في كتابه "نظام عالمي" يقول الدكتور هنري كيسنجر "إن القوة ليست فقط القوة العسكرية والاقتصادية بل أيضاً قوة الأفكار". والعالم، سواء كان في نظام أو في فوضى، ينقسم دائماً إلى عالمين على أساس الجغرافيا أو الثروة أو الأيديولوجيا أو التكنولوجيا أو الأفكار وبقية أنواع القوة. شمال وجنوب. غني وفقير. ديمقراطي وسلطوي. رأسمالي واشتراكي. صانع تكنولوجيا ومستهلك تكنولوجيا. مبتكر أفكار وحامل أفكار خردة. من يعرف ومن لا يعرف. ومختصر كل ذلك هو من يصنع التاريخ بصنع المستقبل، ومن يسيء إلى التاريخ بالجمود في الماضي. والأسوأ هو من يتوهم أنه يخوض معاركه من أجل شيء عبثي هو "ماضٍ أفضل". والشرق الأوسط اليوم أسير هذا الانقسام بين من يعمل من أجل "الشرق الأوسط الأخضر" مثل السعودية، ومن يخوض كل أنواع الحروب من أجل الشرق "الأصفر" الذي تجعله الدماء "أحمر" مثل النظام الإيراني، ومن يمارس القتل والإرهاب من أجل الشرق "الأسود" المحكوم بكل أشكال التخلف مثل منظمات الإسلام السياسي، وأبرزها "داعش" و"القاعدة" و"بوكو حرام" وبقية الذين خرجوا من عبادة الإخوان المسلمين وأفكار سيد قطب.
أفق بعيد
وليس من السهل اللحاق بالسعودية التي تتسارع خطواتها منذ تولى الملك سلمان بن عبد العزيز. ولا التقاط الأنفاس في متابعة الأفكار والمشاريع التي يطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. بلد يعيد من جهة، اكتشاف آثاره وطبيعته ويسلط الأضواء على المنسي منها، ويضع تاريخه في موقعه الصحيح في الحاضر. ويتطلع، من جهة أخرى، نحو الأفق البعيد لتحقيق مشاريع في المستقبل بأرقام فلكية. أحدث ما جمعته الرياض هو قمة لـ"مبادرة الشرق الأوسط الأخضر"، ومؤتمر لـ"مبادرة مستقبل الاستثمار". وأقل ما كشفه ولي العهد هو إنشاء "صندوق للاستثمار في تقنيات الاقتصاد الدائري للكربون". مبادرة عالمية لتوفير الغذاء لثلاثة أرباع مليار إنسان. "مؤسسة المبادرة الخضراء". برنامج لزرع عشرة مليارات شجرة في السعودية ضمن مشروع عالمي لزرع 100 مليار شجرة في الكرة الأرضية. الحياد الصفري لانبعاثات الكربون في العام 2060 بعد تحقيق "رؤية 2030". والتركيز على الطاقة الصديقة للبيئة في البلد الأهم في إنتاج النفط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والأمثلة بالمقابل مخيفة. فنزويلا بلد نفطي كان غنياً. لكن سياسة الرئيس نيكولاس مادورو الذي خلف الرئيس هوغو تشافيز أفقرته ودفعت ثلاثة ملايين إلى الهجرة، ووقوع 94.5 في المئة من الأسر الباقية تحت خط الفقر، بحسب إدارة المسح لظروف المعيشة. إيران بلد نفطي وله ماضٍ ثقافي مهم. لكن شعبه في ضيق اقتصادي، وعملته تتهاوى أمام الدولار. فما يهم النظام هو الإنفاق على التسلح والملف النووي و"ستة جيوش" هي ميليشيات في بلدان عربية للدفاع عن إيران. لماذا؟ لأن مشروع طهران هو إعادة المنطقة إلى الماضي البعيد واستعادة حروب ذلك الماضي وصراعاته، وإقامة نظام ثيوقراطي ضد منطق العصر ومتطلبات الإنسان فيه. وهذا ما يفعله نظام إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن وسواها، حيث كل ما يقدمونه لشعوب في أزمات اقتصادية واجتماعية خطيرة هو الصواريخ والأسلحة واللعب على العصبيات المذهبية. أليس أبسط ما قاله نائب إيراني ساخر هو: لدينا صواريخ ولكن ليس لدينا بيض ودجاج للأكل؟
خطر الإرهاب
أما منظمات الإسلام السياسي، فإن مخاطرها ممتدة من المنطقة إلى آخر بقعة في العالم. وهي ترفع شعارات دينية وتفجر المصلين في المساجد والكنائس. تَعِدُ الشباب الذي يقدم على عمليات انتحارية بالجنة والحوريات، وتجعل الأوضاع على الأرض جحيماً للناس. وفي مواجهة التفكير تمارس التكفير. تكفير المجتمعات وتكفير بعضها بعضاً بما يقود إلى أعنف المعارك وأشرسها وهدر دماء المختلفين عن الإرهابيين ومعهم.
عام 1914، كتب المؤرخ الأميركي فريديريك جاكسون تيرنز: "الديمقراطية الأميركية ولدت، لا من حلم مفكر بل جاءت من الغابة الأميركية واكتسبت قوة جديدة كلما تقدمت إلى أرض جديدة". وما تقدمه للشرق الأوسط والعالم الثورة الخضراء والأفكار والمشاريع المستقبلية هو أكثر من ذلك.