، مضيفاً أن "أحد التسجيلات الصوتية قال صراحة إن هناك نية صريحة لاحتلال المنطقة ويتم التحضير لذلك، الأمر الذي أثار الرعب في نفوس بعض السكان ودفعهم إلى مغادرة منازلهم".
كمين "القوات"
في المقابل، كان لـ"الثنائي الشيعي" رواية أخرى، إذ اتهم "حزب الله" و"حركة أمل"، حزب "القوات اللبنانية" بتنفيذ "اعتداء مسلح" على عناصرهما، أسفر عن مقتل 6 أشخاص وإصابة 30 آخرين، بحسب إحصاء للصليب الأحمر اللبناني. وأشار البيان المشترك للثنائي إلى أن مسلحين من "القوات اللبنانية" انتشروا في الأحياء المجاورة وعلى أسطح البنايات ومارسوا عمليات قنص مباشر للقتل المتعمد، ما أوقع هذا العدد من القتلى والجرحى.
إسقاط العدالة
إلا أن الدائرة الإعلامية في حزب "القوات اللبنانية" نفت صحة البيان الصادر عن قيادتَي "حزب الله" و"حركة أمل" لجهة اتهام عناصر منها بالقتل المتعمد، مطالبة الأجهزة المختصة بتحديد المسؤوليات بشكل واضح وصريح، ومعتبرة أن ما حدث هو نتيجة لعملية الشحن الذي بدأه الأمين العام للحزب حسن نصر الله منذ أربعة أشهر بالتحريض في خطاباته كلها على المحقق العدلي، والدعوة الصريحة والعلنية إلى كف يده، واستكمال ذلك بإرسال مسؤوله الأمني وفيق صفا إلى قصر العدل مهدداً ومتوعداً القاضي بيطار بـ"القبع" (الإزاحة بالقوة)، وصولاً إلى تخيير مجلس الوزراء بين التعطيل أو إقالة بيطار، وعندما رأى الحزب أنه ليس هناك تجاوب مع تهديداته، دعا إلى التظاهرة.
وأشارت الدائرة الإعلامية إلى أن اتهام "القوات" مرفوض جملة وتفصيلاً، والغاية منه حرف الأنظار عن اجتياح "حزب الله" لهذه المنطقة وسائر المناطق في أوقات سابقة، موضحة أن "ما حصل اليوم يعرفه القاصي والداني وهو مواجهة العدالة بالمنطق الانقلابي نفسه، واستخدام السلاح، والترهيب، والعنف، والقوة لإسقاط مسار العدالة في انفجار مرفأ بيروت".
عملية تخريب
في السياق، لفت العميد المتقاعد في الجيش اللبناني خليل الحلو إلى أن "التظاهرة التي ذهبت باتجاه قصر العدل والموجهة ضد القاضي بيطار والقضاء اللبناني، دخلت إلى أحياء منطقة عين الرمانة، التي تسكنها غالبية مسيحية، مع شعارات مذهبية وحزبية لا تمت بصلة إلى التظاهرة الأساسية، وبدأ هؤلاء المتظاهرون، وفق شهود وفيديوهات متداولة، بتحطيم السيارات المركونة في المنطقة وتكسير المحال ومداخل المباني. واستمروا أكثر من ساعة في أعمالهم التخريبية قبل بدء عملية إطلاق النار، بالتالي لا يمكن أن يكون كميناً نُصب لهم".
وعن تحديد هوية مطلقي النار، أوضح أن "ذلك غير ممكن في الوقت الراهن، إذ هناك حديث عن قناصين، والبعض يقول إنه رد فعل قام به من تضرروا في عملية التخريب لكن لا يجب استباق التحقيق".
وأشار إلى أن "العهد الحالي يحتضن هذه التصرفات ولم يواجهها يوماً، وسبق لأحد قياديي حزب الله أن هدد علناً القاضي بيطار كما قرر زعيم الحزب حسن نصر الله اعتبار التحقيق مسيساً ولم يحرك رئيس الجمهورية (ميشال عون) أو الحكومة ساكناً".
أما عن إلصاق التهمة بـ"القوات اللبنانية"، فأوضح الحلو أن "الثنائي الشيعي اليوم يقدم أكبر خدمة للدكتور سمير جعجع، رئيس حزب القوات اللبنانية، فهما يعيدان سيناريو عام 1975، حين اتُّخذ قرار عزل الكتائب اللبنانية، الحزب المسيحي الرئيس آنذاك، غير أن الكتائب نجحت في تجييش الشارع المسيحي لصالحها".
وأكد أن "القوات اللبنانية اليوم تخلت عن سلاحها نهائياً وتخضع لسلطة الدولة، أما اتهامها بالتسلح، فالهدف منه إيقاظ الحقد المذهبي والذهاب إلى الفوضى".
