قبل ربع قرن ونيّف رحل عن عالمنا وجه خيّر من وجوه الثقافة الفرنسية، بل نقول أيضاً: من وجوه الثقافة العالمية التي ارتبطت عن كثب بالثقافة العربية وإلى حد كبير بالثقافة الإسلامية.
فالراحل يومها، جاك بيرك، حتى إن كان قد فضّل دائماً أن يُعتبر مستعرباً لا مستشرقاً، بقي طوال حياته واحداً من كبار المهتمين، وبشغف استثنائي بكل ما يتعلق بالتاريخ الفكري والثقافي للحضارة العربية – الإسلامية، بدءًا من دراساته السوسيولوجية المبكرة في المغرب وصولاً إلى كتاباته الاستثنائية عن مصر وغيرها من المناطق العربيةـ إلى تدخله الغاضب دائماً ضد كل ضروب الأذى التي كانت تلحق بالعرب، لا سيما على يد القوى الكولونيالية وعلى رأسها تلك الفرنسية، وهو الفرنسي الذي عرف كيف يتعامل مع تلك الأمور بنزاهة.
في خدمة الحضارة العربية - الإسلامية
هذا المفكر الذي رحل يومها عن عمر يناهز الـ85 سنة أمضى معظمها في خدمة الفكر العربي والتراث الإسلامي كما سنرى بعد سطور والذي يقتضي الإنصاف منا العمل بين الحين والآخر وفي كل مناسبة، على استعادة تفاصيل عمله الدؤوب هذا، والتذكير بالمواقف والتصريحات التي تميّز بها على الدوام، فعرف كيف يضفي على جهده العلمي بعداً جديداً، لا علاقة له من قريب أو من بعيد، بالفكر الاستشراقي.
ولقد كان جاك بيرك يرى أساساً أنه لم تعُد هناك حاجة ملحّة إلى ذلك النوع من الباحثين الذين يكتفون بالجلوس داخل مكاتبهم ومختبراتهم لدراسة الشعوب "المتخلفة" بالميكروسكوب والمنظار المكبر، وطرح استنتاجاتهم وآرائهم بحيادية تغيظ. فإما أن يكون الاهتمام والدراسة نابعين من شغف أو لا يكونان.
الكتابة بشغف استثنائي
وذاك الشغف طبع عمل بيرك على الدوام. نقع عليه منذ الكتاب الأول الذي وضعه من منفاه في "الداخل المغربي" بعنوان "البنى الاجتماعية في الأطلس الأعلى" الذي أثار ضجة كبيرة لدى صدوره في باريس مطلع عام 1955، وصولاً إلى العمل الذي كان منكباً عليه لدى وفاته وهو ترجمة "السنّة النبوية".
وكان يتوخى من هذه الترجمة، بالدرجة الأولى، استكمال كتابه "محاولة في ترجمة معاني القرآن" الذي كان قد صدر في فرنسا قبل رحيله بأعوام. كما أنه كان يطمح إلى تعريف القارئ الفرنسي - والغربي عموماً - بجانب غني وأساسي من التراث الإسلامي. فبين دراسته للبنى الاجتماعية في الأطلس وعمله على ترجمة السنّة النبوية، أصدر جاك بيرك أكثر من ثلاثين كتاباً، معظمها يُعتبر اليوم مرجعاً في ميدانه: من "العرب بين الأمس واليوم" إلى "الإسلام في زمن العالم"، ومن دراسته الفذة "عن المواثيق الرعوية لدى بني مسكين" (1936) الذي يُعتبر مؤلّفه العلمي الأول إلى "علماء، مؤسسون وثوار في المغرب" الذي كان واحداً من كتبه المهمة الأخيرة، ومن تحقيقه لـ"نوازل" الوزاني (1944)، إلى ترجمته لكتاب "الأغاني" خلال الأعوام الأخيرة من حياته، ومن كتابه المهمّ "مصر، الإمبريالية والثورة" (1967) إلى جزءيْ كتابه "من الفرات إلى الأطلس" (1978)...
نتيحة رصد ميداني
كل هذه الأعمال والكثير غيرها وضعها جاك بيرك انطلاقاً من رصيد ميداني وإلمام بالواقع الذي يتحدث عنه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن اللافت في مسيرته هو أنه بدأ راصداً ميدانياً لأحوال المغرب والمشرق، لينتهي إلى الانكباب على التاريخ الزاهي للحضارة الإسلامية. كأن تقدمه في السن قاده إلى التوغل عميقاً في الزمن، أو كأنه يئس من وصول العرب والمسلمين إلى حقوقهم في الغرب عن طريق إثارة حماسته، فآلى على نفسه أن يغوص في ماضيهم مستكشفاً لحظاته الكبرى أي اللحظات التي كان فيها العرب والمسلمون متصدّرين للحضارة البشرية.
حين كان الآخرون يعيشون في الكهوف
فذات مرة، تطرّق صحافي فرنسي على مسمع من بيرك، كما روى بنفسه لكاتب هذه السطور خلال حوار طويل أجريناه معه عام 1991، إلى شيوع "رؤية كاريكاتورية للإسلام في الغرب، بوصفه إسلاماً ظلامياً ورجعياً... بفعل الجهل ربما أو انطلاقاً من مصالح معينة"، واستغرب أن "ينسى قومنا بسهولة أن هذا الدين أعطى إلى العالم، طوال عصور عدة واحدة من أجمل وأغنى الحضارات".
