الطريق إلى فهم امرأة وعر ومحفوف باللبس والحيرة والارتباك، لكن الكاتبة النيجيرية تشيماماندا نجوزي أديتشي، في مجموعتها القصصية "ذاك الشي حول عنقك" (المدى – ترجمة الشاعر السوري عابد إسماعيل)، تمهد ذاك الطريق، تخترق عوالم المرأة، تسبر أغوارها وتضع مشاعرها، أفكارها، وتناقضاتها تحت المجهر، فتكشف الخبايا، وتزيل الغموض.
تنويعة سردية سلكتها الكاتبة في مجموعتها القصصية، نوعت فيها أساليب السرد، بين سرد موضوعي وسرد ذاتي. ووزعت تقنية الراوي على ضمائر، المتكلم والمخاطب والغائب، ومنحت المرأة دور البطولة في كل قصص المجموعة، باستثناء قصة واحدة بعنوان "أشباح" أتاحت للرجل فيها دور البطولة وصوت السرد.
يد التنوع نفسها طاولت القضايا التي رصدتها الكاتبة عبر مجموعتها، فأبرزت الفقر، والعنف، والصراع العرقي والطائفي، والفساد، والبطالة، والاغتراب، والاستبداد والقمع، فضلاً عن قضايا المرأة ومعاناتها، في مجتمع تعلي ثقافته من شأن الذكر، وتضع المرأة في مرتبة أدنى، تجعلها ضحية صور وأشكال من التمييز، لتقدم عبر كل ما رصدته من قضايا، صورة حية ونابضة للمجتمع النيجيري. لم تكن قاتمة تماماً، وإنما أبرزت فيها نقاط من الضوء، عبر استدعائها المباشر، لأسماء كبار كتاب أفريقيا وشعرائها. وعبر الخلفية العلمية والثقافية، التي منحتها لأغلب الشخوص.
تيمة القهر
القهر كان التيمة الرئيسة التي تجلت عبر اثنتي عشرة قصة، تنوعت مصادره، بين قصة وأخرى، فتارة يمارسه رجل، وطورا يمارسه موروث، ومرة نظام سياسي قمعي، وحينا يمارسه المجتمع. ففي قصتها "الزنزانة رقم واحد"، تقهر الشرطة رجلاً مسناً، وترغمه على التعري بين المسجونين. وتعاقبه بدلاً عن ابنه الهارب. وفي "تقليد" يقهر المرأة، الرجل والفقر معاً، فيدفعها العوز المادي والنفسي، للتجاوز عن خيانات الزوج. وفي "تجربة خاصة" يقهر المجتمع أبناءه، عبر تعصب أعمي، يخلف جثثاً محترقة، على طول الطريق، في مشاهد باتت تتسم بالعادية والتكرار. ويستمر القهر على مدار القصص الاثنتي عشرة، فيجعل من النساء ضحايا لجُناة كثيرين، في واقع تتشاركه أغلب الدول النامية، أو كما تسمى "دول العالم الثالث"، لا سيما في أفريقيا، وإن لم تغفل الكاتبة إبراز خصوصية المجتمع النيجيري، والجانب المضيء منه، عبر استدعاء ثقافته، تاريخه، وفلكلوره بما يحويه من عادات المأكل والملبس، والعيش.
النوستالجيا والاغتراب
أبرزت أديتشي حضور الآخر وعلاقته بالأنا طوال رحلة السرد، سواء في القصص التي دارت أحداثها في الفضاء المحلي، أو في تلك التي امتد الفضاء المكاني فيها ليجمع بين أميركا ونيجيريا. وعقدت الكاتبة بينهما مقارنات صريحة، أبرزت عبرها معاناة المجتمع النيجيري، وما يئن تحت وطأته من قمع وفساد وفقر، عزز اغتراب المواطن النيجيري، وجعل الكفة الراجحة من نصيب المجتمع الأميركي، ورسخ الانبهار به... "كان يريد لأولاده أن يكونوا مثل أولاد جيرانهم، أولئك الذين يشمون طعاماً رمي على التراب، قائلين إنه طعام فاسد. في حياتها وفي طفولتها، لم تجد غضاضة قط في أن تلتقط الطعام، مهما يكن حاله، وتأكله بلا تردد" (ص27).