ذعر ونزوح
وبالعودة إلى المتابعة الميدانية، وفي ظل احتدام الوضع على الأرض، شهدت شوارع العاصمة اللبنانية زحمة سير خانقة نتيجة نزوح الأهالي من منازلهم إلى مناطق خارج بيروت، نتيجة الذعر الشديد والتخوف من توسع رقعة الاشتباكات إلى أحياء أخرى، إلا أن الشوارع بدت خالية بعد وقت قصير بسبب مغادرة البعض واختباء البعض الآخر داخل المنازل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشهدت المدارس المحاذية لمواقع الاشتباكات حالة ذعر شديد، حيث اختبأ الطلاب تحت مقاعد الدراسة خوفاً من الرصاص العشوائي الذي طال المباني التربوية والسكنية. كما تهافت الأهالي بشكل هستيري إلى المدارس لاصطحاب أبنائهم.
توريط الجيش
في السياق، أشار مصدر أمني إلى أن الجيش اللبناني نفذ انتشاراً واسعاً في أرجاء العاصمة واستقدم تعزيزات إضافية لإعادة الهدوء إلى شوارع بيروت، إلا أنه أوضح أن الوضع الأمني سيبقى مكشوفاً ما دام التأزم السياسي مستمراً، معتبراً أن التواصل بين القوى السياسية يسهم في عودة المظلة الأمنية إلى الشارع.
من ناحيته، اعتبر العميد المتقاعد في الجيش جورج نادر أن "ما حدث هو محاولة لجر الجيش إلى صدام من أجل التعمية عن تهديد الحزب للمحقق العدلي طارق بيطار"، موضحاً أن "الحزب يحاول إظهار نفسه كضحية سقط لها قتلى، الأمر الذي يخلق نوعاً من مشروعية لإقالة بيطار".
وانتقد كلام وزير الداخلية اللبناني بسام المولوي الذي تحدث عن إطلاق النار على الرؤوس، قائلاً إنه "تصريح المتخاذل الذي لا يجرؤ على قول الحقيقة كما ينبغي"، مستغرباً ما صرح به أنه لم تكن لدى قادة الأجهزة الأمنية معلومات عن إطلاق الرصاص الحي على الرؤوس. وتساءل نادر "ألا يُفترض بأي جهاز استخباراتي تابع لوزارة الداخلية أن يعلم سلفاً ما إذا كانت التظاهرة سلمية أم لا؟ هل هناك تظاهرة سلمية يرافقها السلاح؟ وكيف يمكن لتظاهرة سلمية أن تتحول في نصف ساعة إلى مئات الشباب المسلحين الذين ملأوا الشوارع؟".
وأوضح أنه "منذ ثلاثة أيام، يتم تداول تسجيلات صوتية على مواقع التواصل الاجتماعي، تتضمن تهديدات وتطلب من عناصر حركة أمل وحزب الله عدم مغادرة بيروت، وتقول إن الوضع خطير جداً. إننا نسأل وزير الداخلية ماذا تعني هذه العبارة بالنسبة إلى الميليشيات؟ فليفسرها لنا".
ورأى نادر أنه "كان على الجيش أن يطلق النار أقله دفاعاً عن النفس، إذ عليه أن يرد على مصدر النار"، مبدياً أسفه "للمقاطع المصورة لإطلاق النار أمام أعين عناصره من دون أن يحركوا ساكناً"، ومؤكداً أن "هناك نية مبيتة لجر البلد إلى الفتنة من أجل التعمية على التحقيق العدلي في تفجير المرفأ".
مخطط أميركيفي المقابل، اعتبر العميد المتقاعد في الجيش أمين حطيط أن "ما حصل اليوم هو استكمال للخطة التي وضعها وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو من أجل التضييق على حزب الله ونزع سلاحه، وتتضمن الخطة خمس مراحل تبدأ مع الفراغ السياسي، يليها الانهيار المالي ثم الاقتصادي وصولاً إلى الانهيار الأمني لتنتهي المراحل مع عدوان إسرائيلي جديد. واتُّفق على أن يكون تنفيذ الخطة الأميركية بأيدٍ لبنانية".
ورأى أن "أميركا نجحت في تنفيذ المراحل الثلاث الأولى، إلا أن الملف الأمني بقي عصياً عليها، وعند وصول باخرة النفط الإيرانية شعرت الولايات المتحدة بأنها بدأت تفقد السيطرة، فسارعت إلى تأليف الحكومة برئاسة نجيب ميقاتي ثم باشرت في الوقت عينه بتنفيذ خطة محكمة لزعزعة الاستقرار، تنفذها القوات اللبنانية، وقد اتهمها حزب الله مباشرة".
وأكد حطيط أن "الخطة كانت تهدف إلى الإيقاع بحزب الله ودفعه إلى الرد على مصادر إطلاق النيران غير أن الحزب استدرك الأمر وانسحب من المواجهات".