يدخل اقتصاد السودان نفقاً مظلماً جديداً في ضوء التطورات المتلاحقة الأخيرة التي شهدت حملة اعتقالات شنها الجيش السوداني على مسؤولين مدنيين، على رأسهم رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، التي وضعت البلاد أمام أخطر أزمة سياسية واقتصادية وأمنية منذ سقوط الرئيس السابق عمر البشير.
ورجح محللون اقتصاديون أن تؤثر الأزمة السياسية الأخيرة سلباً في العلاقة الجيدة للسودان مع مؤسسات التمويل الدولي في مقدمتها صندوق النقد والبنك الدوليين. وبينما كانت الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، التي تسببت في ارتفاعات كبيرة بالأسعار وزيادة ملحوظة في معدلات البطالة ونقص متكرر للخبز والوقود، الشرارة التي أدت إلى سقوط نظام البشير في أبريل (نيسان) من عام 2019، نفذت الحكومة الانتقالية وعلى مدى أكثر من عامين إصلاحات قاسية وسريعة تحت إشراف صندوق النقد إلى جانب خطوات هائلة على طريق عودة العلاقات مع الغرب بهدف فتح المجال أمام جذب التمويل الأجنبي وتخفيف الديون.
وانتقلت الحكومة السودانية إلى سعر صرف قائم على الأسواق، وألغت الدعم للوقود في إطار جهودها للتوصل إلى اتفاق مع المقرضين، ولكن في أعقاب الإصلاحات ارتفع التضخم إلى مستويات قياسية تجاوزت 400 في المئة مع استمرار شكاوى معظم السودانيين من صعوبة تدبير أمورهم المعيشية في ظل موجات غلاء حادة، فيما ارتفع سعر الدولار في السوق الموازية ليصل حالياً إلى 440 جنيهاً. وفي خضم توترات شديدة يشهدها السودان أعلن الفريق أول عبدالفتاح البرهان، الذي يرأس المرحلة الانتقالية في السودان، الاثنين، حل مجلس السيادة والحكومة برئاسة عبدالله حمدوك.
موعد مع أزمة جديدة
وبحسب محللين اقتصاديين، فإن السودان على موعد مع أزمة جديدة، لا سيما أن الأحداث الأخيرة ستنعكس سلباً، وبصورة مباشرة على أوضاع الاقتصاد المأزوم. وتأتي تلك التطورات بعد بضعة أشهر من موافقة صندوق النقد الدولي على التفاوض مع السودان على تخفيف أعباء ديون تتجاوز 50 مليار دولار من خلال مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون، بعد سنوات ظل البلد فيها معزولاً عن النظام الدولي بفعل العقوبات الاقتصادية الأميركية التي تم رفعها نهاية العام الماضي.
وفي 20 أغسطس (آب) 2019 تسلم رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، الذي كان متخصصاً اقتصادياً مخضرماً في الأمم المتحدة، البلاد بديون خارجية تقارب 60 مليار دولار، مع عجز في الموازنة العامة بلغ 3.7 في المئة خلال عام 2019 ونسبة تضخم تقترب من 70 في المئة، وانهيار لسعر العملة وصل معه سعر الدولار إلى 47 جنيهاً سودانياً.
خطة إنقاذ الاقتصاد
وبحسب الخطة الاقتصادية التي اقترحها "حمدوك" لإنقاذ البلاد من أزمتها الاقتصادية، فإن السودان كان بحاجة ماسة إلى إنهاء عزلته الدولية لرفع العقوبات والديون المتراكمة، ولكن هذا لم يكن كافياً في ظل أوضاع اقتصادية صعبة. ودخل "حمدوك" في تفاوض مع صندوق النقد والبنك الدولي على قروض بمليارات الدولارات مقابل برنامج إصلاح يشمل رفع الدعم وتحرير سعر الصرف، وتكريس هيمنة الحكومة على قطاع المؤسسات العامة، وتصفية وخصخصة عدد من الشركات المملوكة للحكومة، إلى جانب فرض مزيد من الضرائب.
وبعد مرور أكثر من عامين من سعي "حمدوك" لإعادة بناء اقتصاد البلاد، يظهر الأداء الاقتصادي للحكومة استمرار تفاقم الأوضاع مع زيادة التضخم إلى معدلات فلكية بلغت 422 في المئة مقابل نحو 70 في المئة في عهد البشير، كما واصلت العملة الانهيار من 47 جنيهاً مقابل الدولار الواحد إلى 441 جنيهاً حالياً، وهذا الرقم لم يسبق تسجيله في تاريخ العملة الوطنية بالسودان، وكان هذه الأداء نتيجة لعدم الاستقرار السياسي علاوة على الفيضانات وجائحة كورونا.