لكن المقارنات نفسها، أبرزت حالة معاكسة من الافتتان، ببعض جوانب الثقافة النيجيرية، وبالألفة التي تغلف تفاصيل الحياة في نيجيريا، ما عزز من حالة النوستالجيا للوطن على الرغم من كل ما يعانيه... "فكرت بالسوق المفتوح في إنوغو، والبائعين بكلامهم المعسول وهم يغوونك بالتوقف والدخول إلى خيمهم المسقوفة بألواح الزنك، المستعدين للجدال طوال النهار من أجل أن يضيفوا ليرة واحدة على السعر، يلفون ما تشتريه في أكياس بلاستيك وإذا لم يكونوا يمتلكونها يضحكون ويلفونها في جرائد بالية" (ص194).
في المقابل، ساقت الكاتبة صورة أخرى للمجتمع الأميركي، مغايرة للصورة الذهنية المستقرة عنه، لدى شعوب أفريقيا، والتي تبرزه كمجتمع ثري، يملك السيارات والسلاح. بينما جسدته أديتشي مجتمعاً يهدر الطعام ويتحدث صراحة عن آلامه وأحزانه، التي يقدسها المرء بإخفائها عادة إلا عن المقربين. تتجلى عنصريته حين يحاور الآخر بخليط من الجهل والعجرفة. يرتدي أغنياؤه الملابس البالية الممزقة، بينما يعاني فقراؤه "وهم كثر" من البدانة. ولا يمتلكون بيوتاً ولا سيارات. وأبرزت كذلك دور الآخر في ما يعانيه المجتمع النيجيري، نتيجة سنوات الاستعمار الثقيلة. وتجلت عبر السرد العقدة التاريخية من الاستعمار، الذي طالما اختطف المواطنين، وقام بشحنهم على سفن البضائع، ليباعوا في الغرب كعبيد.
تعدد أشكال الصراع
نقلت الكاتبة صوراً عديدة للصراع، سواء في العوالم الخارجية للشخوص، أو في عوالمها الداخلية. فرصدت صراع النيجيريين مع السلطة العسكرية الديكتاتورية، التي مثلها الجنرال أباتشا، خلال حكمه لنيجيريا بعد انقلاب عسكري قام به، أواخر القرن الماضي. ورصدت الصراعات الطائفية، لا سيما بين مسلمي الهاوسا ومسيحيي الإغبو. ورصدت كذلك صراعات الميليشيات والعصابات المسلحة، مع المواطنين ومع الشرطة، وصراعات العسكريين مع المواطنين. ولم تكتفِ ببلوغ هذا الزخم من الصراعات الخارجية، وإنما تعدتها إلى الصراعات التي تدور في العوالم الداخلية للشخوص. وكان أغلب الصراع الداخلي من نصيب المرأة، وهي الشخصية المحورية في أغلب نصوص المجموعة، إذ انقسمت بين حب وكراهية، حقد وتسامح، رضوخ وتمرد، قيد وجموح. وعبر الصراعات الداخلية للشخوص، كشفت الكاتبة عن الكثير من قضايا المرأة النيجيرية، التي تعاني تمييزاً صارخاً، في مجتمع ذكوري، يستغل بعض رجاله النساء جنسياً، يفضل الذكر منذ نعومة أظافره باعتباره امتداداً لاسم عائلته وتخليداً لها. ولأسباب نفسية تحيل إلى عقدة أوديب، يصبح مدللاً من قبل الأم والجدة. ولأسباب اجتماعية، يكون المتحكم بموارد الأسرة، والمهيمن على مصائر أفرادها. وكان المونولوغ الداخلي، وسيلة الكاتبة لتبرز ذلك الشتات النفسي، والانقسامات التي عاشتها الشخوص.
