تباينت ردود الفعل على إعلان وزير الخزانة البريطاني، ريشي سوناك، ميزانية حكومته أمام البرلمان، الأربعاء 27 أكتوبر (تشرين الأول). فمع محاولة امتصاص غضب بعض قادة حزب المحافظين الحاكم بسبب رفع الضرائب أخيراً عن طريق زيادة مستقطعات الضمان الاجتماعي من العاملين والشركات، لا تبدو التخفيضات الضريبية التي أعلنها الوزير في الميزانية الجديدة كافية. أما بعض تلك التخفيضات فقد أثارت غضب المدافعين عن البيئة وأنصار مكافحة التغيرات المناخية. بينما اتهم حزب العمال المعارض وزير الخزانة في حكومة المحافظين بقيادة رئيس الوزراء بوريس جونسون بأنه "يعيش في عالم خيالي"، أي منفصل عن الواقع الذي يعيشه البريطانيون.
لكن وزير الخزانة اعترف أمام نواب مجلس العموم (البرلمان) بصعوبة التعافي من أزمة وباء فيروس كورونا "كوفيد-19" على الأسر البريطانية. وحذر سوناك من "أشهر صعبة مقبلة"، وهو يؤكد أنه يعرض ميزانية تعد بتحقيق "اقتصاد قوي للبريطانيين". واستند الوزير إلى توقعات مكتب مسؤولية الميزانية بنمو قوي للاقتصاد في السنوات المقبلة. لكنه أكد أيضاً أن مشكلات سلاسل التوريد وارتفاع أسعار الطاقة ستعني وضعاً صعباً لملايين البريطانيين، وأنها قد تتطلب أشهراً قبل أن تبدأ الضغوط التي تسببها في التراجع.
ما خلص إليه معظم المحللين في وسائل الإعلام البريطانية، بعد عرض الميزانية، هو أن محاولة تقديم ميزانية "ترضي الجميع" قد لا تأخذ وقتاً طويلاً قبل أن تظهر أنها محاولة غير مجدية وقد "لا تعجب أحداً".
توقعات وتقديرات
على الرغم من لغة التفاؤل التي تحدث بها سوناك في البرلمان، إلا أن تقديرات مكتب مسؤولية الميزانية تعزز القلق في بعض جوانب الحزب الحاكم. فالمحافظون التقليديون، الذين يرون أن حكومة جونسون تنتهك البيان الانتخابي التقليدي للحزب الذي يؤكد خفض الضرائب والانفاق العام، وجدوا دعماً لموقفهم في بيانات المكتب. فحسب أحدث التقديرات، وصلت زيادة الراتب في بريطانيا حالياً إلى أعلى مستوى لها منذ خمسينيات القرن الماضي، بينما ارتفاع الإنفاق العام إلى أعلى مستوياته منذ السبعينيات.
لكن وزير الخزانة يجد نفسه في مأزق حقيقي، إذ يحتاج إلى توفير أكثر من 34 مليار دولار (25 مليار جنيه استرليني) لسد فجوة العجز في المالية العامة للحكومة، نتيجة تأثيرات أزمة كورونا. ومن دون زيادة الضرائب لن يستطيع توفير كثير من الموارد للخزينة لتحسين الوضع المالي العام. مع ذلك، قدم الوزير لخفض وتجميد بعض الضرائب والرسوم بالقول إنه "من الخطأ البحث عن 25 مليار جنيه بزيادة ضرائب ورسوم الأعمال".
يبقى الرهان على أن النمو القوي في الناتج المحلي الإجمالي فحسب، يمكن أن يخفف من ضغط العجز المالي الكبير. وتوقع سوناك أن الاقتصاد البريطاني سيعود إلى مستويات ما قبل أزمة كورونا في نهاية العام الحالي وبداية العام المقبل. وأشار إلى أن تقديرات مكتب مسؤولية الميزانية للحد الأقصى لمعدلات البطالة في يوليو (تموز) 2020 في عز أزمة وباء كورونا كان عند 12 في المئة. لكن الآن يقدر المكتب أن يكون الحد الأقصى لمعدلات البطالة عند 5.2 في المئة فقط.
وتوقع سوناك أن يصل النمو في الناتج المحلي الإجمالي إلى نسبة 6 في المئة في العام المقبل 2022. على أن ينمو الاقتصاد بنسب عند 2.1 في المئة، و1.3 في المئة، و1.6 في المئة في الأعوام الثلاثة التالية المتبقية من فترة الحكومة والبرلمان الحالي.
ووفق تقديرات مكتب مسؤولية الميزانية، فإن الدين العام سيصل إلى نسبة 85.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام المالي 2022- 2023، ويصل إلى قمته أي أعلى مستوى متوقع له في العام المالي التالي حين تصبح نسبته من الناتج المحلي الإجمالي 85.7 في المئة. أما في السنوات الثلاث التالية، فيتوقع انخفاض الدين العام من نسبة 85.1 في المئة إلى 83.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
عبء على الملايين
هذه الصورة التي تبدو متفائلة ربما تتعلق بالأرقام الرئيسة للاقتصاد الكلي، لكن في التفاصيل قد لا يشعر ملايين البريطانيين سوى بعبء التضخم الذي يزيد تكاليف المعيشة، ويأكل أي زيادة محتملة في الأجور. وأعاد سوناك التأكيد على ما أعلن من وصول معدلات التضخم في سبتمبر (أيلول) إلى نسبة 3.1 في المئة. واعترف بأن ذلك المعدل قد يزيد. ويقدر مكتب مسؤولية الميزانية أن يصل معدل التضخم العام المقبل إلى أكثر من 4 في المئة، أي ضعف المستهدف من بنك إنجلترا (المركزي البريطاني) عند 2 في المئة.