على هذا الكلام كان رد جاك بيرك عملياً ونظرياً في الوقت ذاته، إذ إنه ابتسم ابتسامة ذات معنى، وأشار بيده إلى مجموعة كتب موضوعة قرب نافذة مكتبه وقال للصحافي: "هل ترى هذه المجموعة المؤلفة من 25 مجلداً؟! إنها تمثل التدوين النهائي لمجموعة تعود إلى القرن العاشر وتحمل اسم ’كتاب الأغاني‘. وتضم مجموعة كبيرة من أشعار لُحّنت عند بداية العصر الإسلامي. وأنا في طريقي الآن إلى ترجمة هذا العمل إلى الفرنسية. إنها حضارة في غاية التعقيد والأناقة، ففي الزمن الذي كان أوائل الفرنسيين وسادتهم يعيشون في كهوف حجرية مسقوفة بالقش، كان المسلمون الأوائل يبتكرون حضارة منفتحة تمتد من سنكيانغ من ناحية إلى منطقة الأكيتان الفرنسية من ناحية أخرى. البعد الكوني الحضاري كان في ذلك الحين بعداً إسلامياً".
يوم نقل الإسلام أرسطو وأفلاطون
واستطرد بيرك حينها، قائلاً "الإسلام هو الذي نقل وأغنى الفكر القديم عبر اشتغاله على أفلاطون وأرسطو، مثلاً. أما ابن خلدون والبيروني فكانا كاتبين عملاقين، في الوقت الذي كان الشهرستاني يكتب عن الشعوب العربية والهندية والصينية والإغريقية واصفاً محاسن ومساوئ كل منها.
أما إذا شئت حديثاً عن العمارة، فحسبك أن تتجول في إسبانيا اليوم، وترصد روعة قصر الحمراء لتفهم كل شيء. إن هذه الحضارة العربية الإسلامية المتكاملة دامت ثلاثة قرون، من القرن الثامن حتى القرن الحادي عشر لكنها انتهت إلى كارثة محيقة تمثلت في الغزو المغولي.
في تلك الأثناء، تم غزو الغرب للطرق البحرية، فانقطعت الإمبراطورية الإسلامية عن مصادر ثرائها، وخسرت طرق العبور بين الداخل الآسيوي والغرب الأوروبي. ومن هنا، نجد كيف أن السقوط والانحطاط الاقتصاديين أدّيا، كما يقول ماديو التاريخ، إلى انهيار الحضارة (...). ولكن بعد ذلك بزمن طويل، في القرن التاسع عشر، حين وصلت الثورة التقنية والعلمية، تمكنت الحضارة الغربية من سحق القوى الإسلامية الخلاقة.
وهذا السحق لا يزال قائماً حتى اليوم، فالغرب يساوي التكنولوجيا، وأميركا هي التي توفر النموذج والمثال.
أما اليوم، فالمجتمعات العربية مستسلمة للعبة البحث عن الزمن الضائع. فقد تم احتلال بلاد العرب، وعانوا كثيراً خلال فترة الاحتلال. لكنهم يحاولون اليوم أن يستعيدوا أنفاسهم من جديد وأن يلحقوا بعجلة التقدم، فتواجههم صعوبات عدة...".
رجل التهمته اللغة العربية
من الواضح كل الوضوح أن مسار جاك بيرك العلمي والفكري والحياتي يمكن للمداخلة الواردة أعلاه أن تلخصه وتعطيه كل أبعاده. والرجل كان على أية حال محكماً ودقيقاً على الدوام في أدائه، سواء كان في اللغة الفرنسية التي كان سيداً بين كلاسيكييها، أو في اللغة العربية التي كان يتقنها إلى درجة جعلت طه حسين يتبنّى إدخاله عضواً في مجمع اللغة العربية في القاهرة. وهي عضوية كان بيرك يفخر بها ويصر على التوقف عندها طويلاً، سواء في كتاب الحوارات التي أجرتها معه الصحافية اللبنانية ماريز عكر بعنوان "عربيات" (1978) أو في كتاب "مذكرات الضفتين"، فكان لا يفتأ يقول إن "اللغة العربية التهمته".
آلام ما قبل النهاية
لقد رحل جاك بيرك شاباً في الـ85، لينطفئ برحيله صوت فريد، لم يكفّ عن الدفاع عن قضايا العرب والمسلمين في فرنسا، ولم يتعب من محاولة التقريب بين الحضارتين العربية والأوروبية والدفاع عن "الاختلاف" باعتباره "أهم الأسس التي يقوم عليها ثراء الحضارة البشرية" كما كان يقول دائماً.
صحيح أن أوضاع العرب والمسلمين اليوم لا توفر لهم "ترف" التوقف طويلاً عند ذكرى هذا الرحيل، لكن من المؤكد أن جاك بيرك سيُذكر أكثر ويُستلهم أكثر في المراحل المقبلة، كلما اشتدت الأزمة وتفاقم التناحر الحضاري، وكان العرب والمسلمون طرفاً فيهما.
ولعل هذا من شأنه أن يدفعنا اليوم إلى التساؤل: تُرى ما الذي كان من شأن جاك بيرك أن يقوله اليوم وهو يتأمل الأحوال المزرية التي انتهت إليها الأمور في عالم عربي أحبه ودائماً ما دافع عنه، لا سيما في لبنان البلد الذي عرفه أكثر من أي بلد متوسطي آخر ولطالما عبّر عن ألمه خلال الأعوام الأخيرة من حياته حين كانت الحرب الأهلية، كما حروب الآخرين على أرض لبنان تمعن في تهديم "فكرة ورسالة" بقدر ما تمعن في تدمير الأرض والعمران والإنسان؟