مفارقات زمنية
عددت الكاتبة فضاءات السرد الزمنية في مجموعتها، فدارت أحداث بعض القصص في فترات مختلفة من القرن الماضي، ودارت أحداث قصة "المؤرخة العنيدة" في الماضي البعيد، قبيل حركة التبشير المسيحية في نيجيريا، وجهلت تشيماماندا الفضاء الزمني في قصص أخرى، لتشي بآنيتها واستمرارية حدوثها. أما تقنية الزمن في السياق السردي، فتنوعت كذلك بين سرد أفقي، وبين استرجاع "فلاش باك"، واستباقات زمنية تتنبأ بمستقبل الأحداث... "سوف تتخيل تشيكا رأس الرجل المقطوع، وملامحه الصفراء اصفرار الموت، وسوف تتقيأ وتعيد التقيؤ حتى تلتهب وتتقرح معدتها، لكنها الآن في هذه اللحظة، تسأل المرأة التي بجانبها: هل ما زلت تشمين رائحة الدخان؟" (ص50).
كان لدى أغلب الشخوص المحورية في المجموعة نزوع مثالي، فالمرأة صاحبة البطولة في معظم القصص عادة ما ترفض أن تحيد عن قيمها، أو تبيع جسدها مقابل أمان مادي، وإن خالفت الكاتبة ذلك في قصة "تقليد" وقصة "مدبرو الزواج" إذ تغاضت المرأة عن كبريائها، مقابل كفالة الزوج. وهي عادة شخصية محبة، معطاءة ومتفانية، ما عدا في قصة "الغد بعيد جداً"، إذ دبرت الطفلة الصغيرة مكيدة لإيذاء أخيها، أسفرت في النهاية عن موته. وهي شخصية ذات كبرياء، لا تتوسل بحزنها، للحصول على "فيزا" أميركية للجوء. وهي عنيدة في تطوير ذاتها، وفي إيمانها بوطنها وثقافتها، كما في قصة "المؤرخة العنيدة". وفي الحالات التي خالفت فيها الكاتبة ذلك النزوع المثالي لشخوصها المحورية، وصبغتها بالصبغة البشرية، وأبرزت نوازعها الرديئة، جعلت ذلك مبرراً بما يحتم التعاطف معها. وفي المقابل، قامت أديتشي بكسر النمطية، عبر بعض الشخوص المتحولة، التي غلفتها بالمفاجأة. وخالفت عبر تطورها ما هيأت له القارئ. فـ "نامابيا" في قصة "الزنزانة الرقم واحد"، يتحول داخل السجن - بعد متابعته إذلال الشرطة للرجل المسن ظلماً وقهراً- من شاب مستهتر، ذي تاريخ من اللصوصية والاحتيال والفساد، إلى شخص إنساني مسؤول، يتألم للضعيف ويثور من أجله.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استخدمت أديتشي تقنية الوصف بمستوياته الإبهارية والتفسيرية، وعززته بلغة مشهدية، أخلصت في تصوير المجتمع النيجيري، بما أتاح إمكانية الانتقال إلى نيجيريا، في حقب زمنية مختلفة. كذلك بلغت الكاتبة بالوصف مناطق عميقة من الشعور، فجسدت ما هو عصي على الرسم والتجسيد، إذ أعادت إنتاج المطر. وبثت الألم في مشهد الجثث المحترقة على الطرقات. جسدت الألفة في وجوه الباعة في الأسواق، استجداء المتسولين، الضجر المستشري نتيجة الاختناقات المرورية. وأكملت لوحتها بأشجار المانغو والجوافة وجوز الهند، الطعام النيجيري والأرز المطهو على الطريقة النيجيرية. كما طعمت نسيجها ببعض لمحات الفانتازيا، وأحياناً بالسخرية اللاذعة. ومثلما كان الوطن في بؤرة الضوء طوال الرحلة السردية على مدار قصص المجموعة، تشاركت القصص كلها نهايات مفتوحة، تشرك القارئ في فعل السرد. وتفسح للأمل موضع قدم، يتسلل عبره إلى الصورة ليناطح اليأس. يهيئ نهايات أخرى محتملة لأبطال الحكايات، وربما مصيراً آخر.