ومن شأن معدلات التضخم تلك أن تخفف كثيراً من الأثر الإيجابي لرفع الحد الأدنى للأجور الذي أعلنته وزارة الخزانة قبل بيان الميزانية في البرلمان الأربعاء. وأعلن زيادة الحد الأدنى للأجور بنسبة 6.6 في المئة ليصبح عند نحو 13 دولاراً (9.5 جنيه إسترليني) في الساعة. وقال سوناك، إن ذلك سيعني زيادة بمقدار نحو 1370 دولاراً (ألف جنيه استرليني) سنوياً لبضعة ملايين من العاملين من ذوي الأجور المنخفضة.
وأشار وزير الخزانة إلى أن الإنفاق على قطاع الرعاية الصحية سيرتفع بمقدار نحو 60 مليار دولار (44 مليار جنيه استرليني)، على أن يصل بنهاية فترة البرلمان الحالي إلى نحو 243 مليار دولار (177 مليار جنيه استرليني). وسيزيد الإنفاق العام للوزارات والإدارات بمعدل 3.8 في المئة سنوياً، ليصل إلى نحو 206 مليارات دولار (150 مليار جنيه استرليني) في تلك الفترة.
الدعم الاجتماعي
وتضمنت الميزانية تجميد الرسوم التي تحصلها الدولة على بعض المشروبات الكحولية والبنزين، في محاولة لتخفيف العبء على المستهلكين. كذلك تضمنت دعماً للأعمال الصغيرة، بإعلان خفض بنسبة 50 في المئة لمدة سنة أخرى في رسوم الأعمال لقطاعات التجزية والضيافة والترفيه لتنشيط تلك القطاعات التي كانت أكثر تضرراً من أزمة وباء كورونا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن تجميد زيادة الرسوم على الطيران الداخلي، ما بين إنجلترا واسكتلندا وويلز وإيرلندا الشمالية، أدى إلى انتقادات حادة من أنصار البيئة الذين اعتبروا الإعلان تشجيعاً على الانبعاثات قبل أيام من استضافة بريطانيا قمة المناخ العالمي (كوب 26). إلا أن سوناك أشار إلى أن القرار سيقلل من تكاليف السفر الجوي لنحو 9 ملايين بريطاني يستخدمون الرحلات الداخلية. طبعاً، إضافة إلى أن الهدف هو تشجيع قطاع السفر الجوي الذي ربما كان أكثر ما تضرر من أزمة وباء كورونا حتى الآن.
وحاول وزير الخزانة التقليل من تأثير قرار وقف الزيادة التي قدمتها الحكومة خلال فترة الوباء لمتلقي الدعم الاجتماعي من الدولة. فقد أوقفت وزارة الخزانة العلاوة الاستثنائية بقيمة نحو 27 دولاراً (20 جنيهاً استرلينياً) أسبوعياً. وفي الميزانية الجديدة، أعلن سوناك عن تقليل معدل الخفض في العلاوة الاجتماعية للعاطلين من العمل من نسبة 63 في المئة إلى نسبة 55 في المئة. ويعني ذلك أن الخفض مقابل ما يحصل عليه هؤلاء، إذا ما التحقوا بوظيفة، لن يكون كبيراً جداً كما كان من قبل. وقدر الوزير أن ذلك سيفيد نحو مليوني أسرة بريطانية ربما بزيادة إجمالية في الدخل السنوي بأكثر من 1300 دولار، أي نحو ألف جنيه استرليني).
تحوط مالي
لطمأنة الأسواق، وليس النواب في مجلس العموم وجمهور البريطانيين الذين يمثلونه فحسب، قال وزير الخزانة، إنه على الرغم من خفض الضرائب وزيادة الإنفاق الاجتماعي والعام، فإن الحكومة لا تتخلى عن التحوط المالي، خصوصاً في ظل استمرار حالة الاضطراب والتذبذب التي صاحبت أزمة وباء فيروس كورونا. وأن الهدف هو "حماية أنفسنا من المخاطر الاقتصادية".
وقال سوناك "هذا هو القرار المسؤول في وقت يزيد فيه عدم اليقين الاقتصادي حول العالم، وحيث موقفنا المالي العام أكثر حساسية تجاه أي تغير في سعر الفائدة بمقدار الضعفين عما كان عليه قبل الوباء، وبأكثر من ستة أضعاف مما كان عليه قبل الأزمة المالية العالمية... إن ارتفاع سعر الفائدة ومعدلات التضخم بمقدار نقطة مئوية واحدة يكلفنا أكثر من 31 مليار دولار (23 مليار جنيه استرليني)".