في اليابان، ثمة موسيقيون كثر تحولوا إلى شعراء وكتاب، لكن قلة من بينهم عرفت، بعد هذا التحول، الشهرة التي بلغها كو ماشيدا. مغنٍّ ومؤسس فرق موسيقية في بداياته، يتحلى هذا الفنان بـ"كاريزما" دفعت مخرجين سينمائيين مهمين في وطنه إلى دعوته إلى التمثيل في أفلامهم، وهو ما فعله أيضاً بمهارة، لكن من دون أن يشعر بدعوة عميقة إلى مزاولة هذا الفن. والسبب؟ شغفه الباكر بالكتابة الذي قاده إلى إصدار مجموعة شعرية عام 1992، استتبعها برواية بعنوان "مصائب مع قردي" (1998)، ثم برواية ثانية بعنوان "جعجعة" (2000) حصدت جائزة "أكوتاغاوا" العريقة، قبل أن يضع عام 2004 تحفته الأدبية "بانك ساموراي" التي صدرت ترجمتها الفرنسية أخيراً عن دار "أكت سود" الباريسية، وتشكل ملحمة هزلية عبثية تقع أحداثها في اليابان خلال العصور الوسطى، ولجأ ماشيدا فيها إلى صورة الساموراي لتصفية حساباته بطرافة نادرة مع الأشياء العديدة التي يمقتها في وطنه.
وتجدر الإشارة بداية إلى أن كلمة "ساموراي" لا تعني باليابانية المحارب بقدر ما تعني ذلك الذي يضع نفسه في الخدمة. بالتالي، الساموراي هو، إلى حد ما، معادل الفارس الشهم في ثقافتنا والثقافة الغربية، لالتزامه بقانون أخلاقي صارم وحميد يدعى "بوشيدو"، وهو أيضاً دائماً في خدمة سيد، وإلا لتعرض للنبذ. لكن بينما يشكل في المخيلة اليابانية الشخصية الأكثر نبلاً، يحضر في رواية ماشيدا كبطل مضاد يحمل اسم كاكاري جونوشين ويتقن استخدام السيف ببراعة، لكنه يعيش تائهاً ولا يملك أي واحدة من صفات النبل. وبما أنه في حاجة دائمة إلى سد رمقه، نراه لا يتردد، كلما سنحت الفرصة، في عرض خدماته مقابل مبلغ من المال، ويفعل أي شيء لحماية حياته ومصالحه الخاصة.
قتل مجاني
في مطلع الرواية، ومن دون سبب، يسحب جونوشين سيفه ويقتل بضربة واحدة عجوزاً بريئاً كان يسير في الشارع مع ابنته العمياء، ما يثير دهشة المارة. ولتبرير فعله أمام ساموراي يدعى شوميه ويتقدم نحوه لسؤاله عن سبب سلوكه هذا، يبتكر قصة خرافية مفادها أن الضحية كانت شخصاً خطيراً ينتمي إلى بدعة "هزازي البطون" التي تضم متعصبين دينيين خطرين باتوا منتشرين في كل أنحاء البلاد ويسببون اضطرابات لا حصر لها. وبما أنه يدعي أمام شوميه بأنه يعرف الكثير عن كيفية عمل هؤلاء الأشخاص وكيفية إبادتهم، يطلب هذا الأخير منه المساعدة لحماية معقله، إقليم كوروا، منهم، ويقدمه إلى سيده نايتو، وهو المستشار الأول لمجلس حكماء الإقليم.
لكن هل طائفة "هزازي البطون" حقيقية؟ وفقاً لتقارير جاسوس يوكله نايتو بالتحقيق في هذه المسألة في الأقاليم المجاورة، البدعة حقيقية لكن لم يعد لها أي أثر يذكر. ومع ذلك، يقرر المستشار استثمار هذه القصة وإعادة إحياء البدعة المذكورة ومخاطرها المزعومة للتخلص من أحد منافسيه وتعزيز موقعه في السلطة. ومن هذا المنطلق، يرسل جونوشين لمطاردة وجلب أحد مسؤولي "هزازي البطون" القدامى، برفقة الجاسوس المذكور وأحمق يتمتع بقدرة تحريك الأشياء ذهنياً ويصلح إذاً، في نظر نايتو، لإنجاز تلك "المعجزات" التي يحتاجها الناس لاعتناق دين جديد.