التعويم الجزئي
وطبقت الحكومة السودانية في 21 فبراير (شباط) 2021 ما يعرف بـ"التعويم الجزئي" للجنيه أمام الدولار، ضمن حزمة إصلاحات اقتصادية يشرف عليها صندوق النقد الدولي، وتم تحريك السعر الرسمي للدولار من 55 إلى 375 جنيهاً في أكبر تخفيض لقيمة العملة الوطنية.
وتسبب هذا التراجع في ربكة كبيرة بالأسواق، بينما اضطرت شركات منتجات غذائية وتجار إلى إيقاف عمليات البيع للجمهور تماماً، خشية التعرض لخسائر مالية، نتيجة عدم ثبات سعر الجنيه أمام العملات الأجنبية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتضمنت الإجراءات الحكومة المعلنة في يوليو (تموز) الماضي، البدء في التحرير التدريجي لسعر صرف الجنيه على مدار عامين، مع الإبقاء على دعم القمح والأدوية وغاز الطهي.
اتفاق مع صندوق النقد الدولي
وفي اتفاق تاريخي، أقر صندوق النقد الدولي في يوليو (تموز) قرضاً بقيمة 2.5 مليار دولار للسودان، وأبرم اتفاقاً تاريخياً مع البنك الدولي يقضي بتخفيف قدره 50 مليار دولار من ديون هذا البلد الفقير، مكرساً بذلك خروجه من عزلته المالية والسياسية الذي بدأته واشنطن مع انتهاء عهد البشير.
وجاء الإقرار بعد أن وضع صندوق النقد الدولي اللمسات الأخيرة على اتفاق مع 101 بلد مانح يسمح للسودان بتسديد نحو 1.4 مليار دولار من ديونه المتأخرة للمقرض الذي يتخذ من واشنطن مقراً، وهو أمر كان يعرقل حصول الخرطوم على مساعدات جديدة.
العلاقة من أميركا
وفي ديسمبر (كانون الأول) 2020، شطبت واشنطن السودان من قائمتها السوداء للدول المتهمة بدعم الإرهاب، ما أزال عقبة مهمة كانت تقف في طريق الاستثمار الخارجي، وواصل الرئيس الأميركي جو بايدن تحسين العلاقات مع الخرطوم منذ توليه السلطة في يناير (كانون الثاني) 2021، وأعلنت وزارة الخزانة الأميركية في مارس (آذار) قرضاً مرحلياً قدره 1.15 مليار دولار لمساعدة السودان على سداد ديونه المتأخرة للبنك الدولي، بعد أن أعلنت حكومة الخرطوم عن سلسلة إصلاحات.
وأفادت وزارة الخزانة بأن الولايات المتحدة تعهدت المساهمة بمبلغ يصل إلى 120 مليون دولار كموارد ممنوحة لتخفيف عبء ديون السودان لصندوق النقد الدولي بموجب المرحلة الأولى من مبادرة "الدول الفقيرة المثقلة بالديون".
وبحسب بيانات البنك الدولي، انخفض الناتج المحلي الإجمالي في السودان إلى مستويات 26 مليار دولار في 2020، من 32 مليار دولار في 2019، بانكماش نسبته 19 في المئة على أساس سنوي، وانخفاض أكثر حدة من عام 2016. وأشارت توقعات سابقة لصندوق النقد الدولي إلى نمو الاقتصاد السوداني بنحو 0.9 في المئة في العام الحالي، بعد انكماشه بـ3.6 في المئة عام 2020.
أزمة تراجع الاحتياطيات الأجنبية
وأدى انخفاض الاحتياطيات الأجنبية من جهة أخرى في كثير من الأحيان إلى نقص الوقود والخبز والأدوية والاحتياجات الأساسية، فيما فاقم شح المعروض أيضاً من أزمة قفزة التضخم الذي يسجل أعلى مستوياته على الإطلاق خلال الربع الأول من العام الحالي.
وبحسب صندوق النقد، ارتفعت مستويات التضخم بأكثر من 50 في المئة، الأمر الذي جعل من الصعب استقطاب استثمارات أجنبية في ظل زيادة التضخم، وعدم ثبات سعر الصرف. كما انعكس تراجع قيمة الجنيه وارتفاع معدل التضخم سلباً على أسعار جميع السلع الاستهلاكية والخدمات التي تشهد غلاءً فاحشاً هذه الأيام.
شبح البطالة
يضاف إلى كل العوامل السابقة أزمة شبح البطالة الذي وصل إلى معدل نحو 18 في المئة حتى نهاية العام الماضي، وفقاً للأرقام الرسمية الصادرة عن الحكومة السودانية، ولكن اقتصاديين يتحدثون عن نسب محدثة أعلى، وبخاصة بين فئة الشباب.