لكن ما انطلق في البداية ككذبة صاغها ساموراي عاطل عن العمل لتبرير جريمته، لا يلبث أن يتحول إلى حقيقة مخيفة. إذ ستتمدد طائفة "هزازي البطون" بسرعة داخل إقليم كوروا، بعد إعادة إحيائها، وتقلب أوضاعه رأساً على عقب، ناشرةً الفوضى في طريقها ومتسببةً بأعمال شغب وعمليات اغتيال وتخريب مرعبة. هكذا يوكل إلى جونوشين ومساعديه مهمة صد أولئك المتشددين الخطيرين الذين يؤمنون بأن عالمنا يكمن في معدة دودة عملاقة لا سبيل للخروج منها وبلوغ العالم الحقيقي إلا بتسبيب عسر هضم لهذه الدودة يجبرها على تقيُّئنا أو تغوطنا، كيف؟ بهز بطوننا باستمرار.
كائنات خارقة
لن نكشف مآل هذه المواجهة كي لا نفسد على القارئ متعة قراءة الرواية، لكن ما يمكننا أن نقوله هو أنه تنتظرنا داخلها حبال تتساقط من السماء، وعمليات تجسس متبادلة، وكائنات ذات قوة خارقة، وحتى قرد قادر على النطق يتصرف كإنسان ويقود جيشاً من القردة لمساعدة مسؤولي إقليم كوروا على التخلص من المتشددين وتحقيق طموحه في أن يصبح ساموراي. رواية هلسية إذاً تتألف من عناصر سردية غزيرة تبدو عند الوهلة الأولى متفرقة، لا رابط بينها، قبل أن يتبدد هذا الانطباع تدريجياً مع تقدمنا في القراءة ونستنتج مدى إحكام حبكتها، على الرغم من تعقيدها، والمغزى الذي تحمله حتى التفاصيل التي تبدو في البداية لنا مستحيلة أو غير مهمة أو ضرورية.
وبالنتيجة، نتلقى "بانك ساموراي" كـ"وليمة فرحة" يقدم صاحبها لنا خلالها "الأطباق" الأكثر فانتيزية بعد تتبيله إياها بصلصة حارة من مراجع ثقافية شعبية تتجاوز أحياناً نطاق اليابان، كأغاني بوب مارلي وفرانك زابا التي توقع النص. كوكتيل ملحمي يحاكي بسخرية كتاب "كوجيكي" الذي يجمع الأساطير التي تتعلق بأصول اليابان وآلهة الديانة الشنتوية، ويفجر بمزيج الأنواع ووفرة صور "البوب" المثيرة للضحك فيه الصورة التقليدية للساموراي، وثقافة القسوة والموت خلال مرحلة الحكم الإقطاعي الطويلة في تاريخ اليابان، عموماً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفعلاً، بسبب انعدام الحروب في زمن الرواية، يهبط محاربو الساموراي فيها إلى مرتبة القتلة المستقلين، مثل جونوشين، أو يتسلقون الرتب عن طريق نشر القضبان التي يقف عليها من هم فوقهم، مثل نايتو، أو يمضون وقتهم في الأكل والشرب والفرار من التزاماتهم، وفي مواجهة الخطر، يذهب بعضهم إلى حد التبويل في سرواله. وقد يبدو ذلك سخيفاً أو سطحياً في الظاهر، لكن طريقة معالجته الطريفة والحاذقة تجعله ممتعاً إلى أبعد حد وتعدنا بلحظات نادرة من الهذيان المبتهج.
باختصار، رواية نادرة الفتنة سواء بصرحها المشيد بعبقرية، أو بقصتها التي لا رأس لها ولا ذيل، أو بالحوارات العبثية والفكاهية التي تطعم نصها وتسهم في تجسيد شخصياتها بقوة، أو بالمفارقات اللغوية الغزيرة التي لجأ ماشيدا إليها وتقوم على استخدامه مفردات وعبارات لا تنتمي إلى زمن الرواية، بل غالباً إلى زمننا الراهن، وعموماً بالتنوع الأسلوبي الذي اعتمده فيها وينم عن جرأة ولذة كبيرتين في الكتابة والسرد.
رواية لا تسير إذاً بعكس الأعراف الأدبية والاجتماعية فحسب، بل تهزأ منها بطرافة ناجعة، متأرجحة بلا هوادة بين سياق تاريخي محدد وظرف خيالي يثير الفتنة والعجب. وفي حال أضفنا استحضارها إلى أذهاننا، لدى قراءتها، تارة ماكيافيلي في موضوع السلطة، وتارة ثربانتس في البحث المستحيل لبطله دون كيخوته، وتارة أفلام كوينتن تارانتينو في مواقفها الجنونية والغريبة، لتبينت لنا كل قيمتها.